قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

المراد من ضرب المثل في القرآن الكريم

قد استعمل الذكر الحكيم كلاً من لفظي « الـمَثَل » و « الـمِثْل » في غير واحد من سوره وآياته حتى ناهز استعمالهما ثمانين مرة ، إلاّ أنّ الثاني يزيد على الأوّل بواحد. والأمثال جمع لكليهما ويميّزان بالقرائن قال سبحانه : ( إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (1) وهو في المقام ، جمع الـمِثْل لشهادة أنّه يحكم على آلهتهم بأنّها مثلهم في الحاجة والإمكان. وقال سبحانه : ( تِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لعلّهُمْ يَتفَكَّرُون ). (2)

فاقتران الأمثال بلفظ الضرب ، دليل على أنّه جمع مَثَل. إلاّ أنّ المهم هو دراسة معنى « الضرب » في هذا المورد ونظائره ، فكثيراً ما يقارن لفظ المثل لفظ الضرب ، يقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ). (3) وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنا للنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون ). (4)

وقد اختلفت كلمتهم في تفسير لفظ « الضرب » في هذا المقام ، بعد اتّفاقهم على أنّه في اللغة بمعنى إيقاع شيء على شيء ، ويتعدّى باليد أو بالعصى أو بغيرهما من آلات الضرب ، قال سبحانه : ( أَنِ اضْرِب بِعَصاكَ الْحَجَر ) (5) وقد ذكروا وجوهاً :

الأوّل : إنّ الضرب في هذه الموارد بمعنى الـمَثَل ، والمرا د هو التَمثيل ، وهو خيرة ابن منظور واستشهد بقوله : ( واضْربْ لَهُمْ مَثَلاً أَصحابَ القَرْيَةِ إذْ جاءَها الْمُرسَلُون ) (6) أي مثّل لهم مثلاً وهو حال أصحاب القرية ، وقال : ( يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالباطِل ) (7) أي يمثل الله الحقّ والباطل. (8) وهذا خيرة صاحب القاموس أيضاً.

الثاني : إنّ الضرب بمعنى الوصف والبيان ، وقد حُكي عن مقاتل بن سليمان ، وفسر به قوله سبحانه : ( وضَرَبَ الله مَثلاً عَبداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيء ). (9)

واستشهد بقول الكميت :

وذلك ضرب أخماس أريدت

لأسداس عسى أن لا تكونا (10)

الثالث : إنّ الضرب بمعنى الاعتماد والتثبيت ، وهو خيرة الشيخ الطوسي (11) ( 385 ـ 460 هـ ) ، والزمخشري ، (12) والآلوسي ، (13) فقد فسّروا به قوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ). (14).

الرابع : إن الضرب في المقام من باب الضرب في الأرض وقطع المسير ، وضرب المثل عبارة عن جعله سائراً في البلاد كقولك : ضرب في الأرض إذا صار فيها ، ومنه سُمِّيَ الضارب مضارباً. (15)

فإذا كان الضرب بمعنى قطع الأرض وطيّها ، فضرب المثل عبارة عن جعله شيئاً سائراً بين الأقوام والشعوب يمشي ويسير حتى يستوعب القلوب.

وفي المقام كلمة لابن قيم ، يوضّح فيها أكثر هذه الاحتمالات :

ضرب الله سبحانه لعباده ، الأمثال ، وضرب الرسول صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله لأمّته الأمثال ، وضرب الحكماء والعلماء والمؤدّبون الأمثال ، فما معنى ضرب المثل ؟

قد يكون مشتقّاً من قولك ( ضرب في الأرض ) أي سار فيها.

فمعنى ضرب المثل جعله ينتشر ويذيع ويسير في البلاد. وإلى هذا ذهب أبو هلال في مقدمة كتابه. (16)

وقد يكون معنى « ضرب المثل » نصبه للناس بإشهاره لتستدلّ عليه خواطرهم كما تستدلّ عيونهم على الأشياء المنصوبة. واشتقاقه حينئذٍ من قولهم : ( ضربت الخباء ) إذا نصبته.

وقوله تعالى : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالباطل ) (17) أي ينصب منارهما ويوضح أعلامهما ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه ، ويعرفون الباطل فيجتنبوه ، كما قال الشريف الرضيّ ( 359 ـ 406 هـ ) في كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » : وقد يفهم من ضرب المثل صنعه وإنشاؤه ، فيكون مشتقّاً من ضرب اللّبْنِ وضرب الخاتم.

أو قد يكون من الضرب بمعنى : إبقاء شيء على شيء. (18)

ومنه ضرب الدراهم : أي إيقاع النموذج الذي به الصّكُ على الدراهم لتنطبع به ، فكأنّ المثل مطابق للحالة ، أي للصفة التي جاء لإيضاحها ، وخلاصة القول : ضرب المثل مأخوذ : إمّا من :

1. ضرَب في الأرض بمعنى : سار.

2. ضربه : نصبه للناس وأشهره.

3. ضرب : صنع وأنشأ.

4. ضرب : إبقاء شيء على مثال شيء. (19)

وبذلك يُعلم تفسير قوله سبحانه : ( ... وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انْظُر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ). (20)

نرى أنّ المشركين وصفوا النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله بكونه رجلاً مسحوراً ، فيردّ عليه سبحانه باستنكار ويقول : ( انظر ـ أيّها النبي ـ كيف ضربوا لك الأمثال ) أي كيف وصفوك بأنّك مسحور مع أنّ سيرتك تشهد على خلاف ذلك ، وما تتلو من الآيات كلامه سبحانه لا صلة له بالسحر وإنّ ما يجدونه خلاَّباً للعقول وآخذاً بمجامع القلوب فإنّه هو لأجل عذوبته وجماله وإعجازه الخارق وأين هو من السحر ؟!

وعلى ذلك فالمعنى المناسب لتفسير الآية ، هو تفسير الضرب بالوصف ، وقد تقدّم أنّ الوصف أحد معانيه ، وأقرّ به ابن منظور : أن انظر كيف وصفوك بكونك مسحوراً.

وأمّا تفسيره بالتمثيل بأن يقال : انظر كيف مثّلوا لك المثال أو التمثيل ، فغير تام ، لأنّ وصف النبي صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله بكونه « مسحوراً » ، لا مثَل سائر ، ولا تمثيل قياسي.

ونظيره تفسيره بقطع الأرض ، لأنّ المشركين ما وصفوه به ليشهّروه حتى يصير قولهم « سيراً في الأرض ».

ــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأعراف : 194.

2 ـ الحشر : 21.

3 ـ إبراهيم : 24.

4 ـ الزمر : 27.

5 ـ الأعراف : 160.

6 ـ يس : 13

7 ـ الرعد : 17.

8 ـ لسان العرب : 2 / 37 ، مادة ضرب.

9 ـ النحل : 75.

10 ـ تفسير الطبري : 1 / 175.

11 ـ التبيان في تفسير القرآن : 7 / 302.

12 ـ الكشّاف : 2 / 553.

13 ـ روح المعاني : 1 / 206.

14 ـ الحج : 73.

15 ـ الحكم والأمثال : 79.

16 ـ انظر مقدمة كتاب جمهرة الأمثال.

17 ـ الرعد : 17.

18 ـ تلخيص البيان في مجازات القرآن : 107.

19 ـ الأمثال في القرآن الكريم : 20 ـ 21.

20 ـ الفرقان : 8 ـ 9.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد