علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

معضلة الميتافيزيقا، العقل الأدنى هو نفسه من الإغريق إلى ما بعد الحداثة (3)

هيغل ذروة اضطراب الميتافيزيقا المعاصرة

وَرِث هيغل عن الأسلاف معثرته الكبرى. فكان بذلك أرسطيًّا بقدر ما كان ديكارتيًّا وكانطيًّا في اختباراته الفلسفية. من بعدِ ما أضناه مبحثُ الوجود بذاته سيُعرض هيغل عن ورطته اللَّاهوتية ليحكم على الوجود بالخلاء المشوب بالعدم. فلا وجود عنده إلا ما هو ظاهرٌ وواقعٌ تحت مرمى الأعين. ولقد ابتنى منظومته الفلسفيّة الأنطولوجيّة والسياسيّة على فرضيّته الشهيرة: كل ما هو واقعي هو عقلاني، وكل ما يعقله العقل لا  بد من أن يكون واقعيًّا. وفي هذا لم يأتِ بجديد يَفْرُق بينه وبين السلف. ليس ثمة على ما يبدو من مائز جوهري بينه وبينهم. أخذ عنهم دربتهم ثم عكف على مجاوزتهم حتّى اختلط الأمر عليه حدّ الشبهة. آمن هيغل بالوجود ثم اخضعه للديالكتيك. هذه المرة على خلاف ما استلهمه من جوهر الإيمان المسيحي. لم يفعل ذلك من أجل توكيد كفاية الوجود لذاته بذاته، بل للتقرير أنه متناقض في ذاته. ومعنى هذا- كما يبيِّن في مدّعاه- أن وجود المجرّد – قبل وجود الطبيعة – يحتمل ألا يكون موجودًا وموجودًا في الآن عينه. أي أنّه ينطوي هو نفسه على الوجود واللّاوجود في الآن عينه. والحال فقد اصطدم كل من هذين النقيضين في نظامه الفلسفي لينجم عن ذلك أن تحوَّلَ فكرُه بكامله إلى ظواهر الموجودات، ثم ليسري مذهبه التناقضي إلى كل موجود، سواء كان طبيعة أم إنسانًا أو مجتمعًا.

 

من المفيد ذكر أن إحدى أبرز النظريّات التي طرحها هيغل هي نفي (الوجود المحض) جملةً وتفصيلًا. ذلك لاعتقاده أن كلّ وجودٍ إنّما ينشأ إثر تركيبه مع العدم. بمعنى أنّ الوجود والعدم يجتمعان ليتمخّض عنهما الوجود الطبيعي. ولقد سعى الرجل إلى توليفٍ ملتبسٍ يجتمع فيه الضدان والنقيضان، ثم ليكون هذا التوليف مؤسَّسًا على فرضيتين أساسيتين:

الأولى: أن كل شيء يكون موجودًا ومعدومًا في آن واحد.

والثانية: أن التناقض في الموجودات هو أساس حركتها وتكاملها.

 

هايدغر كانعطاف معاكس

كان بديهيًّا بإزاء التهافت المتواتر لميتافيزيقا الحداثة، أن تنفتح دروب على “ما بعديات” تتغيّا الأخذ بناصية التفلسف نحو مراجعات تعيد القول الفلسفي إلى منطقة التأسيس. قد تكون محاولات الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر إحدى أهم وأعمق المراجعات التي عصفت بالتقليد الفلسفي الغربي.

بدت مساعي هايدغر على خلاف ما اقترفه السابقون عليه. قد يكون سؤاله الأثير عن السبب الذي أفضى إلى وجود الوجودات بدلًا من العدم، دليلًا على ذهابه إلى السؤال المؤسِّس. الإجابة كانت بديهية من طرف هايدغر: إن الشيء الذي يناقض نفسه لا يمكن أن يكون أو يوجد. لكأنما يرد على هيغل من دون أن يسمّيه؛ ثم يضيف متعجِّبًا: كيف يكون هناك وجود محدّد وغير محدّد في آن واحد. ومن جهتنا نضيف: كيف لهيغل أن يرتضي لنفسه السؤال عن شيء ليس موجودًا؟

استعاد هايدغر ما سبق وما لَحِق من أسئلة الميتافيزيقا، ثم استودعها “حاضرته” الفائضة بالإبهام. فليس من غرابةٍ إذًا، أن نرى إلى مختبر أفكاره كمستودع يحوي العناوين الكبرى التي أنجزتها الفلسفة، على تعاقب أطوارها، وتنوع مدارسها وتياراتها[19].

 

شُغلُه باستعادة الأسئلة الماضية الحاضرة، لم يكن لأجل تفكيكها أو انتقادها تمهيدًا للتبرُّؤ منها، وإنما لتكون له ممرًا إجباريًّا لمجاوزتها وإعادة تظهيرها وفقَ ما يختزنه مشروعه من إنشاء فلسفي متجدد. أفصح هايدغر عن ذلك لـمَّا أشار إلى صعوبة الكتابة من خارج أفق الميتافيزيقا، وحجَّتُه أن الاعتناء بالسؤال المؤسس- أي ذاك الذي يستفهم حقيقة الوجود- يستحيل أن يُنجز بمعزلٍ عن عالم الواقع، الذي يشكل برأيه أفق الدلالة الشاملة للذّات الحيّة، والذي في مجاله تتحقَّق الخبرة الإنسانية.

لم يقطع هايدغر مع الميتافيزيقا الكلاسيكية التي اكتفت بالاعتناء بالموجود، بل دعا إلى اجتيازها من خلال العودة إلى السؤال الأصيل عن وجودٍ لفَّهُ النسيانُ. لأجل ذلك راحت منظومته تنمو وتتكامل على امتداد انعطافات أربعة:

الأول: حين توقف مليًّا عند معنى واجب الوجود.

الثاني: لـمَّا سعى إلى تجاوز وهن الميتافيزيقا وفقرها الوجودي. كانت دعوته حالذاك متّجهة إلى نقل الهمّ الميتافيزيقي من حيِّز الاعتناء بالماهيّات نحو فضاءِ العنايةِ بالوجودِ وأصالتهِ.

الثالث: لـمَّا استدرجه السؤال عن حقيقة الوجود إلى قلق طاول قاع النفس والفكر، وبسببه طفق يبحث عن مَلَكَاتٍ أخرى غير مرئية في الروح الإنسانية لتكون البديل من العقلانية المتشيّئة لميتافيزيقا الحداثة.

الرابع: حَيْرتُه في الإشراقات التي وجد أن الكينونة تَهَبُها للإنسان لكي يهتدي بها إلى صواب الضمير[20].

 

إذا كانت مهمة هايدغر الأولى مجاوزة الميتافيزيقا بداعي انئخاذها بالموجود، وغفلتها عن الحقيقة الأصلية للوجود، فمثل هذه المهمة لا تلبث حتى تتضاعف تحيُّرًا حين تعلم أن تلك “الغافلة عن أصلها” لـمَّا تزل تحتل مساحة العالم وتقرر مصائر أهله. ذاك أن عصر الانتقال من الميتافيزيقا المكتفية بعالم الحواس إلى ما فوقها، يتم بصوت خفيض أمام ضوضاء التقنية وسيطرتها المطلقة. في هذه الحقبة من تطوّر الميتافيزيقا يصبح الكائن الإنساني في وضعيّة حدِّية وحرجة: من ناحية تجعله يستسلم لجنون الهيمنة، ومن ناحية أخرى يتنبَّه إلى وجوب أن يأخذ قسطه من مسؤولية كشف الواقع الذي هو فيه. والكشف هنا هو إزاحة السِّتر عما يمارسه العقل التقني، إلى الحد الذي يجعل انتماء الإنسان للوجود يعلن عن نفسه عبر استشعاره للخطر. وهذا الإنسان هو نفسه الذي سيطلق عليه هايدغر اسم “الدازاين” أو”الكائن الإنساني الباحث عن سر حضوره في العالم”، وهو ما حاول التفكير فيه تفكيرًا خاصًّا عبر ما سمَّاه (الإيرأيغنيس Ereignis). أو “الانبثاق الكبير”[21]…

لم يفارق هايدغر أسئلة الميتافيزيقا الصمّاء، لكنه لم يسكن إليها، وإنما ساكَنَهَا على سبيل المجاراة والوفاء لقربى قديمة. أما ما ستؤول إليه رغائبه فذلك ما ستفي به إلقاءات السنين الأخيرة من عمره.

لن نقول إن هايدغر بلغ المكان الآمن في الحضرة. لقد مضى بالبذل طلبًا لهذا المبتغى. لكنه اتجه شطر الألوهي بشقّ النفس.. إلى أن وجدناه بعد طوافه الأخير في صحراء الميتافيزيقا الظمأى يعلن أن بإمكان: “الله وحده أن يمنحنا النجاة”… وما كنا لنستحضر التنظير الهايدغري هذا، إلا باعتبار ما “اقترفه من شَغَبٍ فريد” في تاريخ الميتافيزيقا الغربية. فالمحصول الذي زوَّدنا به كان أدنى إلى “جيولوجيا فلسفية” أسهمت إلى حدٍّ وازن في زعزعة أركان العقل الأداتي للحداثة الغربيّة، وأطلقت ما يمكن اعتباره ما بعد الغرب الفلسفي.

 

إرهاصات لميتافيزيقا مابعديّة

الأثر البيِّن لمعاثر الميتافيزيقا في الغرب سيظهر في ملحمة الاحتدام بين الإيمان الديني والعقل العلمي. فلقد جاءت أطروحة التناقض بين العقل والإيمان الديني كتمثيل بيِّن على مأزق مشروع التنوير الذي افتتحته الحداثة في مقتبل عمرها. وسيأتي من فضاء الغرب نفسه من يُساجل أهل الأطروحة ليُبيِّن أن الإيمان لو كان نقيضًا للعقل لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمِّر في المقابل نفسه ويدمِّر إنسانية الإنسان، إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على أن يكون لديه همٌّ أقصى، أي أن يكون شغوفًا بالله والإنسان في آن، وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطي الثنائية السلبية التي تصنع القطيعة بين طرفيها. وحدُه من يمتلك ملكة “العقل الخلاَّق” ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية ـ هو الذي يفلح بفتح منفذٍ فسيح يصل بين الواقع الفيزيائي للإنسان وحضـور المقـدَّس في حياته. وما نعنيــه بالعقل الخلاَّق هـو العقــل الذي يشكِّل البنية المعنويــة للذهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنية بحتة.

 

وبهذا المعنى، يصير العقل شرطًا تأسيسيًّا للإيمان: ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الانجذابية إلى ما وراء ذاته، أي إلى ما بعد أنانيته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والجود والغيرية. بتوضيح آخر، أن عقل الإنسان متناهٍ ومحدود، ويتحرك داخل علاقات متناهية ومحددة حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها الإنسان عالمه هذه الخاصية في التناهي والمحدودية. لكن العقل ليس مقيدًا بتناهيه، بل هو يعيه، وبهذا الوعي يرتفع فوقه وعندها يجرب الإنسان انتماءً إلى اللَّامتناهي الذي هو مع ذلك ليس جزءًا منه ولا يقع في متناوله، ولكن لا بد له من الاستحواذ عليه. وحين يستحوذ على الإنسان يصير بالنسبة إليه همًّا لا متناهيًا أي مقدسًا ونبيلًا. وحين يكون العقل ـ بهذه الصيرورة ـ مسلّمة للإيمان، يكون بهذا المعنى تحققًا للعقل. ومقام الإيمان بوصفه حالة همّ أقصى هو نفسه مقام العقل في طور نشوته الانجذابية. والنتيجة أن لا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل بل يقع كل منهما في داخل الآخر[22].

 

هل تعني عودة القضية الدينية إلى المجتمعات العالمية، والمجتمعات الغربية على وجه الخصوص، غياب العلمانية أو انكفاءها عن حضورها التاريخي؟

الجواب الابتدائي كما تشير إليه صورة النقاش بين النخب الغربية نفسها لا تقر بمثل هذه المعادلة. لذا ستأخذ حلقات التفكير مسارًا آخر لا يقوم على قانون النفي والإثبات، وإنما على سعي للعثور على منطقة وسطى تؤسس لتسوية المشكلة.

لا ريب في أن “رجوع الديني”، هو عنوان إشكالي ستكون له آثاره البيِّنة على المفاهيم والأفكار والقيم التي تجتاح المجتمعات الغربية اليوم. من بين تلك الآثار ما ينبري إلى تداوله جمعٌ من فلاسفة ومفكري الغرب سعيًا للعثور على منظور معرفي يُنهي الاختصام المديد بين الدين والعلمنة. والذي تسالَمَ عليه الجمعُ في ما عرف بنظرية “ما بعد العلمانية”، هو أحد أكثر النوافذ المقترحة حساسية في هذا الاتجاه. ما يعزز آمال القائلين بهذه النظرية أن أوروبا الغنية بالميراثين العلماني والديني قادرة على إبداع صيغة تناظر تجمع الميراثين معًا بعد فِرقة طال أمدها. ربما هذا هو السبب الذي لأجله ذهب بعض منظِّري “ما بعد العلمانية” ـ ومنهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ـ إلى وجوب تخصيص إطار مرجعي يحضن أهل الديانات وأتباع العلمنة سواء بسواء بغية العيش المتناغم في أوروبا تعدُّدية.

 

شغف التساؤل حول صيرورة الاحتدام بين العقل والدين ومآلاته، لم يتوقف عند هذا المفرق.. كان ثمة منحى آخر تترجمه المحاورات الهادئة بين اللاَّهوت والفلسفة. واللقاء المثير الذي جمع قبل بضعة أعوام البابا بينيدكتوس السادس عشر إلى الفيلسوف هابرماس[23]، شكَّل في العمق أحد أبرز منعطفات التحاور الخلاّق بين الإيمان الديني والعلمنة في أوروبا. ومع أن اللقاء لم يسفر يومئذٍ عما يمكن اعتباره ميثاقًا أوليًّا للمصالحة بين التفكير اللَّاهوتي والتفكير العلماني، إلا أنه أطلق جدلًا قد لا ينتهي إلى مستقر في الأمد المنظور.

اللقاء الفريد بين الرجلين ظَهَّرَ المسلَّمات التي ينبغي الأخذ بها لتحصين كرامة الإنسان في زمن بلغت فيه اختبارات الحداثة حدَّ التهافت. وجد هابرماس في العقل العملي لـ”الفكر ما بعد الميتافيزيقي العلماني” نافذة نجاة.. بينما وجده البابا بنيديكتوس في الإنسان كمخلوق إلهي. يومها اعترف هابرماس باستعداد الفلسفة التعلُّم من الدين. كان لسان حاله يقول: ما دام العقل لم يستطع القضاء على الوحي في فضاء علماني، فليهتم الفيلسوف بالإيمان عوض الاستمرار في الحرب معه. ثم أصرَّ على ضرورة أن توليَ الدولة المشرِّعة للقوانين كل الثقافات والتمثُّلات الدينية عنايتها، وأن تعترفَ لها بفضاء خاص في إطار ما سمَّاه بالوعي “ما بعد العلمانيّ” للمجتمع. أما إجمالي ما ذهب إليه البابا فهو دعوته إلى تحصين الحضارة الغربية المعاصرة عبر خمس ركائز: التعاون بين العقل والإيمان ـ مواجهة التحديات الجديدة التي تواجه الإنسان ـ فكرة الحق الطبيعي كحق عقلي ـ التعدد الثقافي كفضاء لارتباط العقل والإيمان ـ العقل والإيمان مدعوان لتنظيف وإشفاء بعضهما البعض[24]…

 

لو كان لنا من عبرةٍ تُستخلَصُ مما دار بين اللَّاهوتي والفيلسوف، لقلنا إن ما حصل هو أشبه بإجراء ينبئ عن انصرام تاريخ غربي كامل من الجدل المزمن حول “بِدعة” الاختصام بين الوحي والعقل. لكن ماذا لو افترضنا بناءً على ما مرّ، أن تكون صنيعة ما بعد العلمانية هي منطقة التوسُّط الفضلى بين نقيضين شكَّلا محور اهتمام مثل سواها من المفاهيم التي استحدثتها الحداثة يجري القول على فكرة “ما بعد العلمانية” مجرى البدايات والنهايات، أي على بَدءٍ جديد يلي انتهاءات مضت. والأحاديث عن موت المفاهيم في ثقافة الغرب عمرُها عمرُ الحداثة. أحاديث لم يتوقف سَيلُها منذ أول نقدٍ “لتنويرٍ” مالت شمسُه إلى المغيب مع المنعطف الميتافيزيقي الذي قاده كانط وهو يعاين معاثر العقل المحض وعيوبه. لم يكن شغف العقل الحداثي بختم المفاهيم والإعلان عن نهايتها، إلا لرغبة ببدءٍ جديد. فالتاريخ ليس حركة انتقال من الخواء إلى الملاء، وإنما هو امتدادٌ جوهريٌّ بين الما قبل والما بعد. فكل مقالة عن نهاية أمرٍ ما، إنما هي ضربٌ من إعلان مضمر عن بَدءٍ لأمر تالٍ من دون الحكم عليه بالبطلان. في ذلك شَبَهٌ ـ بنسبة ما ـ مع تنظير هايدغر حول نهاية الميتافيزيقا ليُظهر أن إنهاءها هو التملك الفعلي لها وليس نبذها أو الإطاحة بها. فالانسحاب والتواري داخل السلالة الواحدة لا يدل بالضرورة على فعليْن متناقضيْن يريد كلٌّ منهم نفي نظيره[25].

 

لذا، فإن المسرى الامتدادي بين الما قبل والما بعد لا ينشط على سياق آليّ، كأن يتحرك من النقطة ألِف إلى النقطة ياء من دون أخذ وعطاء، فذلك ليس من طبيعة المسرى الذي نحن في صدده، وإنما هو فعالية متضمَّنة في جوهر حركة التاريخ التي تتأبَّى على الانقطاع والفراغ.

كل ما جاء به العقل الغربي من محاجَّات، فإنما من تضخم الذات التي أسلمت نفسها لمسلمتين سحابة أربعة قرون خلت:

1 – مسلَّمة العلم التي تقرر أن العلم والتفكير العلمي قادران لوحدهما أن يحدِّدا كل ما علينا أن نتقبَّله على أنه حقيقي، وأن كل شيء يجب أن يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أو أي فرع آخر من فروع العلم، أما الروحانيات وحتى الشعور بالجمال والحدس والعاطفة والأخلاقيات، فقد اختزلتها النظرة العقلانية إلى مجرد متغيِّرات في كيمياء الدماغ تتفاعل مع مجموعة من القوانين الميكرو ـ بيولوجية المرتبطة بتطوّر الإنسان.

2 – مسلَّمة الهيمنة والاستحواذ، لـمَّا رأت أن الهدف من العلم – كما يقول فرانسيس بيكون – هو التحكم بالعالم الخارجي واستغلال الطبيعة، والسعي الحثيث إلى جلب المنافع أنَّى وُجِدَت…

من أجل ذلك سيكشف مسار الحداثة الفائضة عن خراب مبين في اليقين الجمعي سيُعرِّفُهُ عالم الاجتماع الألماني دوركهايم بـ”هيكل الشرك الحديث”. وهذا هو في الواقع، ما تستجليه عقيدة الفرد وشخصانيته المطلقة. فالشكل العبادي للشرك الحديث ـ كما ألمحَ دوركهايم ـ ليس الوثنية بل النرجسية البشرية، حيث بلغ تضخُّم الذات لديها منزلة الذروة في زمن الليبرالية المطلقة.

لقد ظهر في اختبارات الحداثة وامتداداتها المعاصرة أن ليس للمقدَّس لدى “العِلْموية” بصيغتها الإلحادية من محل. وهنا على وجه الضبط تكمن إحدى أهم خاصِّيات التهافت في الفكرة الإلحادية، نعني بذلك نظرها إلى الإنسان كشيء زائل ككل الموجودات الزائلة، حيث لا يعود المتعالي الإلهي بالنسبة إليها غير وهم محض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[19] أنظر مارتن هايدغر، الكينونة والزمان

Heidegger, Being and Time. Translated By John Maquarrie and Edward Robinson, New York, Harper, 1962.

[20] محمود حيدر، هايدغر.. الفيلسوف الحائر في الحضرة، فصلية “الاستغراب”، العدد الخامس، السنة الثانية، بيروت- خريف 2018.

[21] مارتن هايدغر، رسالة في الأنسية- الأعمال الكاملة، الجزء التاسع، فرانكفورت- ألمانيا، 1976، الصفحة 342.

[22] بول تيليتش، بواعث الإيمان، ترجمة: سعد الغانمي، (بيروت: دار الجمل، 2005)، الصفحة 120.

[23] حصل هذا اللقاء التاريخي بين هابرماس واللَّاهوتي جوزيف راتسينغر(البابا بنيديكتوس) في بداية العام 2004، وجرى تنظيمه في مقر الأكاديمية الكاثوليكية بمدينة ميونيخ الألمانية.

[24] يورغن هابرماس وجوزيف راتسينغر(البابا بنيديكتوس XVI)، جدلية العلمنة والعقل والدين، تعريف وتقديم: حميد لشهب، (بيروت: جداول للنشر والترجمة، 2013)، الصفحتان 33، 43.

[25] محمود حيدر، ما بعد العلمانية – منطق الحدث وفتنة المفهوم، فصلية “الاستغراب”، صيف 2014.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد