من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

الطريقة السياسية للخلافة الانتخابية، ومخالفتها للفكر الشّيعي‌

كان الشيعة يعتقدون أن شريعة الإسلام السماوية التي تعيّنت مضامينها في كتاب الله وسنّة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم ستبقى خالدة إلى يوم القيامة دون أن يصيبها تغيير أو تحريف‌ «1».

 

والحكومة الإسلامية لا يحقّ لها بأيّ عذر أن تتهاون في إجراء الأحكام إجراء كاملًا. فواجب الحكومة الإسلامية هو أن تتخذ الشورى في نطاق الشريعة ووفقًا للمصلحة، ولكن ما حدث من واقعة البيعة السياسية، وكذا حادثة الدواة والقرطاس، والذي حدث في أخريات أيام مرض النبي الأكرم صلى اللّه عليه آله وسلم لدليل واضح على أن المدافعين عن الخلافة الانتخابية كانوا يعتقدون أن كتاب الله وحده يجب أن يحفظ ويحتفظ به كقانون. أما السنّة وأقوال النبي الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم فليس لها ذلك الاعتبار، وهم على اعتقاد أن الحكومة الإسلامية تستطيع أن تضع السنة جانبًا إذا اقتضت المصلحة ذلك.

 

وهذه العقيدة تؤيدها روايات نقلت في خصوص الصحابة تقول بأن (الصحابة ذوو اجتهاد، فإذا ما أصابوا في اجتهادهم فإنهم مأجورون وإذا ما أخطأوا فهم معذورون)، وخير دليل على ذلك، ما حدث لخالد بن الوليد، وهو أحد القادة عند الخليفة، إذ دخل ضيفًا على أحد مشاهير المسلمين (مالك بن نويرة) ليلًا. وتربّص له فقتله، ووضع رأسه في التنور وأحرقه، وفي الليلة ذاتها واقع زوجة مالك، وبعد هذه الجناية التي يندى لها الجبين، لم يجر الخليفة الحدّ عليه، متذرعًا بعذر: ألا وهو أن حكومته بحاجة إليه «2».

 

وكذا الامتناع من إعطاء الخمس لأهل البيت وأقرباء النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم «3» ومنع كتابة أحاديث النبي الكريم منعًا باتًّا، وإذا ما عثر على حديث مكتوب عند شخص كان يحرق «4» وكانت هذه السنة قائمة طوال خلافة الخلفاء الراشدين، وحتى زمن خلافة عمر بن عبد العزيز «5» الخليفة الأموي (99 - 102) وقد تجلّت هذه السياسة في خلافة الخليفة الثاني (13 - 25) للهجرة.

 

إذ ألغى بعض أحكام الشريعة مثل: حج التمتع ونكاح المتعة، وذكر (حيّ على خير العمل) «6» في الأذان، وجعل الطلاق ثلاثًا نافذ الحكم، وغيرها «7»، وفي زمن خلافته كان بيت المال يوزع بين الناس مع تباين «8» والذي أدّى إلى ظهور طبقات مختلفة بين المسلمين، تثير الدهشة والقلق، وكان من نتائجها وقوع حوادث دامية مفزعة، وفي زمنه كان معاوية في الشام يتمتع بسلطان لا يختلف عن سلطنة كسرى وقيصر، وقد سماه الخليفة بكسرى العرب، ولم يتعرض له بقول، ولم يردعه عن أعماله.

 

وبعد أن قتل الخليفة الثاني على يد غلام فارسي، ووفقًا لأكثرية آراء الشورى البالغ عددهم ستة أعضاء والذي تم تشكيله بأمر من الخليفة عيّن الخليفة الثالث، فعيّن أقرباءه الأمويين ولاة وأمراء، فجعل منهم الولاة في كلّ من الحجاز والعراق ومصر وسائر البلدان الإسلامية، فكانوا جائرين في حكمهم، عرفوا بشقاوتهم وظلمهم وفسقهم وفجورهم، نقضوا القوانين الإسلامية الجارية. فالشكاوى كانت تنهال على دار الخلافة، ولكن الخليفة الثالث كان متأثرًا لما تربطه بهم من صلة القربى، وخاصة مروان بن الحكم «9» ولم يهتم بشكاوى الناس، وكان أحيانًا يعاقب الشكاة «10» فثار الناس عليه سنة 35 للهجرة، وبعد محاصرة منزله، وصراع شديد قتلوه.

 

كان الخليفة الثالث يؤيد وإليه على الشام تأييدًا مطلقًا وهو أحد أقاربه الأمويين (معاوية) وكان يدعم موقفه بتأييده المستمر له. وفي الحقيقة كان ثقل الخلافة في الشام، ولم تكن المدينة (مركز الخلافة) إلا شكلًا ظاهرًا «11». فخلافة الخليفة الأول قد استقرت بعد بيعة أكثرية الصحابة له، والخليفة الثاني عيّن من قبل الخليفة الأول، والخليفة الثالث انتخب من الأعضاء الستة للشورى الذين عيّنهم الخليفة الثاني.

 

فكانت سياسة هؤلاء الخلفاء الثلاثة في الأمور وشؤون الناس أن ينفذوا القوانين الإسلامية في المجتمع وفقًا للاجتهاد والمصلحة آنذاك، ووفقًا لما يرتئيه مقام الخلافة، فالقرآن يقرأ دون تفسير أو تدبّر وأقوال الرسول الأكرم العظيم صلى اللّه عليه وآله وسلم (الحديث) تروى دون أن تكتب على قرطاس، ولا تتجاوز حدّ الأذن واللسان فكانت الكتابة مختصة بالقرآن الكريم، والحديث لا يكتب على الإطلاق «12» .

 

وبعد معركة اليمامة والتي انتهت في سنة 12 للهجرة بمقتل جمع من الصحابة كانوا من حفظة القرآن، اقترح عمر بن الخطاب على الخليفة الأول أن يجمع القرآن في مصحف، ويبين الهدف والغرض من اقتراحه بقوله: إذا ما حدثت معركة أخرى، واشترك فيها بقية حملة القرآن وحفظته، فسوف يذهب القرآن من بين أظهرنا، إذن ينبغي جمع آيات القرآن في مصحف، تكتب آياته «13»، فنفذوا هذا الاقتراح بالنسبة للقرآن الكريم.

 

ومع أن الأحاديث النبوية هي التالية للقرآن، وكانت تواجه نفس الخطر، ولم تكن بمأمن من خطر نقل معنى الحديث، دون الالتفات إلى النص، وكذا الزيادة والنقصان، والتحريف والنسيان، وما إلى ذلك من الأخطار التي كان يواجهها الحديث، فلم توجه عناية أو رعاية لحفظه وصيانته، بل كانت كتابة الحديث ممنوعة، وإذا ما حصلوا على شيء منه فكان يلقى في النار.

 

ولم تمض فترة من الزمن حتى ظهر الاختلاف في المسائل الإسلامية الضرورية كالصلاة، ولم يطرأ تقدم في بقية الفروع العلمية في هذه الفترة، في حين نرى القرآن الكريم يشجع المشتغلين بالعلم، وأحاديث النبي الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم تؤيد ذلك، فلم ير لتلك الآيات والأحاديث مصداقًا في الخارج، وانصرف أكثر الناس إلى الفتوحات المتعاقبة، وفرحوا بالغنائم المتزايدة، والتي كانت تتدفق إلى الجزيرة العربية من كل حدب وصوب، ولم يكن هناك اهتمام بعلوم سلالة الرسالة ومعدن الوحي، وفي مقدمتهم علي عليه السلام. والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان قد صرح معلنًا أنّ عليًّا أعرف الناس بالعلوم الإسلامية، والمفاهيم القرآنية، ولم يسمحوا له بالمشاركة في جمع القرآن (وهم على علم من أن عليًّا بعد وفاة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان جليس داره يجمع القرآن) ولم يذكر اسمه في أنديتهم واجتماعاتهم «14».

 

إن هذه الأمور ونظائرها، أدّت بشيعة عليّ إلى أن يقفوا موقفًا أكثر وعيًا وأرسخ عقيدة، وأشد نشاطًا، ولما كان علي عليه السّلام بعيًدا عن ذلك المقام الذي يجعله مشرفًا على التربية العامة للناس، انصرف إلى تربية الخاصة من شيعته وأنصاره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). قوله تعالى في كتابه العزيز: «وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ»، (سورة فصلت الآية 41، 42).

 

ويقول في سورة يوسف «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» أي أن الشريعة هي شريعة الله والتي تصل إلى الناس عن طريق النبوة، إذ يقول «وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» الأحزاب الآية 40. وهو القائل أيضًا «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» سورة المائدة الآية 44.

 

(2) تاريخ اليعقوبي ج 2 : 110 - تاريخ أبي الفداء ج 1 : 158.

 

(3) الدرّ المنثور ج 3 : 186 / تاريخ اليعقوبي ج 3 : 48 وفضلاً عن هذا كله فإن وجوب الخمس صريح في القرآن الكريم «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى» سورة الأنفال ، الآية 41.

(4) جمع أبو بكر في زمن خلافته خمسمائة حديثًا، تقول عائشة وجدت أبي مضطربًا ذات ليلة حتى الصباح فقال لي في الصباح آتيني الأحاديث، فأحرقها جميعًا. كنز العمال ج 5 : 237 كتب عمر إلى البلدان. كنز العمال ج 5 : 237. يقول محمد بن أبي بكر: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بحرقها. طبقات ابن سعد ج 5: 140.

 

(5) تاريخ أبي الفداء ج 1 : 151 وغيره.

 

(6) شرع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في حجة الوداع فعمل الحج للحجاج القادمين من مكان بعيد وفقًا للآية «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ...» بشكل خاص، فمنع ذلك عمر في زمن خلافته، وكذلك المتعة كانت قائمة في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، فمنعها عمر في أيام خلافته، وأمر بإقامة الحدّ على المخالفين، وأما ذكر (حيّ على خير العمل) فكان يذكر في عهد الرسول العظيم، في أذان الصلاة، ولكن عمر في خلافته قال إن هذه العبارة تقعد الناس عن الجهاد، فأبدلها بأخرى، وكذا موضوع الطلاق فما كان على عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الطلاق إذا تعدد في مجلس واحد، فليس له اعتبار، ويعد طلاقًا واحدًا. ولكن عمر أجاز الطلاق الثلاث في مجلس واحد. فالمسائل هذه ونظائرها قد وردت في كتب الحديث والفقه والكلام لدى الفريقين السنة والشيعة.

 

(7) تاريخ اليعقوبي ج 2 : 131 / تاريخ أبي الفداء ج 1 : 160.

 

(8) أسد الغابة ج 4 : 386 / الإصابة ، المجلد الثالث.

 

(9). تاريخ اليعقوبي ج 2 : 150 / تاريخ الطبري ج 3 : 197 / تاريخ أبي الفداء ج 1 : 168.

 

(10) ثار جماعة من أهل مصر على عثمان، فأحس عثمان بالخطر، فندم، وطلب من علي بن أبي طالب العون والمساعدة. فقال عليّ لأهل مصرإأن معارضتكم هذه لم تكن إلا لإحياء الحق، وقد ندم عثمان وتاب وهو القائل إنني تائب مما مضى، وسأنجز لهم ما طلبوه خلال مدة أقصاها ثلاثة أيام، من عزل الولاة الجائرين، فكتب الإمام علي عليه السّلام معاهدة من جانب عثمان، فعاد الجمع إلى بلادهم. وفي أثناء الطريق، شاهدوا غلام عثمان، وهو راكب جمل عثمان متجهًا إلى مصر فأساءوا الظنّ به، ففتشوه، فوجدوا لديه رسالة من عثمان لواليه على مصر، وقد حررت فيها ما مضمونه: عند وصول عبد الرحمن بن عديس إليك. وهو أحد المعارضين لعثمان - اجلده مائة جلدة، واحلق شعر رأسه ولحيته، واحكم عليه بالسجن لمدة مديدة، واعمل مثل هذا مع كل من عمرو بن حمق وسودان بن حمران وعروة بن نباع.

أخذوا الرسالة من الغلام، وعادوا إلى عثمان ساخطين، فقالوا له: أنت أبطنت لنا الخيانة، فعرضت عليه الرسالة، فأنكرها عثمان، قالوا له: إن غلامك كان يحملها، أجاب، قد قام بهذا العمل دون إذن مني، قالوا له: كان راكبًا جملك، قال عثمان: قد سرق جملي. قالوا له: الرسالة بخط كاتبك، أجاب، كتبت دون علمي، قالوا، فعلى أية حال، الخلافة لا تليق بك: ويجب أن تستقيل من مقامك، لأن الأمر هذا لو كان على علم منك، فإنك خائن، وإن لم يكن على علم منك، فلست جديرًا بالخلافة وبهذا يثبت عدم صلاحيتك لهذه المهمة، فإما أن تتخلى عن الخلافة وتستقيل، وإما أن تعزل الولاة الظالمين، فأجاب عثمان: لو أردتم أن أكون كما تريدون، إذن فمن الخليفة وصاحب الأمر؟! أنا أم أنتم؟! فنهضوا من مجلسه ساخطين عليه.

جاءت هذه الواقعة في كتاب تاريخ الطبري المجلد الثالث في صفحة 402 وحتى 409.

 

(11). تاريخ الطبري ج 3 : 377.

 

(12). صحيح البخاري ج 6 : 98 / تاريخ اليعقوبي ج 2 : 113.

 

(13). تاريخ اليعقوبي ج 2 : 111 / الطبري ج 3 : 129 - 132.

 

(14). تاريخ اليعقوبي ج 2 : ابن أبي الحديد ج 1 : 9. وقد ورد في روايات كثيرة أنه أرسل على عليّ عليه السّلام بعد انعقاد البيعة لأبي بكر، وطلب منه البيعة، فأجابه بأنني عاهدت نفسي ألّا أخرج من داري سوى وقت الصلاة حتى أكمل جمع القرآن، ويروى أيضًا، أن عليًّا بايع أبا بكر بعد ستة أشهر، وهذا دليل على جمعه للقرآن، ويروى أيضًا أن عليًّا بعد انتهائه من جمع القرآن، حمل القرآن على ناقة وجاء به إلى الناس ويروى أيضًا، أن معركة اليمامة كانت في السنة الثانية من خلافة أبي بكر، وبعد انتهاء المعركة جمع القرآن، كل هذه تشير إليها كتب التاريخ والحديث التي تعرضت لموضوع جمع القرآن.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد