قراءة في كتاب

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

«المبدأ والمعاد» للحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازي


محمود حيدر
يُنظر إلى كتاب (المبدأ والمعاد) للفيلسوف الإسلامي والحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازي المعروف بـ(ملا صدرا) على أنّه أحد الكتب المؤسِّسة لفلسفة صدرا التي اشتهرت لدى العلماء والحكماء بـ«الحكمة المتعالية». وعلى الرغم من أنّ مجموعة مجلدات (الأسفار العقلية الأربعة) تعدّ المنجز الأعظم في عمل الشيرازي، فإنّ كتاب (المبدأ والمعاد) هو أحد الأركان الأساسية لمشروعه الفلسفي، وندر أن ظهر نظيره من بعد الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وحتى أيامنا الحاضرة. بل يمكن القول أبعد من ذلك بأنّ ملا صدرا مع الحكمة المتعالية بات بحقّ خاتم الفلسفة الكلاسيكية منذ الإغريق مروراً بالفلسفة الإسلامية بأطوارها المتعاقبة.


لكنّ هذا الكتاب المسمّى بـ(المبدأ والمعاد) له خاصِّية مفردة في المنهج والرؤية. فهو يشتمل على فنَّين: فنّ في الربوبيات وفنّ في علم النفس، غير أنّ طريقة معالجته لهذين المطلبين تُظهِر عبقريته الجامعة في الربط الدقيق بين مسائل الوجود والعلاقة بين الوجود الواحد والماهيات المتكثّرة. وهو ما يجعل عمله هذا متّسقاً مع سائر مؤلفاته مكمِّلاً لها. لذلك سنجد كيف أنّ عمله في (المبدأ والمعاد) اتّخذ المنهج نفسه في مجمل مباحث الحكمة المتعالية. ويمكن الإشارة في ما يلي إلى عدة اهتمامات شكّلت البنية الإجمالية للمدرسة الصدرائية.


المحور الاول: نظرية المعرفة العقلية والكلام الإلهي: وهو يتناول العلم والجهل، والإيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، وما له صِلة بالقرآن الكريم من أسماء، ونعوت، وحروف مقطّعة، وغيرها.
المحور الثاني: الإلهيات: ويتناول معرفة الذات الإلهية المقدّسة، والصفات والأفعال، والتوحيد ومراتبه، والأسماء الإلهية، والعلم الإلهي.
المحور الثالث: مراتب العالم: حيث معاني العرش، والكرسيّ، والقضاء، والقدر، والقلم، وعوالم الخلق من أول العوالم إلى العالم الطبيعي، وكيفية حصول الكثرة، وعالم الأمر وعالم الخلق والمائز بينهما، ووسائط الفيض، والملائكة، والجنّ، والشيطان، وحدوث العالم. وهذا المحور وما قبله يشكّلان ما يمكن تسميته تأويل الوجود بقسميه الواجبي والإمكاني.
المحور الرابع: الإنسان في المبدأ: ويتناول العلاقة الإلهية، والإنسان الكامل، ومعرفة النفس، وتماثل الإنسان والعالم (العالم الكبير والعالم الصغير)، والقوى المودعة في النفس، ومراحل خلق الإنسان وقواه، وبطلان التناسخ، والنبوّة، والولاية. وبعبارة أخرى البحث عن الإنسان في قوس النزول بحسب التعبير العرفاني.
المحور الخامس: الإنسان في المعاد: ويتناول مبدأ العود الى الله تعالى، وطبيعة الوجود الأخروي، والموت، والحشر، والصراط، والصور، وتجسّم الأعمال، والميزان، والنِّعَم الحسية في الآخرة، وأحوال الجنة والنار، والمعاد الجسماني. وهو بقولٍ آخر: الإنسان في قوس الصعود عند الصوفية والعرفاء.

تشكّل هذه المحاور، بنظر ملاّ صدرا، المواضيع الأساسية التي عرضها القرآن الكريم، والتي كما يبدو تتصل بمبدأ وجود الإنسان ومعاده، والتي تهدف إلى «تعريف كيفية ارتقاء العبد من حضيض النقصان والخسران إلى أوج الكمال والعرفان».
منهج التطابق بين العقل والنقل
لعلّ المنعطف الأساسي الذي أحدثه ملا صدرا في الحكمة بوجهٍ عام، والحكمة الإسلامية على الخصوص، أنّه انطلق من الوحي ليؤسّس لمشروعه الفلسفي. وهو ما سنجده بوضوح في المقدمات النظرية التي غالباً ما يذكرها عندما يشرع في كتاباته. ونعني به فَرَضيّته المركزية حول التطابق والتناسب بين العقل والوحي.

في كتاب (المبدأ والمعاد) يبيِّن ملا صدرا منظوره إلى هذا الأمر، فيقول: «لما رأيت التطابق بين البراهين العقلية والآراء النقلية، وصادفتُ التوافق بين القوانين الحكمية والأصول الدينية، وأنّ أجلَّ الذخائر والسعادات، وأفضل الوسائل إلى الفوز بأقصى الدرجات وأعلى الخيرات، هو تكميل القوة النظرية بتحصيل العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية، التي هي أنفَس ما تطلبه النفوس الإنسانية، وأشرف ما تُستكمل به العقول الهيولانية، إذ بها يصير الإنسان سالكاً سُبُل الكمال والعرفان، متوجّهاً شطر كعبة العلم والإيمان، ومتخلّصاً عن سجن الحدثان والخسران إلى جهة السعادة ومجاورة الرحمن، فائقاً على الأشباه والأقران كما أشارت اليه الكتب الإلهية، ونبعت عليه الرموز النبوية، وأوضحت القواعد الحكمية».
وفي معرض تصديره لعمله، كان ملا صدرا صريحاً في بيان مقصده والمنهج الذي اعتمده في الكتابة. فالكتاب موجّه إلى أهل الاختصاص في معرفة الله سواء الباحثين في الحكمة أو المتكلّمين أو علماء الفقه والتفسير.

وحسب تقريره إنّ العلوم الكمالية والمعارف اليقينية مختلفة الأنواع والفنون، متكثّرة الشعب والشجون، إلى حدٍّ وغاية يعجز كلّ نفس إنساني، سيّما في تعلّقها بهذه النشأة التعلّقية عن استحصال جميعها، واستحضار فنٍّ من أصولها وفروعها. ولذا يضيف صدر المتألهين، أنّ عمله مخصوصٌ لمن له فضل قوّةٍ لتحصيل الكمال على وجهٍ أبلغ وأوفر، وهذا العمل يشكّل كتاباً جامعاً لفنون العلوم الكمالية التي هي ميدانٌ لأصحاب الفكر، وفيها جولانٌ لأرباب النظر، سمّيناه (الأسفار الأربعة). لكن القدر الواجب تحصيله، واللازم على المقتنين تكميل ذاته بسلوك منهجه وسبيله، أن يحصل منها ما هو أهم وأولى، ومباحث عما هو أشرف وأعلى.


ولا شكّ أنّ افضل العلوم الإلهية هو معرفة ذات الحقّ الأول، ومرتبة وجوده بما له من صفات كماله ونعوت جماله، وكيفية صدور أفعاله، وأنها كيف ابتدأت الموجودات الباديات منه، وكيف عادت العائدات إليه. وأنّ افضل العلوم الطبيعية معرفة النفس الإنسانية، وإثبات أنّها كلمة نورية وذات روحانية وشعلة ملكوتية، وبيان أنّها لا تموت بموت البدن، وأنّها كيف تستكمل حتى تضاهي جواهر الملائكة، بأن يصير عالماً عقلياً منتقشاً فيها على سبيل القبول ما هي منتقشة في المبادئ على سبيل الفعل، وأنّها كيف يتحدّ بالعقل الفعال، وكيف يصير معقولاته فعلية بعد ما كانت انفعالية، ومعنى كون العقل الهيولاني مجمع البحرين وملتقى الإقليمين، حيث هو نهاية الجسمانيات وبداية العقليات، وكيفية حال السعادة والشقاوة الحقيقيّتين، وما هما ليسا بحقيقيّتين بل ظنّيّتين. فإنّ معرفة النفس وأحوالها أمّ الحكمة وأصل السعادة، ولا يصل إلى درجة أحد من الحكماء مَن لا يدرك تجرّدها وبقاءها على اليقين كإخوان جالينوس وإن ظنّهم الجاهلون حكيماً، وكيف صار الرجل موثوقاً به في معرفة شيء من الأشياء بعد ما جهل بنفسه، كما قال أرسطاطاليس: «إنّ مَن عجز عن معرفة نفسه، فأَخْلَقُ بأن يعجز عن معرفة خالقه».

حكمة معرفة النفس
تشكّل معرفة النفس منطقة معرفية مركزية في كتاب (المبدأ والمعاد). ذلك بأنّ معرفة المبدأ أي معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله، لا مناصّ مؤدّية إلى معرفة الغاية من الخلق. وكلّ ذلك رهنٌ بأن يتعرّف الإنسان على نفسه، وحين يتعرّف على نفسه يعرف ربّه. لأنّ الفكرة الإلهية مزروعة في أصل ووجود المخلوقات. والنفس البشرية هي أرقى تلك المخلوقات وهي التي تتعرّف إلى ذاتها من أجل معرفة خالقها.
فإنّ معرفتها ذاتاً وصفةً وأفعالاً، كما يقول ملا صدرا، مرقاةٌ إلى معرفة بارئها ذاتاً وصفةً وأفعالاً، لأنّها خُلقت على مثاله، فمن لا يعرف علم نفسه لا يعرف علم بارئه. وفي الحديث المرويّ عن سيّد الأولياء: «مَنْ عَرَفَ نَفسَهُ فقد عَرَفَ رَبَّه»، إيماءً إلى هذا المعنى؛ يعني مَن لم يعرف نفسه لم يعرف ربّه. وقوله تعالى في ذكر الأشقياء البُعداء عن رحمته ﴿..نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ..﴾ الحشر:19، بمنزلة عكس نقيض لتلك القضية، إذ تعليقه جلّ وتعالى نسيان النفس بنسيان ربّها تنبيه للمستبصر على تعلّق تذكّره بتذكّرها، ومعرفته بمعرفتها.

وقيل: كان مكتوباً على بعض الهياكل المشيدة في قديم الزمان، ما نزل كتاب من السماء إلّا وفيه: «يا إنسان، اعرف نفسك تعرف ربّك». وقريبٌ من هذا ما نقله الشيخ الرئيس في بعض رسائله، من أنّ الأوائل كانوا مكلّفين بالخوض في معرفة النفس لوحي هبط عليهم ببعض الهياكل، يقول: «يا إنسان، اعرف نفسك تعرف ربّك».
وفي الحكمة العتيقة: «مَن عرف ذاته تألّه»، أي صار عالما ربّانياً فانياً عن ذاته، مستغرقاً في شهود جمال الأول وجلاله.
وبالجملة في معرفة النفس تيسيرُ الظفر بالمقصود، والوصول إلى المعبود، والارتقاء من هبوط الأشباح إلى شرف الأرواح، والصعود من حضيض السافلين إلى أوج العالين، ومعاينة جمال الأحديّ والفوز بالشهود السرمدي: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ الشمس:9-10.
ـــــــــــــــــ
مجلة شعائر

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة