مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ فوزي آل سيف
عن الكاتب :
من مواليد سنة «1379 هـ» في تاروت ـ القطيف، درس المرحلة الابتدائية في تاروت وهاجر للدراسة الدينية في الحوزة العلمية بالنجف ـ العراق سنة 1391 هـ. التحق في عام 1394 هـ، بمدرسة الرسول الأعظم ودرس فيها الأصول والفقه وتفسير القرآن والتاريخ الإسلامي والخطابة والأدب، في عام 1400 هـ هاجر إلى الجمهورية الإسلامية في إيران وشارك في إدارة حوزة القائم العلمية في طهران، ودرّس فيها الفقه والأصول والثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وأكمل دراسة المنهج الحوزوي في الفقه والأصول. انتقل لمتابعة دراساته العالية إلى قم في بداية عام 1412 هـ ودرس البحث الخارج، عاد في نهاية عام 1418 هـ إلى وطنه القطيف. صدر له عدد من المؤلفات منها: "من قضايا النهضة الحسينية أسئلة وحوارات، نساء حول أهل البيت، الحياة الشخصية عند أهل البيت، طلب العلم فريضة، رؤى في قضايا الاستبداد والحرية، صفحات من التاريخ السياسي للشيعة" وغير ذلك..

الغضب جمرة الشّيطان (1)

(وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (*) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). [1]

هاتان الآيتان المباركتان، من سورة آل عمران، تبدءان بالحديث مع المؤمنين حول المسارعةِ الى أسباب المغفرة. فإن مغفرة الله سبحانه وتعالى هي من شؤونه عز وجل، وهي ليست بأيدينا حتى نسرع إليها وليست موجودةً مثلاً في مكان كالكعبة حتى نذهب إليها، وإنما نسارع إلى الأسباب التي تنتهي بنا إلى مغفرة الله عز وجل.

وكذلك الحال في مسارعة الإنسان إلى ما ينتهي به إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قد أعدت للمتقين، ومعنى أُعدّت كما يراه قسمٌ من المفسرين، بل لعل الأكثر منهم والمتكلمين؛ أن تلك الجنة حاضرةٌ وموجودة بالفعل الآن، لا أنها ستخلق يوم القيامة، ولكننا لا نراها لأن أجهزة إدراكنا قد أعدت بنحو تتخاطب مع القضايا الدنيوية، ويكون حالها حال أكثر القضايا الغيبية كالملائكة وغيرها مما هي موجودة الآن تتنزل وتعرج وتحفظ وتتوفى وغير ذلك، ولكن لا نراها لأننا أجهزتنا ليست معدة لهذا.

والغيب بالمعنى الأعم كثير جدًّا، وإنما نتعرف عليه من خلال آثاره أو نستكشفه من خلال الأجهزة المساعدة.

وهذه الجنة المعدّة والحاضرة الآن ليست لكل الخلائق، وإنما جهزت وأعدّت للمتقين الذين وصفهم القرآن بأنهم ينفقون في السراء والضراء، ونعتهم بالكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.

والكاظم هو الذي يكظم الشيء، بمعنى أنه يُحكم عليه ويمسكه، قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة.(كَظَمَ) الْكَافُ وَالظَّاءُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَالْجمعُ لِلشَّيْءِ. مِنْ ذَلِكَ الْكَظْمُ: اجْتِرَاعُ الْغَيْظِ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ إِبْدَائِهِ، وَكَأَنَّهُ يَجْمَعُهُ الْكَاظِمُ فِي جَوْفِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] وَالْكُظُومُ: السُّكُوتُ.

ونلاحظ في الآية المباركة لا يقول في وصفهم أنهم لا يغضبون، وإنما يقول يكظمون الغيظ، فهم يغضبون بمقتضى الطبيعة البشرية، لكنهم يسيطرون على ذلك الغضب، ويمسكونه ويحبسونه، ونجد شرحها في آية أخرى (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[2] ذلك أن الإنسان الطبيعي يمتلك غريزة الغضب، بل هي من ضروريات حياته.

إلا أن هذه الصفة التي قد تكون في أصلها من ضروريات الحياة الإنسانية، ربما تتحول بسوء إدارتها إلى قنبلة متفجرة، تدمر حياة الإنسان الأسرية، أو العملية، وأحيانًا الشخصية، فإذا بصاحبها في مهاوي السّجون، على أثر ارتكابه جرائم تحت تأثير الغضب وعدم السيطرة عليه.

وهناك الكثير أمام الإنسان مما يمكن أن يثير غضبه، من التهديد له، والكلام عليه بكلام سيء، والتدخل غير المناسب في أمور حياته، وتحديه، وغير ذلك. فإذا بهذا الإنسان الذي كان هادئًا راكدًا، تراه بعد وجود ذلك المثير الإغضابي قد أصبح في حالة متحفزة للانتقام، والمواجهة، لفظاً ويداً، وأحياناً مستعدا للقتل، هذه حالته النفسية.

كما تتأثر حالته البدنية أيضًا بشكل واضح، فإن الأطباء يقررون أن الإنسان في حالة الغضب يرتفع عنده مستوى الأدرينالين، والذي هو أشبه بالتهيئة في داخل النفس للمواجهة، علمًا بأن هذا الأنزيم إنما يرتفع في حالتين: حالة الخوف وحالة الغضب.

ويترتب على ارتفاعه، أن تزداد سرعة حركة الدم وعلى أثر تسارع نبضات القلب، كما تظهر آثار الغضب في وجوه الحيوانات والإنسان، بل حتى البدن بشكل عام في حالة الغضب لا يعود ذلك البدن المسترخي المسترسل، وإنما يشد أطرافه فأكتاف الغاضب غير أكتافه في حالة الرضا!

إن من اللازم أن نشير إلى أنه ليس كل غضب مذمومًا، فهناك الغضب الممدوح، وهو الغضب في الله ولله، كالغضب جراء انتهاك حرمات الله عز وجل، وهكذا الغضب الذي يتملك الإنسان على أثر تجاوز الظالمين على المظلومين والاعتداء عليهم، وهذا ما صدر من نبي الله موسى - على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام- عندما رجع (مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي).[3] وكان غضبه لأجل رسالته، فإن كل هذه التضحيات التي قدمها من أجل أن يخرجهم من ظلمات الذل إلى نور العزة والإيمان، قد تبخرت بمجرد أن غاب عنهم لميقات ربه.. فإذا بهم يتخذون العجل إلٰهًا من دون الله عز وجل، لم تكن سوى أربعين ليلةً وإذا بهم قد قلبوا كل ما قد بناه وشيده من أجلهم!

هذا الغضب من موسى النبي (ع) غضب محمود وحسن، ولو لم يغضب لكان الأمر غير طبيعي على الإطلاق، الغضب الذي يشعر به المصلحون من أجل إصلاح أحوال الأمة هذا غضب محمود، فليس كل غضب سيئاً.

إنما الغضب الشخصي إذا كان بسبب أمور بسيطة هو غضب مذموم، كأن تمشي في الطريق ويصطدم بك أحدهم ممن يكون مشتت الفكر لمشكلة عنده! أو قلة التفات! فتغضب منه وتتجهز للمواجهة معه، هذا الغضب لا يمكن أن يكون ممدوحًا، ولو قال أحدهم ـ لاشتباه عنده أو انفعال ـ كلمةً سيئةً في حقك! فهل يسوقك الغضب لأن ترد عليه كما يقول بعضهم: إذا تُسمعني كلمة؛ أسمعك عشرة؟! لو حصل هذا فلا يمكن أن يكون غضبك ممدوحًا!

 

لماذا يغضبون؟

قد تتعجب عندما تسمع أن شخصًا أخذه الغضب بالطول والعرض حتى خسر حياته الزوجية، ثم تفتش عن السبب الذي أثار غضبه فتراه سببًا تافهًا لا يستحق التفكير فيه فضلًا عن تهديم الحياة الزوجية! وأحيانًا تسمع عن جريمة قتل حدثت ثم تسمع عن أن سببها هو النزاع على لعبة من الإلعاب الإلكترونية! فما هي الأسباب التي تجعل هؤلاء يغضبون إلى هذه الدرجة؟

1/ من الأسباب التي تثير غضب البعض: الرغبة في الإخضاع حين لا تسير الأمور كما يحب الغاضب، وهذا راجع في جزء منه إلى تعاظم حب الذات عنده بحيث يجب أن تسير الأمور كما يشتهي، فإذا لم تسر الأمور هكذا لأن لكل أمر ظروفه ومعادلته الخاصة، فإن الواحد منهم يتوتر ويغضب ويصب غضبه على من هو مسؤول في ذلك! فتراه يتجهم ويتوتر حتى لأن الطريق مزدحم أثناء توجهه لعمله ولو عارضه شخصٌ في هذه الأثناء ولو بالخطأ وأخذ مكانه، فإن لن يسلم من نظرات الغضب وألفاظ السباب وربما نزل إليه (ليؤدبه!)، إن المفروض في رأيه أن يسيروا على جانب الطريق حتى يعبر هو بسرعة! فكيف يقوم أحدهم بسد الطريق عليه؟ إنها خطيئة لا تغتفر!

مثل هؤلاء يتساءلون بغضب: كيف حصل هذا؟ ومن الذي فعله بهذا النحو؟ حتى لو كان حصوله بذلك الشكل هو الحالة الطبيعية، لكنها غير مرضية بالنسبة له، لهذا يستنكر ويتوقع أنه كان ينبغي أن يحصل الأمر بالنحو الذي كان يريده هو!

2/ الإحساس المفرط بأنه تم التعدي على كرامته؛ وأنه لا يمكن أن يسمح بذلك مع أن القضية قد لا تستحق ـ عند غيره ـ ذلك المقدار من الغضب، فلو تجاوز أحدهم على مكانه في الصف، وتقدم عليه من أجل أن يشتري ربطة خبز، فقد يقيم معركة دونها داحس والغبراء، وقد نقلت بعض الجرائد حصول جريمة قتل بسبب النزاع على ذلك.. بينما عندما يناقشها أحد (العقلاء) يرى أن حدودها هي خمس دقائق زادت في مدة انتظاره وأن ذلك لا يستحق معركة قد يتضرر فيها!

لكنه هنا لا ينظر إليها بمنطق الدقائق الخمس، وإنما بمنطق أنه أهانه وتعدى على كرامته! وسلبه حقه.. إلى غير ذلك.

عندما يقول لزوجته أو تقول له كلامًا قاسيًا! لا يقول إن هذه كلمات لا تلبث أن تتبخر مع الريح، وتختلط بترليونات الذبذبات الصوتية في عالم الدنيا لكيلا يبقى منها عين ولا أثر.. وإنما يرى أن شخصيته (!) قد أهينت. وكرامته قد حطمت وأن الموت خير له من الحياة بعد ذلك، فإذن لا بد أن ينتقم لنفسه، ويرد اعتباره، وتغذي هذه المشاعر المتشنجة حالة الغضب عنده ليرد الصاع صاعين وينتقم بما هو موجع للطرف الآخر، فإذا كان زوجًا أو زوجة فليؤذه بالطلاق والانفصال. وإذا كان عاملًا أو زميلًا فليعاقبه بالطرد وهكذا.

3/ اقتناع البعض بأن الغضب هو الطريق الأحسن لمعالجة الأمور: حين يتربى الشخص تربية سيئة، يتعلم فيها أنك لا تستطيع أخذ ما تريد إلا بالغضب وأن الآخرين يخافون الإنسان الغاضب فيضطرون إلى تحقيق ما يريد. ويتعلم الطفل هذه الفكرة بدءًا من والده فإنه يراه إذا غضب على أمه وظل يصرخ عليها وعلى أولاده يسارعون لتنفيذ طلباته بوجَلٍ، بينما لو خاطبهم بهدوء ومرح فإنه لا يحصل على شيء! فتتكون في ذهنه نظرة أن الغضب هو حلال المشاكل وهو مفتاح الأقفال! فيأخذ هذه الفكرة إلى كبره ويطبقها في حياته ضمن إطار الأسرة والمجتمع.

إن من المهم أن تسلب القيمة عن الغضب السلبي والشخصي، بحيث لا يصبح موضعًا للتفاخر والتباهي! وينبغي أن يكون في ذهن الناس صغارًا وكبارًا مسبّة لا مفخرة! وسلب القيمة هذا هو ما نلاحظه في الأحاديث والروايات التي ذمته وذمت صاحبه: فعن رسول الله (ص) - لما استوصاه رجل -: لا تغضب، قال: ففكرت حين قال رسول الله (ص) ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله.

وعن الإمام عليٍّ (ع): الغضب يثير كوامن الحقد. الغضب مركب الطيش. الغضب يردي صاحبه. بكثرة الغضب يكون الطيش. إياك والغضب، فأوله جنون وآخره ندم.

وفي وصيته لعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة: وإياك والغضب، فإنه طيرة من الشيطان.

وعن الإمام محمد الباقر(ع): إن هذا الغضب جمرة من الشيطان تتوقد في قلب ابن آدم، وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه.

ولما سأل عبد الأعلى الإمام جعفر الصادق (ع): علمني عظة أتعظ بها! قال له: إن رسول الله (ص) أتاه رجل فقال له: يا رسول الله علمني عظة أتعظ بها، فقال له: انطلق ولا تغضب، ثم أعاد إليه فقال له: انطلق ولا تغضب ثلاث مرات. [4]

ـــــــــــــــــــــــــ

[1] آل عمران: 133ـ 134

[2] الشورى: 37

[3] الأعراف: 150

[4] الأحاديث كلها من: ميزان الحكمة 3/ 2265

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد