قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

الفتح المبين

 

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..

الآيـة

 ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾ الفتح

التّـفسـير

 الفتح المبين:

في الآية الأولى من هذه السورة بشرى عظيمة للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بشرى هي عند النّبي طبقاً لبعض الرّوايات أحبُّ إليه من الدنيا وما فيها إذ تقول الآية: (إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً).

(فتحاً مبيناً) تظَهرُ آثاره في حياة المسلمين في فترة وجيزة، وفي فترة مديدة أيضاً.. وذلك في انتشار الإسلام.. فتحاً يقل نظيرهُ أو ينعدم نظيره في طول تاريخ الإسلام وعلى امتداده.

وهنا كلام عريض وبحث طويل بين المفسّرين.. حول المراد من هذا الفتح أيُّ فتح هو؟!

فأكثر المفسّرين يرون أنّه إشارة إلى ما كان من نصيب للمسلمين من الفتح الكبير على أثر «صلح الحديبية».

وبعض ذهبوا إلى أنّه «فتح مكّة»... وآخرون قالوا بأنّه «فتح خيبر»... وآخرون أنّه إشارة إلى انفتاح أسرار العلوم على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)... غير أنّ قرائن كثيرة لدينا ترجح أنّ هذا الفتح هو ما يتعلّق بموضوع صلح الحديبية.

 

قصّة صلح الحديبية:

في السنة السادسة للهجرة وفي شهر ذي القعدة منها تحرّك النّبي نحو مكّة لأداء مناسك العُمرة ورغب المسلمون جميعاً في هذا الأمر.. غير أنّ قسماً منهم امتنع عن ذلك، في حين أنّ معظم المهاجرين والأنصار وجماعة من أهل البادية عزموا على الاعتمار مع النّبي فساروا نحو مكّة!...

فأحرم هؤلاء المسلمون الذين كانوا مع النّبي وكان عددهم في حدود «الألف والأربعمائة» ولم يحملوا من أسلحة الحرب شيئاً سوى السيوف التي كانت تعدّ أسلحةً للسفر فحسب!.

ولمّا وصل النّبي إلى «عسفان» التي لا تبعد عن مكّة كثيراً، أُخبر أنّ قريشاً تهيّأت لصدّه وصمّمت على منعه من الدخول إلى مكّة. ولمّا بلغ النّبي الحديبيّة وهي قرية على مسافة عشرين كيلو متراً من مكّة وسمّيت بذلك لوجود بئر فيها أو شجرة، أمر أصحابه أن يحطّوا رحالهم فيها. فقالوا: يا رسول الله ليس هنا ماء ولا كلأ، فهيّأ النّبي عن طريق الإعجاز لهم ماءً من البئر الموجودة في تلك المنطقة.. وبدأ التزاور بين سفراء النّبي وممثليه وسفراء قريش وممثليها لتُحلّ المشكلة على أي نحو كان، وأخيراً جاء عروة بن مسعود الثقفي الذي كان رجلاً حازماً عند النّبي فقال له النبي: «إنّا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين...». وهذا وقد لاحظ عروة الثقفي، ضمناً حالة الأصحاب وهم يكتنفون نبيّهم عند وضوئه فلا يَدَعُون قطرةً تهوي إلى الأرض منه.

 وحين رجع عروة إلى قريش قال: لقد ذهبت إلى قصور كسرى وقيصر والنجاشي فلم أرَ قائداً في قومه في عظمته كعظمة محمّد بين أصحابه.. وقال عروة لرجال قريش أيضاً إذا كُنتم تتصورون أنّ أصحاب محمّد يتركونه، فأنتم في خطأ كبير.. فأنتم في مواجهة أمثال هؤلاء الرجال الذين يؤثرون على أنفسهم فاعرفوا كيف تواجهونهم!؟

 ثمّ أنّ النّبي أمرَ عمرَ أن يمضي إلى مكّة ليطلع أشراف قريش على الهدف من سفر النّبي، فاعتذر عمر وقال إنّ بينه وبين قريش عداوة شديدة، وهو منها على حذر فالأفضل أن يرسل عثمان بن عفان ليبادر إلى هذا العمل، فمضى عثمان إلى مكّة ولم تمضِ فترة حتى شاع بين المسلمين خبر مفاده أنّ عثمان قُتل، فاستعد النّبي لأن يواجه قريشاً بشدّة! فطلب بتجديد البيعة من أصحابه فبايعوه تحت الشجرة بيعةَ سُمّيت «بيعة الرضوان» وتعاهدوا على مواصلة الجهاد حتى آخر نفس; إلاّ أنّه لم يمضِ زمن يسير حتى عاد عثمان سالماً وأرسلت قريش على أثره سهيل بن عمرو للمصالحة مع النّبي، غير أنّها أكّدت على النّبي أنّه لا يدخل مكّة في عامه هذا أبداً.

 وبعد كلام طويل تمّ عقد الصلح بين الطرفين، وكان من موادّه ما بيّناه آنفاً وهو أن يغض المسلمون النظر عن موضوع العمرة لذلك العام، وأن يأتوا في العام القابل الى مكّة شريطة أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيّام، وأن لا يحملوا سلاحاً غير سلاح السفر، كما كان من مواد العقد أُمور أُخرى تدور حول سلامة الأرواح والأموال التي تعود للمسلمين، والذين يأتون مكّة منهم من قِبَل المدينة ومن مواد العقد أيضاً إيقاف القتال بين المسلمين والمشركين لعشر سنين، وأن يكون مسلمو مكّة أحراراً في أداء مناسكهم وفرائضهم الإسلامية.

وكان هذا العقد، أو هذه المعاهدة بمثابة عدم التعرض لكلا الجانبين، ولحسم المعارك المستمرّة بين المسلمين والمشركين بصورة مؤقتة.

 

وكان مؤدّى هذه المعاهدة وما يتضمّنه عقد الصلح بالنحو التالي:

قال النّبي لعلي اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: فقال سهيل بن عمرو الذي كان سفير المشركين لا أعرف هذه العبارة بل ليُكتبْ بسمِكَ اللّهمّ! فقال النّبي لعلي اكتب: بسمك اللّهمّ: ثمّ قال النّبي لعلي اُكتبْ: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو كنّا نعرفك رسول الله لما حاربناك فاكتب اسمك واسم أبيك فحسب. فقال النبيّ: لا مانع من ذلك اُكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو أن يترك القتال عشر سنين ليجد الناس مأمنهم ثانية، وإضافة إلى ذلك من يأتِ محمّداً من قريس مسلماً دون إذن وليّه فيجب إعادته الى أهله، ومن جاء قريشاً من أصحاب محمّد فلا يجب إعادته إلى محمّد!

والجميع أحرار فمن شاء دخل في عهد محمّد ومن شاء دخل في عهد قريش!

ويتعهّد الطرفان أن لا يخون كلّ منهما صاحبه الآخرَ وأن يحترم ماله ونفسه!

 ثمّ بعد هذا ليس لمحمّد هذا العام أن يدخل مكّة، لكن في العام المُقبل تخرج قريش من مكّة لثلاثة أيّام، ويأتي محمّد وأصحابه إلى مكّة على أن لا يمكثوا فيها أكثر من ثلاثة أيّام، ويؤدّوا مناسك العمرة ثمّ يعودوا إلى أهلهم شريطة أن لا يحملوا معهم سلاحاً سوى السيف الذي هو من عُدة السفر، وأن يكون في الغمد وشهد على هذه المعاهدة جماعة من المسلمين وجماعة من المشركين وأملى المعاهدة علي بن أبي طالب (عليه السلام).

 

وذكر العلاّمة المجلسي في «بحار الأنوار» مواد أُخرى منها:

ينبغي أن يكون الإسلام في مكّة غير خفي، وأن لا يُجبر أحد في اختيار مذهبه وأن لا ينالَ المسلمين أذى من المشركين.

وهذا المضمون كان موجوداً في التعبير السابق بصورة إجمالية.

وهنا أمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تنحر الإبل التي جيء بها مع المسلمين، وأن يحلق المسلمون رؤوسهم، وأن يتحلّلوا من إحرامهم!..

 لكن هذا الأمر كان على بعض المسلمين عسيرا للغاية وغير مستساغ أيضاً.. لأنّ التحلل من الإحرام في نظرهم دون أداء العمرة غير ممكن!! لكنّ النّبي تقدّم بنفسه ونحر «هديه» وتحلّل من إحرامه، وأشعرَ المسلمين أنّ هذا «استثناءٌ» في قانون الإحرام أمر به الله سبحانه نبيّه!

ولمّا رأى المسلمون ذلك من نبيّهم اذعنوا للأمر الواقع، ونفذوا أمر النّبي بدقة، وعزموا على التوجّه نحو المدينة من هناك، غير أنّه كان بعضهم يحسّ كأنّ جبلاً من الهم والحزن يجثم على صدره، لأنّ ظاهر القضية أنّ هذا السفر كان غير موفّق بل مجموعة من الهزائم! لكنّ مثل هذا وأضرابه لم يعلموا ما ينطوي وراء صلح الحديبية من انتصارات للمسلمين ولمستقبل الإسلام. وفي ذلك الحين نزلت سورة الفتح وأعطت للنبي الكريم بشرى كبرى بالفتح المبين.

 

الآثار السياسية والاجتماعية والمذهبية لصلح الحديبية:

يتّضح بمقايسة إجمالية بين حال المسلمين في السنة السادسة للهجرة «أي عند صلح الحديبية» وحالهم بعدها بسنتين، حيث تحرّك المسلمون لفتح مكّة بعشرة آلاف مقاتل ليردّوا على نقض العهد بشدّة، وقد فتحوا مكّة دون أية مواجهة عسكرية لأنّ قريشاً لم تجد في نفسها القدرة على المقاومة أبداً.

 يتّضح بهذه المقايسة الإجمالية - سعة ردّ الفعل - التي أحدثتها معاهدة صلح الحديبية!..

وباختصار فإنّ المسلمين حصلوا على امتيازات عديدة من وراء هذا الصلح وفتحاً كبيراً نذكرها على النحو التالي:

 1 - بيّنوا عملياً للمضللين من أهل مكّة أنّهم ليس لديهم نيّة للحرب وسفك الدماء، وأنّهم يحترمون مكّة وكعبتها المقدسة، وكان هذا الأمر سبباً لاكتساب قلوب الكثيرين نحو الإسلام.

 2 - اعترفت قريش لأوّل مرّة بالإسلام والمسلمين «بصورة رسمية» وكان ذلك سبباً لتثبيت موقعهم في جزيرة العرب!..

 3 - استطاع المسلمون بعد صلح الحديبيّة أن يمضوا حيث يشاؤون، وأن تبقى أرواحهم وأموالهم في مأمن من الخطر، واتصلوا بالمشركين من قريب اتصالاً أثمر نتيجته، فكان أن عرف المشركون الإسلام بصورة أكثر واسترعى أنظارهم نحوه!.

 4 - انفتح الطريق بعد صلح الحديبيّة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية. وأثار موقف النّبي الإيجابي من الصلح القبائل العربية، وأصلح نظرتها إلى الإسلام ورسوله الكريم. وحصل المسلمون على مجال إعلامي واسع في هذا الصدد.

 5 - هيّأ صلح الحديبيّة الطريق لفتح «خيبر» واستئصال هذه الغدة السرطانية «المتمثلة باليهود» والتي كانت تشكل خطراً مهمّاً «بالفعل والقوّة» على الإسلام والمسلمين!

 6 - وأساساً فإنّ استيحاش قريش من مواجهة الجيش الذي كان يتألّف من ألف وأربعمائة مسلم فحسب، ولا يحمل أي منهم سلاحاً سوى سلاح السفر، وقبول قريش بمعاهدة الصلح، كان بنفسه أيضاً عاملاً مهماً على تقوية المعنويات عند المسلمين وهزيمة أعداء الإسلام إلى درجة أنّهم كانوا يتهيّبون من مواجهة المسلمين!.

7 - وبعد صلح الحديبيّة كتب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كتباً و(رسائل) متعددة إلى رؤساء الدول الكبرى (إيران والروم والحبشة) وملوك العالم البارزين، يدعوهم فيها إلى الإسلام، وهذا بنفسه يدل على أن صلح الحديبيّة أعطى المسلمين الثقة بأنفسهم وأن ينفتحوا لا على الجزيرة العربية فحسب بل على آفاق العالم قاطبة!

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد