علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

كيف للعقل الأدنى أن يجدّد أمر الدين؟

تقصد هذه المقالة متاخمة التجديد في الفكر الديني بوصفه أطروحة نشأت من أرض الحداثة الغربية، ثم تمدَّدت إلى الفضاء الفكري في العالَمَين العربي والإسلامي. يبدو لي تلقاء هذه المتاخمة أننا بإزاء مشكلة تحولت مع تواتر الجدل بشأنها إلى معضلة مركبَّة: أنطولوجية ومعرفية. فلو كان من توصيف معاصر لهذه المعضلة لتبدَّت على نحو صريح في أدبيات الحداثة منذ اللحظة التي انقلبت فيها الأخيرة على معارف القرون الوسطى، لتختم الالتقاء الودود بين الَّلاهوت المسيحي وعقل الإغريق.

ولسوف نكون على حذرٍ مقيم حين نعاين حقلاً رمادياً بدا فيه المفهوم والتجربة معاً مثقلين بالالتباس والغموض. نقول هذا لدواعٍ نبسطها بالمجمل في ما يلي: أولها، ما يفترضه المنشأ الجيو - حضاري الغربي الذي ولدت فيه الإصلاح الديني.. ثانيها: نظرية المعرفة التي اعتُمدت لمقاربة الدين كموضوع للبحث.. وثالثها، اللوابس والتأويلات المكثَّفة التي ظلَّلت المفهوم، بما ترتب عليه من سوء استعمال في الفضاء العربي والإسلامي.. أما رابعها، – وهو الذي يضاعف من الحذر والاحتراز – فمفاده أن دعوى التجديد غالباً ما أُخِذت في مجتمعاتنا كمقولة معيارية “بريئة” أو محايدة، تماماً كما يحصل في العادة من إسقاطات مفاهيمية في معرض الانشغال بموضوعات الدين كحقلٍ مستحدثٍ في ميتافيزيقا الحداثة.

 

لا تنأى حكاية التجديد في الدين، أو تجديد الفكر الديني عن حزمة المفاهيم التي اكتظَّ بها تاريخ الحداثة سحابة ستة قرون متصلة. فلاسفة الغرب الذي اشتغلوا على هذه الحكاية لم يفارقوا فضاء النظر إلى الدين بوصفه ظاهرة “أرضانية” معزولة عن بعدها الغيبي. عند هؤلاء، لا شيء يعوَّل عليه إلا ما ينالُه المنطق الوضعي والعلوم التجريبية بالإحاطة والفهم. من هذا النحو سنرى كيف انبسطت قضية الإيمان الديني، على هَدْيِ عقل حصري يكتفي بمعاينتها كظاهرة محض دنيوية.

أكثر ما فعله الظواهريون الغربيون أنهم نظروا إلى الدين باعتباره الصورة العليا من صور الوعي بالذات، وأن الإيمان برأيهم لا يوجد خارج الوعي الإنساني، ولا ينمو ويحيا إلاَّ داخل هذا الوعي. بل إن هؤلاء سيمضون إلى ما هو أبعد، ليقرروا أن الإيمان الديني ليس سوى وعيٍ نائمٍ، تلقاء وعيٍ يَقِظٍ أطلقته فلسفة التنوير. وأما النتيجة التي غالباً ما انتهوا إليها بعد لَأيٍ، هي أن فكرة الإنسان عن الله ليست إلا مرآة تعكس فكرة الإنسان عن نفسه. وهكذا جرى راح التعامل مع الدين ومعطياته الإيمانية والأخلاقية والسلوكية تبعاً لمعايير (الأنسنة المطلقة). وهذا الذي يفسر إجماع رواد التنوير الأوروبي على إخضاع كل شيء لمنهج تاريخاني، لا ينظر إلى الإنسان إلا باعتباره محور الدين وجوهره، ولا ينظر إلى الدين إلا بما هو المرآة التي تتراءى فيها صفات النوع البشري…

 

حاصل مثل هذا التنظير المؤسَّس على “وثنية العقل الأدنى” سيفضي إلى معاملة الحداثة للدين بوصفه قضية فينومينولوجية خالصة. ربما لهذا السبب ستنشئ أجهزة الحداثة فرعاً ميتافيزيقياً مستحدثاً سمَّوه فلسفة الدين وأوكلوا إليه مهمة تعريف الروحانية الدينية بعقلانية صمَّاء، أهملت أبعادها الأنطولوجية إهمالاً مطلقاً. وسيتبيَّن لنا كيف ستؤول مقولة التجربة الدينية – على سبيل التمثيل- إلى الحقل المعرفي الأكثر تناغماً مع ما ذهب إليه فلاسفة الدين في الغرب. لقد ألقى هذا الحقل بظلِّه الثقيل على القضية الدينية ليُسقِطَ عليها قِيَمَه ومعاييره الكبرى، وعلى الأخص منها تاريخانية الإيمان وفينومينولوجيته، وما نجم عن هذين المعيارين من نظريات أنثروبولوجية (علم الإنسان) حيث لا يُرى إلى الدين إلا بوصفه منجزاً بشرياً وحسب.

تلك كانت الإرهاصات الممهِّدة التي تشكلت على أسسها معضلة التفكير الميتافيزيقي الحداثي حيال الدين. وهي في كل حال، معضلة قديمة العهد، تضرب جذورها عميقاً في أرض الإغريق من قبل أن تتمدَّد إلى أرض الحداثات المتعاقبة. لعل أظهر في تداعيات هذه المعضلة، أن التنظيرات التي دارت في رحاب ما سمي بـ(فلسفة الدين)، لم تفلح في ملامسة الأفق الميتافيزيقي للدين، كما تعذَّر عليها إدراك جوهره المتعالي. ولـمَّا استشعرت فلسفة الدين عجزها عن استكشاف ما تنطوي عليه المعارف الوحيانية، طفقت تقاربها كقضية فينومينولوجية. وللتبيين نشير إلى أن الفينومينولوجيا ليست محايدة، وهي لا تدل على أنها علم مخصوص، وإنما تومئ إلى منهج غير منفصل عن سلالات العقل الأدنى ومنطقه. وهكذا جاءت النتائج الحاصلة عن اشتغالات المنهج الفينومينولوجي متحيِّزة، بل وخادمة للوضعانية بأشكالها ومذاهبها كافة.

 

لم تكن الأطروحة الدينية في تفكير الحداثات المتتالية إلا ثمرة تأويلية لمعنى الظاهرة. فهي بحسب منطق العقل الأدنى إما أنها وُلدَت من تلقاء نفسها، وبذلك تكون فاقدة لبعدها الوحياني، وإما أن يُرى إليها كظهور تاريخي بادٍ للعيان مثل كل ظاهرة اجتماعية. وفي هذه الحال تبقى الحصيلة المنطقية هي هي. فلو كان لنا أن نستحضر على وجه الإجمال السياقات التي قوربت فيها الروحانية الدينية في هذا المجال، لوجدنا أنها احتلت مكانة مخصوصة في أعمال فلاسفة الدين وعلماء الاجتماع من أهل المذهب الظواهري. غير أن القسط الأعظم من هذه الأعمال، وعلى الرغم من إيلاء التجارب والاختبارات الدينية مكانة استثنائية من البحث العلمي، فقد ظلت أسيرة الأحكام الكلية للوضعانية. في هذا المجال سيكون لنا أن نحيل ولو نحو مقتضب الى المفارقة التالية: لقد حظيت المسألة الدينية بوجهيها الأنطولوجي والتاريخي بشغف مخصوص من جانب فلاسفة وسوسيولوجيين اختصموا مع الإيمان الديني، وسلكوا سبيل الَّلاأدرية والوضعانية وصولاً إلى الإلحاد. وهذا لو دلَّ على أمر، فعلى المشقة الكبرى التي ستواجههم حيال ظاهرة استعصت على أفهام العقل الحديث ومنهجه الانحصاري.

من السّمات الَّلافتة التي نجمت عن دراسات التجربة الدينية في الغرب، أن هذه الأخيرة اتخذت سياقات متناقضة. فقد توسعت دائرة الاشتغال عليها لتصل إلى دوائر الهرمنيوطيقا واللاَّهوت. وعلى الرغم مما فعله التكيُّف المديد الذي أجرته الكاثوليكية لصالح العلمنة، ومن قبل ذلك ما فعله الإصلاح البروتستانتي، لجهة ما سمي بـ “الدين المدني”، كان ثمة مطارحات جادة تنقض المقاربات العَلمانية للدين. ولقد بدت الصورة على الوجه التالي: تلقاء الرؤية الوضعانية التي ملأت الحقل المعرفي لفلسفة الدين بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، سنجد من يمضي إلى المجاوزة ليرى أن للتجربة الدينية وجهين متلازمين: وجهٌ متصلٌ بسوسيولوجيا الحياة وتحيُّزاتها الثقافية والحضارية، ووجهٌ منوطٌ بالتطلع إلى فهم المتعالي والقدير والمعتني بالإنسان والكون. فالتجربة بما هي تجربة تحتمل الصواب والخطأ أنَّى كان الحقل الذي تقع فيه.

 

من البيِّن أن فلاسفة الدين الذين اتخذوا لأعمالهم نسقاً مغايراً للظواهرية، خاضوا سجالاً لم ينتهِ بعد، ضد الذين يزعمون أن “الحق” غير معروف، ويبتنون على هذا الزعم بأن الحق غير موجود. ولنا أن نستعيد بعضاً من خلاصات السجال المشار إليه: الله لا يوجد أعظم منه يمكن أن يكون مقنعاً، وثمة من يمضي في السياق إياه ليرى، أن لله صفتين أساسيتين: الأولى أنه أساس الخبرة الدينية ومحورها. والثانية، أنه سبب التحول الديني من مركزية الذات إلى مركزية الحقيقة. أما المراد من ذلك كله فهو الإمساك برؤيتين متعارضتين في الوقت عينه: من ناحية يرى هؤلاء أن “الحق” وراء مجال الفكر والخبرة الإنسانية، بينما يستخدم في الوقت عينه العديد من المفاهيم الإنسانية مثل الأساس، والحق، والواحد.

لو قاربنا القضية الدينية في مسرى التاريخ فسنرى حقلاً أكثر سعة ورحابة قياساً بتجربة الإيمان الفردية. والتجربة ههنا هي تلك التي تعكسها تجارب شعوب وحضارات متباعدة في عقائدها الدينية إلا أنها تلتقي في فضاء روحي ومعنوي وأخلاقي مشترك. مثل هذا الفضاء سيكون مدار أبحاث معمَّقة في الأنثروبولوجيا وفلسفة الدين ولدى عدد من كبار اللاّهوتيين الغربيين.

 

وفقاً لهؤلاء، دلّت الاختبارات الروحية على أن فهم الأمر القدسي وإدراك أسراره يمكث في المنطقة العليا من الإيمان. وهي الدرجة التي يصل إليها المؤمنون من خلال إيمانهم بالغيب إلى معرفة أنفسهم، ومعرفة الموجودات وصولاً إلى معرفة الله. والذين يصلون إلى هذه الدرجة المتعالية، هم الذين يطلق على كل فرد منهم صفة العارف أو الإنسان السالك نحو الكمال. وإذن فهو في حالة انسجام ووئام في عيشه لإيمانه ولو ظن الآخرون خلاف ذلك. وعليه، فإن إيمان المؤمن بما يؤمن لا يمكن وصفه وتحديده إلا في إطار ما هو مشترك مع الجماعة المؤمنة. فالإيمان ليس مجرد ظاهرة تماثل الظاهرات الطبيعية الأخرى، وإنما هو الظاهرة المركزية في حياة الإنسان الشخصية الجلية والخفية في الوقت نفسه. فالإيمان هو إمكانية جوهرية للإنسان، ولذلك فوجوده ضروري وكلي، وهو ممكن وضروري أيضاً في كل زمان ومكان. ولأن للإيمان نبوت فطري لماهية الكائن الآدمي، فلا يمكن إذّاك أن يثلمه العلم الحديث أو أي نوع من الفلسفة. ولعل المفارقة التي تفترضها واقعية الإيمان أن الذين يرفضونها إنما يعبِّرون عن إيمان ما، ولو كان هذا الإيمان بقضايا تنتمي إلى دنيا المحسوسات وعالم الأفكار.

جمعٌ من علماء اللاَّهوت في الغرب ممن جاوزوا الرؤية التاريخانية الوضعية للدين، لاحظوا هذه الجدلية العميقة بين الإيمان والعقل، إلا أنهم سيوضحون مسألة مهمة غالباً ما تخللَّها اللبس والغموض. فعلى الرغم من يقينهم بملازمة الإيمان للعقل في جميع أطواره إلا أن ثمة أطواراً تمتنع فيها التجارب على التفسير العقلي. والسبب يعود إلى وقوعها فوق حقل المفاهيم التي تنتمي إلى منحوتات العقل الأدنى. ولعل سبب عجز الفهم البشري عن إدراك اختبارات الأمر القدسي هو أن القوانين المنطقية الحاكمة على مجال الفهم الإنساني لا استخدام لها في نطاق هذه الاختبارات.

 

ماذا الآن من دعوى التجديد الديني  التي لا تزال سارية عندنا منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى يومنا الحاضر؟

من البيِّن أن دعوة التجديد الديني في الفضاء المسلم المعاصر هي دعوة حداثية تعادل نظرية الإصلاح الديني التي أطلقتها البروتستانتية تحت تأثير علمانيات عصري النهضة والتنوير في أوروبا. والتعادل هنا لا يتأتى من تشابه التجربة في سياقها التاريخي والمعرفي وإنما من النزعة العلمانية التي تسللت إلى الدعوتين رغم خصوصية كل منهما. أما السؤال الذي ينبغي أن يكون موضع عناية وتدبُّر على المستويين الأنطولوجي والمعرفي هو التالي: إلى أي حد تقترب دعوى التجديد الديني في المنفسح الفكري العربي والإسلامي، من نظرية علمنة الدين التي ملأت أرض الحداثة بضوضائها على امتداد قرون خلت؟..

للإجابة على هذا السؤال مقام آخر في مشاغل التفكير…

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد