من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

العهد التأسيسي للفقه

بُعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسط مجتمع أُمّي، والأُمّي من لا يُحسن القراءة والكتابة، منسوباً إلى الأُم باقياً على الحالة منذ يوم ولدته أُمّه. وكان عدد من يجيد القراءة والكتابة من قريش عند ظهور الإسلام لا يتجاوز سبعة عشر شخصاً، كما لا يتجاوز أحد عشر شخصاً بين الأوس والخزرج في المدينة (1).

 

وهذا هو الإمام علي (عليه السلام) يصف التخلّف الثقافي الذي فشى في تلك البيئة، بقوله: «إنّ الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدّعي نبوّة، فَسَاق الناس حتى بوّأهم محلّتهم، وبلّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنّت صفاتهم» (2).

 

ولم يقتصر التخلّف على الصعيد الثقافي، بل شملت كافة الأصعدة الأخلاقية والاجتماعية، وكانت حياتُهم حياة قَبَليّة لا يحكمهم القانون، ولا يسود بينهم العدل. فهذا هو التّاريخ يحكي لنا أن رجلاً من زبيد دخل مكة المكرمة في شهر ذي القعدة، وعرض بضاعة له للبيع، فاشتراها منه العاص بن وائل، وحبس عنه حقّه، فاستعدى عليه الزبيدي قريشاً، فطلب منهم أن ينصروه على العاص، وقريش آنذاك في أنديتهم حول الكعبة، فنادى المشتكي بأعلى صوته وقال:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرم أشعث لم يقض عمرتَه * يا للرجال وبين الحِجْر والحجَر

إنّ الحرام لِمَنْ تمّتْ كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر القذر (3).

وتَكْمُن عظمةُ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أنّه صَنَعَ من هذه الأُمّة المتخلّفة، أُمّة متحضّرة سائرة في ركاب الحضارة، وأوجد مدينة فاضلة قلّما يشهد التاريخ لها من نظير.

 

كانت الجزيرة العربية غاصّة بالفساد من كافة الجوانب، فكان يسودهم الشرك وعبادة الأوثان، ووأد البنات، وقتل الأولاد، والإغارة، وقتل النفس، والبخس في الميزان، إلى غير ذلك من مساوي الأخلاق ورذائلها. وإصلاح أُمّة كهذه، رهن أمرين:

التشريع الكامل.

المنفِّذ الحاذق الذي يكون في مستوى ذلك التشريع الكامل.

وما هذا الانقلاب الحضاري الذي طرأ عليهم إلّا بفضل هذين الأمرين.

 

ومن وقف على آيات الأحكام في القرآن يجد فيها غزارة المادة، وروعة التشريع، وشمولها للعبادات والمعاملات والإيقاعات والسياسات، فنستعرض الموضوعات التي تبنّاها القرآن بالتشريع.

فمن العبادات: الصلاة، والصوم، والحج، والعمرة.

ومن المعاملات: البيع، والربا، والعقود كلّها.

ومن الإيقاعات: الطلاق، والإيلاء، والظهار، والوصية.

ومن السياسات: القصاص، والحدود، كحد الزاني والقاذف والسارق وقطاع الطرق. ويلحق بها الجهاد بشتّى أقسامه، والعهود، والمواثيق المنعقدة بين الحاكم الإسلامي وخصومه، وأسرى الحرب، وغنائمها.

 

هذه نماذج من نظام التشريع القرآني الذي عُدّ رصيداً في بناء الحضارة الإسلامية وإعادة الإنسان إلى الحياة الحرّة الكريمة. وقد اعترف أعداء الإسلام بهذه الحقيقة، قال الدوزي: «وبعد ظهور الذي جمع قبائل العرب أُمّة واحدة، تقصد مقصداً واحداً، ظهرت للعيان أُمّة كبيرة، مدّت جناح ملكها من نهر تاج إسبانيا إلى نهر الجانج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدّن في أقطار الأرض، أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة». ثمّ قال: «إنّهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأُمم، وانقشعت بسببهم سحائب البربرية التي امتدت إلى أوروبا حين اختلّ نظامها بفتوحات المتوحشين».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). البلاذري: فتوح البلدان: 457.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 33.

(1). البداية والنهاية: 1 / 290؛ السيرة الحلبية: 1 / 132.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد