علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (6)

التاسع: المثنَّى أو الحقّ المخلُوق بِه:

 

يكتشف العارف خلال معراجه المعرفيِّ واختباراته المعنويَّة سرَّ الوجود في ذاته. وهو في هذا يتفادى الجدل الذي يشهده فقه الفلسفة لجهة التعارض بين الخلق من العدم والخلق من شيء، وهو تعارض لا نعرف معه الخاصّيَّة التي يتمتَّع بها الحقُّ المخلوق به فلا يشاركه فيها أيُّ مخلوق. فهو مخلوق متفرِّد بذاته، فاعل بالخلق منفعل بالحقِّ الأعلى ولذلك حظي بمنزلة الخلق الأول والتجلّي للكلمة الإلهيَّة البدئيَّة «كن». فهذه الكلمة يمثِّلها ابن عربي بـ «النفس الإلهيّ. وهي تعني الانبلاج كما ينبلغ الفجر. وأمَّا الخلق هنا فهو أساس كشف الذات الإلهيَّة لنفسها، ولذا فلا مجال هنا للخلق من عدم لفتح هوَّة لا يمكن لأيِّ فكر عقلانيٍّ أن يمدَّ فوقها جسرًا، لأنَّ تلك الهوَّة نفسها وبطابعها التمييزيِّ تقوم بالمعارضة والإبعاد بين الأشياء. فالتنفُّس الإلهيُّ يخرج ما يمسيه ابن عربي نَفَسًا رحمانيًّا وهذا النَفَسُ هو الذي يمنح الوجود والحياة لكلِّ الأجسام «اللطيفة» التي تشكِّل الوجود الأوليَّ والتي تحمل اسم العماء[1].. في هذا المجال يشير المفكِّر الفرنسيُّ هنري كوربان إلى الحديث المنسوب إلى النبيِّ لمَّا سُئل أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فأجاب: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء.

 

يرى كوربان أنَّ هذا العماء الذي يصدر عنه والذي فيه يوجد أزلًا الكيان الإلهيّ، هو نفسه الذي يقوم في الآن ذاته بتلقّي الأشكال كلِّها، ويمنح للمخلوقات أشكالها: إنه نشط وسكونيٌّ، متلقٍّ ومحقِّق، وبه يتمُّ التمييز داخل حقيقة الوجود باعتبارها الحقَّ في ذاته. إنه من حيث هو كذلك الخيال المطلق واللَّامشروط. وعمليَّة التجلّي الإلهيِّ الأصليَّة التي من خلالها «يظهر» الوجود لنفسه بالتميز في وجوده الخفيّ، أي بإظهاره لذاته ممكنات أسمائه وصفاته والأعيان الثابتة، هذه العمليَّة تعتبر خيالًا فاعلًا وخلَّاقًا وتجلّيًا. العماء بهذه الدلالة هو الخيال المطلق أو التجلّي الإلهيُّ أو الرَّحمة الموجِدة، تلكمُ هي بعض المفاهيم المترادفة التي تعبِّر عن الواقع الأصل نفسه، أي الحقَّ المخلوق به كلُّ شيء، وهو ما يعني أيضًا «الخالق المخلوق». فالعماء هو الخالق، بما أنَّه النفيس الذي يصدر عنه لأنَّه مخبوء فيه: وهو من حيث هو كذلك اللَّامرئيُّ و«الباطن». والعماء هو المخلوق باعتباره ظرفًا ظاهرًا. فالخالق المخلوق يعني أنَّ الوجود الإلهيَّ هو المحجوب والمكشوف أو أنَّه هو الأول والآخر[2].

 

تتضمَّن كلمة «كن» التي كان بها الحقُّ المخلوق به كل شيء، إيحاءً غيبيًّا من خالقه مؤدَّاه: «لست أنت الذي يخلق حين تخلق، ولهذا فخلقك حقيقيّ. وهو حقيقيٌّ لأنَّ كلَّ مخلوق له بعد مزدوج: فالخالق المخلوق ينمذج وحدة الأضداد. ومنذ الأزل وهذه المصادفة متأصِّلة في الخلق لأنَّ الخلق ليس من عدم وإنَّما هو تجلٍّ، ومن حيث هو كذلك فهو خيال. فالخيال الخلَّاق هو خيال شهوديٌّ، والخالق مرتبط بالمخلوق المتخيّل، لأنَّ كلَّ خيال خلَّاق هو تجلٍّ وتجدُّد للخلق. وعلم النفس لا ينفصل عن علم الكون: وخيال التجلّي يصرفهما في سيكوكسمولوجيا. وبالحفاظ على هذه الفكرة حاضرة في الذهن يلزمنا مساءلة ما يكون عضوها في الكائن الإنسانيِّ، أي عضو الرؤى والتنقيل، وتحويل كلِّ الأشياء إلى إشارات ورموز.[3]

 

العاشر: المثنَّى بما هو الوجود المنبسط:

 

تعدَّدت الآراء حول كيفيَّة صدور الكثرة عن الصادر الأوَّل. لكن الرأي الشائع في الحكمة الإسلاميّة ما ذهب إليه الفارابي وابن سينا من أنَّ العالم صدر من الصادر الأوَّل على نحو الترتيب والترتُّب. وظهرت قاعدة “الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد” من أبرز القضايا الإشكاليَّة في تاريخ الميتافيزيقا والعلوم الإلهيَّة. ومن الباحثين من يشير إلى أنَّ هذه القاعدة لم تكن مسلَّمة عند الحكماء[4]، ومنهم من تصدَّى لها بالنقد والتفنيد، في مقدَّمهم الفيلسوف أبو البركات البغدادي (ت 447هـ)، حيث بيَّن أنَّ حكماء المشَّائيَّة من المسلمين لم يستعملوا هذه القاعدة استعمالًا صحيحًا[5].

 

وبناءً على أنَّ الواحد لا يصدر عنه إلَّا واحد، كَثُر التساؤل عن ماهيَّة وطبيعة وصفة ذلك الواحد الصادر أوَّلًا من المبدأ الأعلى. في تعريفات مدرسة الحكمة المتعالية أن الصادر الأوّل ممكن لا يحتاج إلى غيره من الممكنات بل يجب أن يكون هو واسطة في وجودها، وينحصر احتياجه إلى الواجب نفسه وحسب، وهي ترى إليه على أنَّه الممكن الأشرف. والوجود المطلق المنبسط. وهو أوّل ما ينشأ من الوجود الحقّ. ويجمع صدر الدين الشيرازي بين القولين أي الممكن الأشرف والعقل الأوّل باعتبار هذا الأخير صادرًا أوّل بالقياس إلى الموجودات المتعيّنة المتباينة المتخالفة الآثار. فالأوّليَّة ههُنا بالقياس إلى سائر الصوادر المتباينة الذوات والوجودات، وإلَّا فعند تحليل الذهن العقل الأوّل إلى وجود مطلق وماهيَّة خاصَّة ونقص وإمكان حكمنا بأن أوّل ما ينشأ هو الوجود المطلق المنبسط ويلزمه بحسب كلِّ مرتبة ماهيَّة خاصَّة، وتنزَّلٌ خاصٌّ يلحقه إمكان خاصّ[6]”.

 

وللفيلسوف الملَّا هادي السبزواري تعريف آخر يبدو فيه أقرب إلى ما يقرِّره أهل العرفان. فهو يرى أنَّ: “الوجود المنبسط ليس صادرًا إنَّما هو صدور حقيقيٌّ وإشراقه تعالى الفعلي ولا مستشرق هناك ولو بالتعمّل. فالعقل أوّل الصوادر وليس مسبوقًا بصادر وإن كان مسبوقًا بالصدور[7]”، ولعلّ مراده بالصدور هنا، كما يظهر عند تتبُّع عباراته في موارد مختلفة، هو ظهوره تعالى ومعروفيَّته، وظهور الشيء لا يباينه. ثمّ بعد صدور العقل الأوّل تتوالى الصدورات وتحصل الكثرة في العالم، فالعقل الأوّل وإن كان واحدًا لكن فيه كثرة اعتباريَّة، فإنَّ له وجودًا وماهيَّة، وأنَّه مجرَّد عقل له تعقُّل لذاته وتعقُّل لمبدئه، حينئذٍ بتعقُّله لمبدئه يصدر العقل الثاني وبتعقُّله لذاته يصدر الفلك الأقصى، وهكذا العقل الثاني يصدر منه عقل ثالث وفلك ثانٍ، وتستمرُّ سلسلة الفيض والصدور هذه حتّى تصل إلى العقل العاشر، وهو العقل الفعَّال المكمِّل للنفوس الناطقة، ثمّ تتصل العقول الطوليَّة هذه بعقول أخرى عرضيَّة، فيكون ترتيب العوالم كالآتي[8]:

 

1 – عالم الجبروت، وهو عالم العقول مطلقًا (الطوليَّة والعرضيَّة)، العقول الطوليَّة تتقدَّم كلُّها على العقول العرضيَّة المتكافئة، وأنَّ العقول الطوليَّة هي أيضًا مرتبة بتقدُّم العقل الأوّل على الثاني، والثاني على الثالث، إلى أن ينتهي إلى آخر العقول الطوليَّة المتّصلة بالعقول العرضيَّة[9].

 

2 – عالم الملكوت، وهو عالم النفوس الكلّيَّة المحرِّكة للسماوات، “ثمَّ عالم المُثُل المعلَّقة وهو عالم المثال والخيال المنفصل أي عالم الصور المجرَّدة عن المادَّة المعبَّر عنه بعالم الذرِّ في القوس النزوليِّ، وعالم البرزخ في القوس الصعوديِّ بلسان الشرع”، والمُثُل المعلَّقة هذه تختلف عن المُثُل الأفلاطونيَّة (السابقة الذكر)، فالأخيرة مُثُلٌ نوريَّة عقليَّة بينما هذه عبارة عن أشباح مقداريَّة موجودة في عالم متوسِّط بين عالم المفارقات وعالم الماديَّات، وعالم المثال هذا هو أوّل ما ينفتح للإنسان عند غيبته عن العالم الجسمانيِّ، وفيه يشاهد أحوال العباد بحسن صفاء الباطن وقوّة الاستعداد، وأكثر ما يكاشف به أرباب المكاشفة من أمور غيبيَّة يكون في هذا العالم، فالكشف الذي يحصل للمرتاضين من أحوال الناس والحوادث التي تقع إنَّما يحصل فيه، ولكن لا يلتفت إليه الكُمَّل من أهل العرفان لكونه غير مخصوص بأهل الإيمان ولعدم اهتمامهم بالحوادث الزمانيَّة[10].

 

3 – عالم الملك والشهادة المعبّر عنه بالناسوت، وهو العالم المشتمل على الصور والمواد حيث تتقدّم الصورة على الهيولى “فآخر ما ينتهي إليه تنزُّل الوجود هو الهيولى، ولذا تكون مرتبتها مرتبة صف النعال من الوجود، وبها يختتم القوس النزوليُّ، كما أنَّ منها يفتتح القوس الصعوديُّ فيتصاعد إلى الصورة إلى عالم المثال إلى الملكوت إلى الجبروت إلى أن ينتهي إلى العقل الأوّل ما يناظر قوله تعالى (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)[11]، وهنا يكون التنزُّل من الأشرف إلى الأخسِّ حتّى ينتهي إلى الهيولى، والتّصاعد من الأخسِّ إلى الأشرف حتّى ينتهي إلى العقل الأوّل”[12].

 

الحادي عشر: وحدة الخالقيَّة في صيغة المثنَّى:

 

نستنتج ممَّا مرَّ معنا أنَّ الله تعالى خلق الخلق بصيغة المثنَّى، وهذه الصيغة الخالقيَّة هي بمثابة الإعراب الإلهيِّ عن التوحيد الأفعاليِّ الذي يمكن فهمه ضمن قاعدتين:

 

القاعدة الأولى تقول: ليس في عالم الوجود إلَّا خالقٌ أصيل ومستقلٌّ واحد، وأمَّا تأثير العلل الأخرى وفاعليتها فليست إلَّا في طول خالقيَّة الله وعليِّته وفاعليَّته ومحقَّقة بإذنه.

 

القاعدة الثانية تقول: لا مدبِّر للعالم إلَّا الله، ولا تدبير لغيره إلَّا بإذنه[13].

 

هاتان القاعدتان تميِّزان بين التوحيد في الخالقيَّة والتوحيد في التدبير والربوبيَّة. الربُّ هنا ليس بمعنى الخالق، وإنَّما بالمعنى الذي يُقصد منه إيكال الأمر إليه لإصلاح أمر الخلق فردًا كان أو جماعة. على أنَّ الربوبيَّة والخالقيَّة الَّلتين تنسبان إلى أفعال الله في العالم، إن هي إلَّا توسُّطات رحمانيَّة وألطاف إلهيَّة. وهو ما توضحه الآيات البيِّنات بأن ليس ثمة خالقٌ مستقلٌّ وأصيلٌ إلَّا الله. وأمَّا خالقيَّة ما سواه فهي في طول خالقيَّته تعالى وليس لها أيُّ استقلال في الخلق والإيجاد[14]. وهنا طائفة من الآيات تدلُّ على ما ذهبنا إليه:

 

(أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[15] (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[16] (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[17] (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[18] (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى)[19]

 

وهكذا فإنَّ جميع الأسباب والمسبِّبات، ورغم ارتباط بعضها ببعض بحكم قانون العلِّيَّة، فهي مخلوقة لله جميعًا، فإليه تنتهي العليَّة، وإليه تؤول السببيَّة، وهو معطيها للأشياء. وعليه، فالمراد من كون أفعال العباد مخلوقة هو أنَّها فعلًا له سبحانه بلا مشاركة العبد، بل المراد هو عدم استغلال العبد والعلل كلِّها في مقام الإنشاء والإيجاد، وإلَّا لزم أن يكون في صفحة الوجود فاعلون مستقلّون في الفعل وهو بمنزلة الشرك[20].

 

ولو تدبَّرنا الخالقيَّة من وجه كونها السرَّ الكامن في التوحيد الأفعاليِّ، لتكشَّفت حُجُبٌ شتَّى في المعارف التوحيديَّة. منها على الأخصِّ ما يتعلَّق بمخلوقيَّة المثنَّى والعلَّة الغائيَّة لإيجاده. نحن إذن، تلقاء كيان إلهيٍّ متوحِّد في جوهره اللَّامشروط، ولا نعرف عنه إلَّا أمرًا واحدًا يتعلَّق بالضبط بتلك الوحدة الأصليَّة التي جعلته  ينكشف في المخلوقات التي تظهره لنفسه طالما ظهر هو لها[21].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]– الفتوحات، ت. عثمان يحيى، الجزء الثالث.

[2]– ابن عربي – فصوص الحكم – الجزء الثاني – ص 313.

[3]– كوربان، هنري- المصدر نفسه – ص 184.

[4]العبيدي، حسام علي حسن – معالم العرفان عند الشيعة الإماميَّة (الملَّا هادي السبزواري) أنموذجًا – الناشر: العتبة العلويَّة المقدَّسة – النجف الأشرف – العراق 2011- ص 84-85.

[5]– إبراهيم، د. نعمة محمّد، علم ما بعد الطبيعة في فلسفة أبي البركات البغدادي، ط1، دار الضياء، النجف الأشرف، 2007، ص91، و196.

[6]– الشيرازي، الأسفار، ج2، ص270-271.

[7]– العبيدي، حسام علي حسن – المصدر نفسه- ص83.

[8]– المصدر نفسه – ص84.

[9]– الآملي، حسن زادة، في تعليقته على شرح غرر الفرائد، قسم الإلهيّات بالمعنى الأخص، ص272.

[10]– الآملي، حسن زادة – المصدر نفسه – ص273.

[11]– سورة الأعراف – الآية 29.

[12]– العبيدي – المصدر نفسه – ص 88.

[13]– المصدر نفسه- ص 331.

[14]– أنظر: السبحاني، جعفر، مفاهيم القرآن – تقرير: جعفر الهادي- ج1-  مؤسسة الإمام الصادق- ط 5- قم- إيران 1430هـ – ص 330.

[15]– سورة الأعراف – الآية 54.

[16]– سورة الرعد – الآية 16.

[17]– سورة الزمر – الآية 62.

[18]– سورة الأنعام – الآية 102.

[19]– سورة الحشر – الآية 24.

[20]– ابن تركه، صائن الدين – تمهيد القواعد – مصدر مرَّ ذكره- ص 182.

[21]– كوربان، هنري، الخيال الخلاق في تصوُّف ابن عربي – ترجمة: فريد الزاهي- منشورات مرسم- الرباط- المغرب- 2006- ص 162.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد