إِنَّ ذاتَه سبحانه وأسماءَه وصفاتَه وأَفعاله، وإن كانت غيرَ مسانخة لـمُدْرَكات العالَم المحسوس، لكنها ليست على نحو يستحيل التعرف عليها بوجه من الوجوه. ومن هنا نجد أنّ الحكماء والمتكلمين يسلكون طرقاً مختلفة للتعرف على ملامح العالَم الرُّبوبي، وهم يرون أنّ ذلك العالم ليس على وجه لا يقع في أفق الإِدراك مطلقاً، بل هناك نوافذ على الغيب عقلية ونقلية، يرى منها ذلك العالم الفسيح العظيم.
وها نحن نشير إلى هذه الطرق:
الأول ـ الطريق العقلي:
إِذا ثبت كونه سبحانه غنياً غيرَ محتاج إلى شيء، فإِنَّ هذا الأَمر يمكن أَنْ يكون مبدأ لإثبات كثير من الصفات الجلالية، فإِنَّ كل وصف استلزم خللًا في غناه ونقضاً له، انتفى عنه ولزم سلبُه عن ذاته. وقد سلك الفيلسوف الإسلامي نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية حيث قال: «ووجوب الوجود يدل على سَرْمَدِيَّتِه، ونفي الزائد، والشريك، والمِثْل، والتركيب بمعانيه، والضّدّ، والتَّحَيُّز، والحُلول، والاتحاد، والجهة، وحلول الحوادث فيه، والحاجة، والأَلم مطلقاً واللذة المزاجية، والمعاني والأحوال والصفات الزائدة والرؤية».
بل انطلق المحقق من نفس هذه القاعدة لإثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال: «ووجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود، والـمُلك، والتّمام، والحقيّة، والخيريّة، والحكمة، والتجبر، والقهر، والقيوميّة» (1).
وقد سبقه إلى ذلك مؤلِّف الياقوت إذا قال: « وهو (وجوب الوجود) ينفي جملة من الصفات عن الذات الإِلهية وأنه ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا حالاًّ في شيء، ولا تَقُوم الحوادث به وإِلا لكان حادثاً» (2).
وعلى ذلك يمكن الإذعان بما في العالم الرُّبوبي من الكمال والجمال بثبوت أصل واحد وهو كونه سبحانه موجوداً غنياً واجبَ الوجود، لأجل بطلان التسلسل الذي عرفته. وليس إثبات غناه ووجوب وجوده أمراً مُشكلًا على النفوس.
ومن هذا تنفتح نوافذ على الغيب والتعرف على صفاته الثبوتية والسلبية، وستعرف البرهنة على هذه الصفات من هذا الطريق.
الثاني: المطالعة في الآفاق والأَنْفُس:
من الطرق والأصول التي يمكن التَّعرف بها على صفات الله، مطالعة الكون المحيط بنا، وما فيه من بديع النظام، فإنه يكشف عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيات الكامنة فيه، وكلّ القوانين التي تسود الكائنات. فمن خلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق أي مطالعة الكون، يمكن للإنسان أن يهتديَ إلى قسم كبير من الصفات الجمالية. وبهذا يتبين أَنّ ذات الله سبحانه وصفاته بحكم أَنها ليس كمثلها شيء ليست محجوبة عن التعرّف المطلَق وغيرَ واقعة في أفق التعقل، حتّى نعطل العقول ونقول: «إنما أُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإِدراك الربوبية». وقد أَمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق. يقول سبحانه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]. وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. وقال سبحانه: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6].
وقد سلك هذا الطريق المحقق الطوسي في إثبات صفة العلم والقدرة حيث قال: «والإِحكامُ والتَجَرّدُ واستنادُ كلِّ شيء إليه دليلُ العلم» (3).
الثالث: الرجوع إلى الكتاب والسنَّة الصحيحة:
وهناك أَصل ثالث يعتمد عليه أَتباع الشرع، وهو التعرف على أسمائه وصفاته وأفعاله بما ورد في الكتب السماوية وأَقوال الأنبياء وكلماتهم...
وباختصار، بفضل الوَحْي ـ الذي لا خطأ فيه ولا زَلَل ـ نَقِفُ على ما في الـمبدأ الأَعلى من نعوت وشؤون. فمن ذلك قوله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 23، 24].
الرابع: الكشف والشّهود:
وهناك ثلّة قليلة يشاهدون بعيون القلوب ما لا يدرك بالأبصار، فيرون جماله وجلاله وصفاته وأفعاله بإدراك قلبي، يدرك لأصحابه ولا يوصف لغيرهم. والفتوحات الباطنيّة من المكاشفات والمشاهدات الروحيّة والإلقاءات في الروع غير مسدودة، بنص الكتاب العزيز. قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي يجعل في قلوبكم نوراً تُفَرِّقون به بين الحقّ والباطل وتُمَيِّزون به بين الصحيح والزائف لا بالبرهنة والاستدلال بل بالشهود والمكاشَفَة.
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].
والـمراد من النور هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته، في معاشه ومعاده، في دينه ودنياه. (4). وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أنّ الـمؤمن يصل إلى معارف وحقائِق في ضوء الـمجاهدة والتّقوى، إلى أن يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية، قال سبحانه: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 5، 6].
نعم ليس كلّ من رمى أصاب الغرض، وليست الحقائق رمية للنّبال، وإنما يصل إليها الأمثل فالأمثل، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلاّ النزر القليل ممن خلص روحه وصفى قلبه. وقد بان بهذا البحث الإضافي، أنه ليس لمسلم التوقف عن محاولة التعرف على صفات الله وأسمائه بحجّة أنّه لا مسانخة بين البشر وخالقهم.
نعم، نحن لا ندّعي أنّ بعض هذه الطرق ميسورة السلوك للعامة جميعاً، بل منها ما هو عام متاح لكلّ إنسان يريد معرفة ربه، ومنها ما هو خاص يستفيد منه من بلغ مبلغاً خاصاً من العلم والمعرفة (5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تجريد الاعتقاد، باب إثبات الصانع وصفاته، ص 178 ـ 185.
2 ـ أنوار الملكوت في شرح الياقوت، ص 76 و 80 و 81 و 99.
3 ـ تجريد الاعتقاد، ص 172، طبقة مطبعة العرفان ـ صيدا.
4 ـ أما في الدنيا فهو النور الذي أشار إليه سبحانه بقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. وأَما في الآخرة فهو ما أَشار إليه سبحانه بقوله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12].
5 ـ راجع في الوقوف على مفتاح هذا الباب: مفاهيم القرآن، الجزء الثالث، ص 244 إلى ص 259.
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد صنقور
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
الشيخ حسين الخشن
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ جعفر السبحاني
السيد عباس نور الدين
الفيض الكاشاني
الشيخ علي آل محسن
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
شهر رمضان فرصة لا تعوّض، وغنيمة لا تفوّت
(مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)
فوائد معرفة إدارة الغضب في العمل
التفقه في الدعاء (9)
خديجة: الأنموذج الإنساني
الصدّيقة الكاملة
خديجة (عليها السلام) في كلمات بعض المؤرخين
أمّ المؤمنين خديجة: فخر الهاشميّات
البنى التحتية للثّورة الثقافيّة
درجات الصوم وآدابه