محمد رضا اللواتي
يَنْبغي الاعترافُ بأنَّ العَالَم لا يمتلك مَعْلومات كافية عن مدرسة الحِكْمة المتعالية بالنحو الذي يستطيع من خلاله أن يضع يَدَه على الأهمية الفلسفية التي تَكْمُن لها؛ وبالتالي يجعلها في المكانة التي ينبغي أن تكون فيها. “إنَّ معلوماتنا عن تطوُّر الفلسفة الإسلامية بعد القرن الثالث عشر محدودة جدًّا”(١).. ففي العالم العربي، انقسم الباحثون تجاه الفكر الفلسفي الإسلامي بعد مَوْت ابن رشد الأندلسي إلى اتجاهات، حسب معرفتهم بالحكمة المتعالية، يُمكن حصرها في أربعة:
فمنهم من اعتنق موت الفلسفة الإسلامية بموت آخر فلاسفتها -ابن رشد الأندلسي- كما نجده لدى هادي العلوي(٢)، ومنهم من اعتقد بأنه وعلى أقل التقديرات، ماتت المباحثة حول مأزق قدم العالم بشكل نهائي بتوقف وموت المتحاورين الشهيرين حولها: الغزالي في “تهافت الفلاسفة” وابن رشد في “تهافت التهافت”، كما نجد ذلك عند فخري(٣).
ومِنْهم من رأى أنَّ سير الفكر الفلسفي وتدفقه لم يُوقفه رحيل آخر ممثليه -ابن رشد- وعلى أقل التقديرات فإنَّ مسألة قِدَم العالم لم تكن محاورات الغزالي وابن رشد الحلقة الأخيرة فيها، كما نجد ذلك عند سعادة(٤)، الذي -وللتدليل على ذلك- أشار إلى النخب التي واصلت الطريق؛ فذكر: الرازي، ونصير الدين الطوسي، وصاحب “المحاكمات”، وجلال الدين الدواني، والسيد الشريف، إلا أنه لم يأت على ذكر صدر الدين الشيرازي، رغم أنَّ هذا الأخير هو من سجَّل الحلقة الأخيرة من المحاورة الفلسفية تلك عبر نظرية الحركة الجوهرية -كما سنأتي على ذكرها عن قريب.
يَنْتمي إلى هذا الاتجاه أيضًا: المقترح الذي قدمه عثمان أمين لإبراهيم مدكور حول النصوص الفلسفية التي تستحقُّ بمجموعها أن تكون حكمة متعالية، وهذه النصوص هي: رسالة “معرفة الوجود”، ورسالة “جامع الأسرار”، و”مقدمات على شرح فصوص الحكم لحيدر الآملي”، والمقدمات ذاتها “لداود القيصري”، والمقدمات على شرح التائية الكبرى “لعبدالرزاق الكاشاني”(٥)، دون أن يأتي على ذكر مدرسة الحكمة المتعالية لفيلسوف شيراز.
والاتجاه الأخير هو ذاك الذي ينتمي إليه أولئك الباحثون، على قلة عددهم، والذين توافروا على فرصة الاطلاع على مدرسة صدرالدين الشيرازي الفلسفية؛ فعدُّوها “دورة جديدة واستشرافًا لأفق إبداعي بعد مرور ألف سنة من تراكم التقاليد الفكرية في البيئة الإسلامية، وفي زمن الوهن الفكري والجمود النسبي”(٦)، و”ثورة تجديدية صَحَّحت وابتكرتْ وقلبت الكثير من المفاهيم”(٧)، و”وثبة معرفية كبرى لفلسفة وجودية حلَّت بها أحجية الوجود حلًّا لم يتمكن من كان قبله من أن يحلها بمن فيهم هيدغر في روائعه الزمانية، وسارتر، اللذان لم يقدما شيئًا جديدًا في مضمار الوجود، بخلاف الشيرازي”(٨).
وكَان الباحث إدريس هاني قد صرَّح كذلك بأنه ليس من الإنصاف اعتبار الحكمة المتعالية استرجاعًا سينويًّا أو إشراقيًّا، تلفيقيًّا أو اقتباسًا، بل فلسفة تمتاز بثوريَّتها في أعلى ذهنية ناقدة في تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية، وهو وصف في غاية الموضوعية؛ لأننا أمام فيلسوف يُمكن وصفه بأعلى مصاف المغيِّرين لمجرى تاريخ الأفكار -خاصة الفلسفية- أمثال أرسطو وديكارت وكونت”(٩).
السُّطور التالية تسلِّط الأضواء على أحد نتاجات الحكمة المتعالية؛ وهو: ابتكار صدر الدين لنظرية “الحركة الجوهرية في صميم الطبيعة”، والتي رفدت حزمة مبتكرة من الحلول، وفكت إشكاليات ظلت عالقة طوال مسيرة الفكر الفلسفي عبر التاريخ، نُشير إليها سريعا في النقاط التالية:
أولا: نقل الملا صدرا الحركة إلى صميم الوجود، وعد البحث فيها بحثًا في الوجود؛ فكما أنَّ البحثَ في الألوهية ينبغي أن يمرُّ من الوجود، وبالوجود وإلى الوجود، كذلك البحث في الحركة ينبغي أن يكون تدبُّرًا خالصًا في الوجود فحسب. وسبب هذه النقلة هو أنه أقام قاعدة “أصالة الوجود” والتي انفرد بإثباتها مُغيِّرًا وجه الفلسفة الإسلامية التي كانت قد تبنَّت مُنذ نشأتها مبدأ أصالة الماهية. لقد أضحتْ قاعدة “أصالة الوجود ووحدته وتشككه” قوام مدرسة الحكمة المتعالية(١٠).
“تدخُل الحركة في صميم الوجود وبنيته الداخلية، لا صفاته وأعراضه فحسب كما التزم أسلافه. وتقوم الحركة الجوهرية لدى فيلسوفنا على مبدأ “أصالة الوجود”، وأنه هو المتحقق في الخارج وليس الماهية، إلا انتزاعًا عقليًّا منه، أو انعكاسًا ذهنيًّا له”(١١).
لم يلغِ الشيرازي الكثرات ليرتمي في المثالية المنكِرة للواقع من حوله؛ فيتحوَّل مذهبه في وحدة الوجود إلى إنكار ما حوله من الواقعيات.. كلا، وإنما أعاد تفسيرها بأطوار الوجود ومراتبه. الوجود واحد بالوحدة الحقيقية، ولكن له شؤون وأطوار ذاتية؛ فمن مراتبه الكمال الذي يكون فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى مدة وعدة وشدة، ومن مراتبه الانحدار الشديد إلى أبعد درجات النزول حيث عالم الصيرورة والحركة.
عالم الطبيعة من الوجود، وله حركة اشتدادية ينتقل عبرها من حال إلى حال، مُحتفظًا بهويته وسط التحولات. فالثنائية المتطرفة بين الوجود المادي والوجود المجرد عند أفلاطون، رغم ما جرى عليها من تخفيف عند أرسطو وأتباعه، إلا أن ذلك لم يُخرجها من الثنائية. الفلسفة بشكل عام، كما نرى ذلك جليًّا لدى ديكارت، والفلسفة الإسلامية بشكل خاص كما هي الحال لدى الرئيس ابن سينا، ظلَّت ترزح تحت ثقل هذه الثنائية، إلى أن أمكن لفيلسوفنا أن يُبرهن على أصالة الوجود ووقوع التشكك فيه؛ وبذلك فقد ألغى الفواصل بين أطوار الوجود نهائيا. “إننا أمام فهم متصل للوجود لا ثغرات فيه”(١٢).
ـــــــــــــ
1. بور، رضا حاجت: ماهية الكمال وفكرة الحركة الجوهرية عند الشيرازي. ضمن : نظرات في فلسفة ابن سينا وملا صدرا الشيرازي، ص راجعه: مقداد عرفة منسية. سلسلة العلوم الاسلامية: المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، تونس، 2014.
2. العلوي، هادي: نظرية الحركة الجوهرية عند الشيرازي. ص20، ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،
3. فخري، ماجد: تهافت الفلاسفة، أنظر التصدير ص8، الطبعة الكاثوليكية بتحقيق الأب بويج، بيروت،
4. سعادة، رضا: مشكلة الصراع بين الفلسفة والدين من الغزالي وابن رشد إلى الطوسي والخواجة زاده، ص10، دار الفكر اللبناني، ط1 ،
5. أمين، عثمان: نصوص فلسفية. ص205: 214. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1،
6. الشافعي، حسن مجمود عبداللطيف: نظرية الحركة الجوهرية عند الملا صدرا في سياق الفكر الاسلامي. ورقة ألقيت في مؤتمر الملا صدرا عام 2001 في جزيرة كيش الايرانية، ضمن “الملا صدرا والفلسفة العالمية” ص291
7. أنظر مقدمة الدكتور صلاح الجابري على “أصالة الوجود عند الشيرازي من مركزية الفكر الماهوي الى مركزية الفكر الوجودي” للمؤلف كمال عبد الكريم الشلبي، ص8، دار صفحات للدراسات والنشر، ط1، دمشق،
8. هاني، ادريس: مفهوم الوجود المتعالي تأسيس عريق لرؤية مبتكرة. ضمن: مساءلة الوجود على ضوء الواقعية الصدرائية، ص180، دار المعارف الحكمية، ط1 بيروت،
9. هاني، أدريس: ما بعد الرشدية. ص52، مركز الغدير للدراسات الاسلامية، ط، بيروت، ط1، 1420 للهجرة.
10. بعض الباحثين يقرأ هذا المبدأ بنحو ثلاثة مبادئ هي أصال الوجود، ووحدته، وتشككه. أنظر مثلا مراتب المعرفة وهرم الوجود عند الملا صدرا للكاتب كمال إسماعيل ص
11. الشافعي، حسن محمود عبد اللطيف: نظرية الحركة الجوهرية عند ملا صدرا في سياق الفكر الاسلامي، ص ضمن: الملا صدرا والفلسفة العالمية المعاصرة.
12. الشلبي، كمال عبد الكريم: أصالة الوجود عند الشيرازي من مركزية الفكر الماهوي الى مركزية الفكر الوجودي. ص161، دار صفحات للدراسات والنشر، ط1، دمشق،
السيد عادل العلوي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلم الإلهامي برؤية جديدة
الشيخ عبد الجليل البن سعد: المجتمع الرّشيد
هل خلق آدم للجنّة أم للأرض؟
معنى (الدعاء الملحون)
اختلاف آراء الفلاسفة المادّيّين في حقيقة المادّة
كتاب الدّين والضّمير، تهافت وردّ
عوامل احتمال الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة الحادّة
صراع الإسلام مع العلمانية
طريقة إعداد البحث
القانون والإيمان باللّه