إيمان شنس الدين
٢ ـ القاعدة الثانية: التحيّز قد يكون حتمياً ولكنه ليس نهائياً:
فالتحيّز ليس بعيب أو نقيصة، بل على العكس يمكن أن يُجرّد من معانيه السلبية، ويصبح هو حتمية التفرّد والاختيار الإنساني.
واللغة الإنسانية رغم حدودها قادرة على تحقيق التواصل، وعلى مساعدتنا على تجاوز أشكال كثيرة من التحيّز، وعلى بناء نماذج معرفية هي نتاج تجربتنا الحضارية الخاصة، ولكنها بنفس الوقت تساعدنا على التعامل مع أنفسنا ومع واقعنا ومع الآخر. فمعنى أنه ليس نهائياً أي أنه ليس نهاية المطاف حيث يمكن تجاوزه، ولكن النهائي هو الإنسانية المشتركة والقيم الأخلاقية الإنسانية (5) .
إلا أن قول المسيري أن التحيز حتميًّا يحتاج توضيحًا وفق ما أفهمه للتحيزات الحتمية، كون الحتمي لا يمكن تجاوزه كما قال الدكتور المسيري، وقد يكون المسيري يقصد من الحتمية كونها أمرًا واقعيًّا تكوينيًّا في الإنسان ضمن تركيبته البيولوجية التكوينية، وتجاوزه يأتي من خلال التعلم والتدريب المعرفي البحثي والممارسة البحثية على الطرح الموضوعي وكسب ثقافة الخروج من الصناديق المعرفية المغلقة، دون التنازل عن الثوابت التي تشكل حقائق ثابتة في الهوية المعرفية، فالباحث أو المثقف لابد له من أن يتحيز للحقيقة والحق، لكن ذلك لا يتم إلا بعد أن يستعرض ويستقرئ كل الآراء التي طرحت بخصوص الموضوع محل البحث، أي أن يقوم بعملية ضرب للآراء ببعضها البعض، ومن ثم يخرج بالرأي الأقرب للحق والحقيقة، وينحاز له ليطرحه ويدافع عنه، وهذا الانحياز المعرفي هو انحياز صحيح وصحي في ذات الوقت، إلا أنه مشروط بعدة شروط أهمها:
١. أن يعتمد الباحث والمثقف في فهمه للواقع واستقصائه للمعارف على مصادر المعرفة البشرية المعتمدة من المدرسة التي تنتمي هويته إليها، مضافًا إلى ذلك اطلاعه على المدارس الأخرى في المعرفة.
٢. استقراء جل الآراء وأهمها المطروحة في الموضوع خاصة البحث، واستعراضها عرضًا نقديًّا علميًّا، ومن ثم الخروج وفق منظوره برأي.
٣.المراجعة النقدية لما توصل إليه من رأي، واعتباره عرضة للنقد والتطوير والتراكم المعرفي من قبل الباحثين والمثفين الآخرين.
٤. التجرد من الأنماط والرغبات الاجتماعية معرفيًّا "الشعبوية"، والتجرد من ثقافة الإجماع السلبية ومبدأ المشهور المعرفي العلمي.
٥. والأهم من كل ما سبق هي معيارية العدالة المرجعية في تشخيص صلاح هذا التحيز المعرفي لأن العدل معيار للحق، والانحياز للحق هو انحياز إيجابي، ولكي يحقق هذه المعيارية على المثقف أن يكون حرًّا في بحثه المعرفي.
وأغلب التحيزات المعرفية تعمد إلى حجب الحقيقة، ومن أهم مسببات التحيزات المعرفية هي:
١. البيئة والمحيط الاجتماعي والأسري، الذي يعمل على تنميط الأفكار والمنهجيات ومصادر المعرفة.
٢.مناهج التربية والتعليم التي تضعها الدولة، ويتربى عليها الطفل، ومناهج التدريس التي يستخدمها المعلم في تعليم التلاميذ.
٣.الانتماءات العصبوية بكافة أشكالها سواء القبلية أو المذهبية أو الطائفية.
٤.الأنماط الاجتماعية والإجماع السطحي القائم على الشعبوية بمعناها السلبي، فقوة الإجماع الشعبي تخلق تسالـمًا سطحيًّا للمعارف، وبالتالي تصنع جوًّا معرفيًّا متحيزًا بشكل غير منطقي وموجهًا للرأي العام، هذا الإجماع الشعبوي يستخدم فيه قوة خفية تفرض من خلالها هذه الإجماعات رأيها، وهذه القوة الخفية تتعلق بالشعور والرغبة الداخل نفسية بالانتماء للجماعة والخوف من الخروج والمخالفة، إلا أن المثقف عليه أن يتخلص من هذه المخاوف، وأن لا يخضع لهذه القوة الخفية التي يكتنزها الإجماع الشعبوي، وأن تكون نفسيًّا وشعوريًا متحررًا من الانتماء للجماعة ليصبح شعوره الأصيل الداخل نفسي هو الانتماء للحق والحقيقة، وفهم الواقع وملابساته لتعرية كل الوهم المرتكز في العقل الجمعي السلبي الأبعاد، وليناضل كمثقف وظيفته صناعة الوعي، يناضل لأجل استبدال هذا الوهم بالحقيقة.
٥.الثقافة والتربية الأحادية المتوارثة دون مراجعة وتمحيص، تصنع عقلًا أحادي المنهج والفكرة، وتخلق تحيزات معرفية لاغية لكل ما هو خارج هذا الصندوق المعرفي المتوارث، والمورث للاطمئنان التواضعي البسيط.
٦. التحيز المعرفي الناشئ عن أخلاقية الخضوع والانهزام النفسي أمام معارف الدول الأقوى حضاريًّا، والأكثر تقدمًا في الانتاج المادي والمعرفي، أي هو تحيز نتيجة الفارق الحضاري والانبهار، وهو تحيز له بعد نفسي، وله بعد معرفي. وهو من أكثر التحيزات التي يقع في شباكها المثقف.
ومن أهم ما يجب أن يلتفت إليه المثقف هو الخروج من التحيزات المعرفية التي تتعارض مع مبدأ العدالة والإنصاف، لأن وظيفته صناعة وعي واقعي قائم على أسس معرفية رصينة، وأدوات ومناهج سليمة علميًّا، كون التحيزات تعمل كمضادات حيوية للمعرفة والوعي، وكحُجُب موجهة للمعرفة باتجاهات محددة ومغلقة ونمطية. لذلك كان لزامًا على المثقف الرسالي الذي يتصدى لصناعة الوعي، وتطوير المعارف والعصرنة والمواكبة أن يعتمد على عملية النقد المستمر للذات، والمراجعة المستنيرة للأفكار والمناهج والمحتوى الفكري، وإلى المواكبة لكل التطورات المعرفية على الساحة الثقافية، والإلمام بمستحدثات الإشكاليات والمعارف التي تواجه المجتمعات، خاصة أن العولمة حولت المجتمعات إلى قرية صغيرة، تتناقل فيها المعارف وإشكالياتها بالعدوى المعرفية. وهو ما يستدعي المثقف للخروج المستمر من الصناديق النمطية، إلى فضاءات المعرفة المختلفة، لأن الوعي في حركة تكامل وكمال مستمر، والعقل في سيرورة وصيرورة معرفية تطورية مستديمة، لا تلغي الثوابت لكنها تحصنها بتطوير المتغيرات وفق الزمان والمكان، هذا فضلًا عن اتصافه بالإنصاف العلمي والمعرفي في اعتماده على مصادر معرفة متعددة، فهناك مثقفون يستبعدون مصادر معرفة بشرية كونها لا تتناسب وإيديولوجيتهم وعقيدتهم، مثل المثقف الذي يستبعد النص والعقل، ويعتمد فقط على الحس والتجربة، أو ذلك الذي ينكر دور الحس والتجربة، ويستبعدهما كمصادر ويعتمد فقط على النص والعقل مع تغليب النص وتهميش العقل وهكذا. لذلك المثقف عليه أن لا ينحاز إلا للحقيقة والحق التي تتطلبان منه أن يطلع على الآراء معتمدًا على كل مصادر المعرفة، التي من خلالها يعرف الإنسان ويتعلم ويفهم.
ــــــــــــ
5 مفهوم التحيز عند الدكتور عبد الوهاب المسيري/رغداء محمد أديب زيدان/ تم الاطلاع في ٢٤ـ مايوـ٢٠١٩/ http://www.grenc.com/show_article_main.cfm?id=16515
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان