
ترجمة: عدنان أحمد الحاجي
تفيد دراسة جديدة (1) بأن الشمبانزي يفكر "بطريقة علمية،" إذ إنه قادر على تغيير رأيه إذا ظهرت له أدلة جديدة مقنعة تثبت خطأ قناعاته (2) السابقة.
في إحدى التجارب حين طلب الباحثون من الشمبانزي الشائع (3) (الاسم العلمي: Pan troglodytes) التعرف على الصندوق الذي يحوي قطعة حلوى لذيذة مخبأة في أحد صندوقين، قيّم الشمبانزي أدلة مختلفة متوفرة لديه. ووجد الباحثون أنه غيَّر خياراته حين ظهرت له أدلة جديدة تخالف الأدلة السابقة، وتشير إلى وجود قطعة الحلوى في الصندوق الآخر.
تُمثل هذه النتائج دليلًا على أن الشمبانزي يستخدم إدراك الإدراك (أو التفكير في التفكير، أو ما وراء الإدراك، أو أن يفكر في كيف يفكر – metacognition (4)، لتقييم المعلومات واتخاذ قرارات مدروسة والتخطيط وفقًا لها).
"عندما يراجع الشمبانزي قناعاته السابقة، فإنه يفكر بوعي في الأدلة المتوفرة لديه ويقيمها ويكوِّن صورة ذهنية واضحة (أو نموذجًا واضحًا) لها ويحتفظ بها كمفهوم ذهني حتى يتمكن من اتخاذ قرارات مستنيرة". هذا ما قاله يان إنغلمان Jan Engelmann، الباحث المشارك في الدراسة وباحث علم النفس المقارن بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، لموقع لايف ساينس.
يستخدم البشر عادةً إدراك الإدراك لتقييم الأدلة المختلفة ووضع خطط بناءً على المعلومات المتوفرة والمستجدة حينئذ. وعادةً يُحدّث البشر استراتيجياتهم لو لم تسرِ الأمور والخطط التي رسموها كما يأملون وفقًا للأدلة المتوفرة حينها.
لطالما عرف الباحثون قدرة الرئيسيات، مثل الشمبانزي، على تقييم الأدلة المتوفرة (5). يبحث الشمبانزي عن الطعام بتتبع الأدلة (مثل آثار أو مسارات فتات الطعام المتناثرة على الطريق حتى يسترشد بها على مصدر الطعام)، وإذا لم تكن الأدلة المتوفرة واضحة أو كافية يسعى للحصول على مزيد من المعلومات.
لكننا لم نكن نعرف ما إذا كان الشمبانزي قادرًا على إدراك الإدراك (أو التفكير في التفكير): تغيير القناعات السابقة استجابةً للأدلة المقنعة الجديدة. استخدم فريق إنغلمان عدة اختبارات سلوكية للإجابة على هذا السؤال، تضمنت جميعها مكافآت غذائية موضوعة في أحد صندوقين. في الاختبارين الأولين، دُرب الشمبانزي على اختيار أحد الصندوقين لاستلام الطعام، وعُرض عليه دليلان متناقضان عن الصندوق الذي فيه الطعام. عُرض على الشمبانزي دليل، فاختار صندوقًا، ثم أُعطي الدليل الآخر، وسُمح له بالاختيار مرة أخرى. وبمراقبة ما إذا كان الشمبانزي يّغيّر خياره بعد معرفة الدليل الجديد، استطاع الباحثون معرفة ما إذا كان يستخدم مهارة إدراك الإدراك - أي التفكير في قناعاته السابقة وتحديثها بناءً على المعلومات الجديدة.
لكن هذه النتائج لم توضح للباحثين لماذا غير الشمبانزي رأيه. لذلك، حاول الباحثون فهم لماذا غيّر الشمبانزي رأيه، وذلك لمعرفة ما إذا كان يفكر فعلًا في الأدلة المتوفرة، أم أنه اختار تلقائيًّا بلا تفكير أو تأمل في الأدلة المتوفرة. بالضبط كما "بإمكان أي منا أن يغير رأيه تلقائيًّا بلا تفكير في الأدلة المتوفرة لديه". بمعنى آخر، لا يعني تغيير الشخص رأيه دائمًا أنه درس وقيم الأدلة أو تأمل فيها قبل أن يتخذ قرارًا مستنيرًا.
لذلك، صمم الباحثون اختبارًا ثالثًا لمعرفة ما إذا كان الشمبانزي يفكر بالفعل في أنواع مختلفة من الأدلة قبل الاختيار. في هذا الاختبار، عرضوا على الشمبانزي ثلاثة صناديق. احتوى أحد الصناديق على أدلة قوية على أنه يحتوي على طعام، والصندوق الثاني على أدلة ضعيفة، وليس هناك أي دليل على أن الصندوق الثالث يحتوي على أي شيء. وقبل أن يتمكن الشمبانزي من الاختيار، أُزيل الصندوق الذي يمتلك "أدلة قوية على أن فيه طعامًا"، وبات الشمبانزي أمام خيارين، فاختار باستمرار الصندوق الذي يمتلك الدليل الضعيف ولم يختر الصندوق الذي لا يمتلك أي دليل على الإطلاق. وأوضح إنغلمان أن هذا يُبين أن الشمبانزي أخذ بعين الاعتبار كلًّا من الأدلة القوية والضعيفة في اتخاذ قراراته، بدلًا من الاكتفاء بأخذ الأدلة القوية دون التأمل في الخيارات الأخرى المتاحة.
وهذا يثبت أن الشمبانزي ما زال يتذكر الأدلة السابقة، ولذا قارنها ببعضها من حيث درجات قوتها. ومن ثم اتخذ قرارًا منطقيًّا حتى بعد اختفاء الصندوق الذي يمتلك الدليل القوي على وجود الطعام، والذي كان يمثل الخيار الأفضل. بعبارة أخرى، لم تكن خيارات الشمبانزي خيارات تلقائية، بل كان يتأمل في جميع الأدلة المتوفرة، قبل أن يتخذ قرارًا مستنيرًا.. هذا التصرف يدل أن الشمبانزي لديه القدرة على إدراك الإدراك، إذ يُظهر قدرته على التفكير فيما يعرفه قبلًا (وذلك لأنه ما يزال يتذكر الأدلة السابقة ويقارنها بالأدلة الجديدة) ويستخدم هذه القدرة للاستنارة بها في قراراته اللاحقة.
في التجارب الأخيرة التي أجراها الباحثون، اختبر الباحثون قدرتين من قدرات إدراك الإدراك عند الشمبانزي. عرض الباحثون على الشمبانزي صندوقين، أحدهما يحتوي على أدلة قوية والآخر على أدلة ضعيفة تتعلق باحتوائهما على طعام. ثم أضافوا دليلًا ضعيفًا آخر إلى أحد الصندوقين. وفي بعض الأحيان، كان هذا الدليل الجديد هو نفسه الدليل السابق (مثلًا، هز الصندوق لإثبات أنه يحتوي على شيء بداخله). وفي أحيان أخرى، كان الدليل المقدم مختلفًا عن الدليل السابق (مثلًا، صوت الباحث وهو يسقط طعامًا ثانيًا داخل الصندوق). وجد الباحثون أن الشمبانزي غير خياره فقط حين كان الدليل الجديد مختلفًا عن الدليل الأول - أي حين أصبح لديه دليلان مختلفان، لا دليل واحد مكرر.
هذه المرة، بعد أن قدّم الباحثون الصندوق الذي يمتلك الدليل الضعيف والصندوق الذي يمتلك الدليل القوي، قدّموا دليلاً ضعيفاً آخر. كان هذا إما نفس الدليل الضعيف السابق - حيث هزّ الباحثون الصندوق لإثبات وجود شيء بداخله - أو دليلاً جديداً: صوت باحث يُسقط قطعة طعام ثانية في الصندوق.
كان القردة أكثر ميلاً لتغيير رأيها واختيار ذلك الصندوق عندما سمعت دليلين مختلفين، بدلاً من سماع الدليل نفسه مرتين، مما يُظهر أنها أخذت في الاعتبار مدى تضافر الأدلة المختلفة لتعزيز الحجة. وهذا بحد ذاته دليل على أن الشمبانزي يمتلك مهارة إدراك الأدراك.
في الاختبار الأخير، بعد أن حسم الشمبانزي قراره، قدّم له الباحثون أدلة جديدة تُناقض الأدلة القديمة. على سبيل المثال: في السابق، سمع الشمبانزي صوت خشخشة يشي بوجود طعام في داخل الصندوق - لكن بعد ذلك بين له الباحثون أن صوت الخشخشة الذي سمعه كان صوتًا صادرًا من حصاة داخل الصندوق، وليس صادرًا من طعام فيه. حينها، غيّر الشمبانزي رأيه، وابتعد عن ذلك الصندوق. وهذا يعني أن الشمبانزي لم يكن يضافر الأدلة فحسب، بل كان يُعيد تقييم قناعاته السابقة إذا وجد معلومات جديدة تتعارض مع ما كان مقتنعًا به سابقًا.
وهذا بالضبط ما يفعله الإنسان حين يوظف إدراك الإدراك ليقيم، ويكيف قناعاته بناءً على الأدلة الجديدة والمقنعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- https://www.science.org/doi/10.1126/science.adq5229
2- https://ar.wikipedia.org/wiki/شمبانزي_شائع
3- https://hbrarabic.com/المفاهيم-الإدارية/معتقدات/
4- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/إدراك_الإدراك
5- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0010027724001847
المصدر الرئيس
المدينة الفاضلة المهدويّة
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
معـاني الحرّيّة (2)
الشيخ محمد مصباح يزدي
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ!
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
إلقاء موسى موسى (ع) الألواح، ومشاجرته أخاه هارون (ع)
الشيخ جعفر السبحاني
النسيان من منظور الفلسفة الدينية (1)
الشيخ شفيق جرادي
الشمبانزي متمكن من التفكير أيضًا!
عدنان الحاجي
أدر مواقفك بحكمة
عبدالعزيز آل زايد
معنى (نعج) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
ما بعد فلسفة الدين…ميتافيزيقا بَعدية (5)
محمود حيدر
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ الضمير في: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾!
الشيخ محمد صنقور
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
اطمئنان
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
المدينة الفاضلة المهدويّة
معـاني الحرّيّة (2)
إيران: إطلاق موقع المحادثة مع تفاسیر القرآن الكريم بالذّكاء الاصطناعيّ
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ!
إلقاء موسى موسى (ع) الألواح، ومشاجرته أخاه هارون (ع)
النسيان من منظور الفلسفة الدينية (1)
الشمبانزي متمكن من التفكير أيضًا!
معـاني الحرّيّة (1)
أدر مواقفك بحكمة
علماء يبتكرون كلية (عالمية) تناسب جميع فصائل الدم