علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

تنظير الآخر الغربي (2)

الميتافيزيقا الحديثة ابنة ماضيها: ديكارت وكانط وارثان

 

في مفتتح كتابه الذي صدر عام 1763 بعنوان “بحث في وضوح مبادئ اللاهوت الطبيعي والأخلاق” ذكر إيمانويل كانط يومها أن الميتافيزيقا ـ هي بلا أدنى شك ـ تمثل أكثر الحدوس الإنسانيَّة قوة لكنها لم تُكتب بعد.. وفي كتابه المؤسِّس “نقد العقل الخالص” أراد كانط أن يدون الميتافيزيقا على هيئة لا قِبَلَ لها بها في سيرتها الممتدَّة من اليونان إلى مبتدأ الحداثة.

 

شعر وهو يمضي في المخاطرة كأنما امتلك عقلاً حراً، بعدما ظن أنه تحرَّر تماماً من رياضيات ديكارت. راح يرنو إلى الإمساك بناصيتها ليدفعها نحو منقلب آخر. لكن حين انصرف إلى مبتغاه لم يكن يتخيل أن “الكوجيتو الديكارتي” رَكَزَ في قرارة نفسه ولن يفارقها قط. ربما غاب عنه يومئذٍ أن تخلِّيه عن منهج ديكارت الرياضي لن ينجيه من سطوة “الأنا أفكر” ولو اصطنع لنفسه منهجاً آخر.

 

كانت قاعدته الأولى عدم البدء بالتعريفات كما يفعل علماء المنطق الرياضي، بل عليه البحث عما يمكن إدراكه في كل موضوع عن طريق البرهان المباشر. كأن يقوم المبرهَنْ عليه من تلك الإدراكات بالتعبير مباشرة عن نفسه بحكمٍ ما. أما قاعدته الثانية فقد نهضت على إحصاء كل الأحكام بشكل منفصل، والتيقُّن من أن لا يكون أيّ منها متضمَّناً في الآخر. وأخيراً وضع الأحكام الباقيَّة كأوليات أساسيَّة ينبغي بناء كل المعرفة اللاحقة عليها.

 

سَيبينُ لنا جرَّاء ما سَلَفَ أن النقد الكانطي للميتافيزيقا، لم يكن سوى إنشاء متجدِّد للشك الديكارتي بوسائل وتقنيات أخرى. فالمشروع النقدي الذي افتتحه كانط هو في مسراه الفعلي امتدادٌ جوهريٌّ لمبدأ الـ “أنا أفكر” المؤكِّدة لوجودها بالشك. وهو المشروع الذي أسس لسيادة العقل، وَحَصَر الهم المعرفي الإنساني كله بما لا يجاوز عالم الحس. لكن انهمام كانط بالعقلانيَّة الصارمة سيقوده راضياً شطرَ الكوجيتو الديكارتي حتى ليكاد يذوي فيه. الأمر الذي سيجرُّ منظومته الفلسفيَّة نحو أظِلَّة قاتمة لم تنجُ الحضارة الحديثة من آثارها وتداعياتها حتى يومنا هذا.

 

من معاثر “مبدأ الأنا أفكر” أنه أفضى إلى انبعاث الإلحاد في فضاء الفلسفة الحديثة. فقد جرت الألوهيَّة مع “الكوجيتو” وفق معادلة مختلة الأركان قوامها: الله الموجود هو مجرد نتيجة لـ «الأنا موجود». ومن معاثره أيضاً أن الإنسان ـ بوصفه مخلوقاً ـ يكوّن معرفته الخاصة ويجعلها تؤسّس ذاتها من دون مسبقات. الـ “أنا موجود” (ergosum) التي تلي «الأنا أفكّر» (cogito) هي تعبير عن كيان يريد إظهار نفسه بالتفكير والكينونة بمعزل عن الله، وبسبب من كونه عاجزاً عن فعل هذا، فإنه يمنع تجلّي نفسه وتجلّي الله في اللحظة عينها. زد على هذا أن الكوجيتو الديكارتي، بالأساس، يشكل انعطافة معرفيَّة نحو الأنا، في حين يفضي إلى أنانيَّة سياسيَّة ليبراليَّة ذات نظام سياسي واقتصادي شديدة الأنانيَّة.

 

منظومة كانط المسكونة بسلطان الكوجيتو ومعاثره، سوف تستدرج إلى تناقض بيِّن في أركانها. وللبيان نتساءل: كيف يمكن أن يستخدم كانط العقل كوسيلة ليبرهن أن هذا العقل لا يستطيع أن يصل إلى المعرفة الفعليَّة بالأشياء كما هي واقعاً؟ وكيف يمكن أن يعلن أن المرء لا يستطيع تحصيل معرفة الشيء في ذاته، وفي الوقت نفسه يستمر في وصف العقل كشيء في ذاته. واضح أن كل حجج كانط ـ كما يبين الفيلسوف الألماني فرانز فون بادر Franz Von Baader (1756 ـ 1841) ـ لا أساس لها ما لم تكن قادرة على وصف العقل كما هو في حقيقته. وهذا لا ينطبق على كانط فحسب، بل على جميع الحالات الشبيهة. فإذا كنّا لا نعرف إلا ظواهر الأمور، فكيف يمكننا أن نعرف العقل بذاته؟ وإذا كنا لا نعرف إلا الظاهر فقط، فهل ثمة معنى، في التحليل النهائي، لقولنا إننا نعرف شيئاً ما؟ وأما سبب هذه التناقضات ـ وفقاً لبادر ـ فتكمن في أن الفلسفة النقديَّة استثنت معرفة اللَّه والدين النظري من حقل المعرفة التي يمكن الحصول عليها عن طريق العقل.

 

اضطر كانط لمواجهة اليأس من التعرّف على “سرّ الشيء في ذاته”، إلى أن يبتني أسس المعرفة الميتافيزيقيَّة بوساطة العلم. استبدل التعريفات المجردة بالملاحظة التجريبيَّة، حتى لقد خُيِّل للذين تابعوه وكأنه يغادر الفلسفة الأولى ومقولاتها ليستقر في محراب الفيزياء. وليس كلامه عن أن “المنهج الصحيح للميتافيزيقا هو المنهج نفسه الذي قدمه نيوتن في العلوم الطبيعيَّة”، سوى شهادة بيِّنة على نزعته الفيزيائيَّة.

 

توسل كانط مرجعيتي هيوم ونيوتن لتسويغ “رغبته” في تحويل الميتافيزيقا إلى علم يقدر على متاخمة المشكلات الحقيقيَّة للعالم الحديث. ولقد أدرك منذ اللحظة التي سيتحول فيها مشروعه إلى عمل رسالي، أن للميتافيزيقا مقاماً غريباً بين العلوم، وأنها علم لا ينتهي رواجه أبداً بوصف كونها حاجة طبيعيَّة للبشر. مثل هذه الفهم جاء ليدحض ما قرره الفلاسفة الوضعيون لجهة إقصاء الفلسفة من مهمّة تدبير العالم. لقد رأى أن إلغاء الميتافيزيقا تماماً سيكون مستحيلاً، وأن أكثر ما يمكن فعله هو إزالة بعض الأنواع غير الصالحة منها، وفتح الباب أمام ما يسميه بالعقيدة العلميَّة الجديدة. وهي العقيدة التي سيضعها كانط تحت عنوان “الإمكان الميتافيزيقي” في العالم الطبيعي، وتقوم على التمييز المنهجي بين عالمين غير متكافئين: عالم الألوهيَّة وعالم الطبيعة.

 

لكن التمييز الكانطي بين هذين العالمين وإن جاء خلاّقاً على المستوى الأبستمولوجي، إلا أن أثره التأويلي سيجاوز الحدود والمقاصد المرسومة. فالتمييز الأبستمولوجي سيغدو فيما بعد تفريقاً بين الكائن المتعالي فوق الزمان والمكان، وبين الدين بما هو كائن تاريخي ثاوٍ في الزمان والمكان. مع هذا التفريق سينفجر التأويل وتتعدَّد القراءات ليُرى إلى كانط تارة كفيلسوفٍ تَقَويٍّ توارى إيمانه بين السطور والألفاظ، أو كملحدٍ لا يرى إلى الله إلا كمتخيَّل بشري.

 

لقد قيل بصدد هذا الـمُشكل أن هدف كانط من نقده لأدلة وجود الله لم يكن من أجل ترسيخ الإنكار النظري التام لوجود الله، بل لتمهيد الطريق لإثباتٍ أكثر أصالة لوجود الله. ومن خلال قصر كانط لمعنى “المعرفة” على الفهم العلمي للأشياء الظاهريَّة وقوانينها، وبإنكاره لإمكانيَّة امتلاكنا المعرفة النظريَّة بوجود الله، كان يُنكر إمكانيَّة معرفة الله بالطريقة نفسها التي نُدرك من خلالها أي شيءٍ مادي. وبما أن الله ليس جزءاً من العالم المادي بأي شكل من الأشكال، فلا يُمكن على نحوٍ أدق إثبات كونه موضوعاً للمعرفة النظريَّة. وإذا أردنا إثباته، فلن يكون ذلك من خلال بيئة المعرفة العلميَّة بل عبر نوع من الإثبات الذي يتجاوز المعرفة العلميَّة ويمكن إطلاق صفة الإيمان المنطقي عليه بسبب الافتقار لمصطلح أفضل.

 

بالتأكيد لن يُحمل على كانط أنه كان عدوّاً للإيمان، لكن عَيْبَه الموصوف أنه أسس لـ “مانيفستو فلسفي” يقطع صلات الوصل المعرفيَّة بين الله والعالم وبالتالي بين الدين والعقل. هذا هو الإجراء “الكوبرنيكي” الذي شقّ الميتافيزيقا إلى نصفين متنافرين (ديني ـ دنيوي) وما سينتهي إليه من غلبة الدنيوي على أزمنة مديدة من أنوار الحداثة.

 

مع هذا، فقد بدا كانط كما لو أنه فتح الكوة التي ستتدفق منها موجات هائلة تعادي التنظير الميتافيزيقي ولا تقيم له وزناً في عالم الإمكان الفيزيائي. أهل الميتافيزيقا المثلومة من مثل هؤلاء استطابوا الدرس الكانطي ولا يزالون عاكفين عليه كأمر قدسي. لقد أعادوا إنتاج القطيعة بين الكائن الذي لا يُدرك والموجود الواقع تحت راحة اليد. لذا حرصوا على وقف مهمة الميتافيزيقا حيناً عند حدود الحاجة الابستمولوجيَّة، وحيناً آخر من أجل استخدامه في عمليَّة التوظيف الإيديولوجي. وعليه فقط دأبوا على إحاطتها بسوار لا ينبغي فكّه إلا عند الاقتضاء. فلا تصبح الميتافيزيقا ممكنة إلا متى كان هناك مجال شرعي للمبحث الميتافيزيقي. في حين تكون العلوم التجريبيَّة هي الحاكم. بل هي وحدها القادرة، على إنبائنا ببنيَّة الواقع الأساسيَّة.

 

لم يكن الحاصل من تصيير الميتافيزيقا علماً متاخماً للعلوم الإنسانيَّة وسيَّالاً في ثناياها، سوى طغيان النزوع العقلاني على الثقافة الغربيَّة منذ أفلاطون إلى يومنا هذا. ولقد أكمل كانط رحلة الإغريق من خلال سعيه إلى إنشائها على نصاب جديد عبر تحويلها إلى موقف ينزلها من علياء التجريد إلى الانهمام بالعالم. لكن بدل الاكتفاء بالتمييز والإبقاء على خيط تتكامل فيه العمليَّة الإدراكيَّة للموجود بذاته والموجود بغيره، راح يفصل بين العالمين ليبتدئ زمناً مستحدثاً تحولت معه الميتافيزيقا إلى فيزياء أرضيَّة محضة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد