إذا أردنا أن نتعامل بتبسيط بياني مع بعض تأثيرات أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسألة التوحيد، لنصل إلى فكرة الوحدة الحقّة الحقيقيّة، فلابدّ أن نشرع من تمييز بسيط، وهو ما الفرق بين الوحدة العددية والوحدة الحقّة الحقيقيّة؟
الوحدة العددية هي التي يمكن أن يكون للواحد فيها ثانٍ تنتهي مساحة الواحد فيها عند الشروع في الثاني، فأنت تقول: في الغرفة شخص واحد، وهذا يعني أنّه يمكن أن يكون له ثانٍ، وإذا جاء الثاني فإنّ الأول لا يشمل الثاني، ولا يستوعبه، بل للواحد حدوده وللثاني حدوده، وهكذا. فإذا قلنا بأنّ الله واحد بالوحدة العددية فهذا يعني أنّه لا ثاني له واقعاً، لكنّه لا يثبت بالضرورة أنّه يستحيل أن يكون له ثانٍ من حيث ذاته؛ لأنّ الوحدة العددية لا تثبت الاستحالة المذكورة في مقام الذات، فإنّ زيدًا في الغرفة واحد، لكنّه مع ثبوت الوحدة العددية له لا تستطيع هذه الوحدة في حدّ نفسها منع وجود ثانٍ له في الغرفة، بل هي إذا ثبتت له تثبت له الوحدة لا ضرورة الوحدة واستحالة الثاني، فذاته لا تُلزم بوحدته وإذا لزمت وحدته فمن غيره.
هنا تقع براهين القائلين بأصالة الماهية وسائر المتكلّمين، فبراهينهم على الوحدانية ـ من وجهة نظر القائلين بأصالة الوجود ـ لا تجعل ذات الباري تعالى تثبت لها الوحدانية بالضرورة، بل هي تثبت من الخارج، كاستحالة التسلسل أو الدور أو لاستلزام التعدّد فساد العالم (برهان التمانع بصيغته القديمة)، وغير ذلك.
أمّا الوحدة الحقّة الحقيقيّة، فتعني أنّ الواحد لا ثاني له، ولا يمكن أن يكون له ثانٍ؛ لأنّ فرض ثانٍ غيره خلف كونه واحداً بالوحدة الحقة الحقيقيّة من الأوّل، وخلف ذاته عينها، إذ تعني محدودية وجوده، وهو محال على الله.
وهنا بدأت رحلة إثبات وحدانية الله بالوحدة الحقّة وفقاً لأصالة الوجود، حيث قيل بأنّ حقيقة الوجود لا تقبل العدم؛ إذ الشيء لا يقبل نقيضه، فليس في حقيقة الوجود عدم، والموجود من حيث هو موجود لا يقبل العدم، وإذا لم يكن في حقيقة الوجود عدم، فلا يمكن أن يكون في حقيقة الوجود محدودية؛ لأنّ المحدودية ليست إلا عدماً عندهم، فالوجود المحدود هو وجود إلى جانب عدم وجود، الأمر الذي انتزعنا منه فكرة الوجود المحدود، فعندما يكون وجود محدود، فهذا يعني أنّه موجود في مكان مثلاً (وهذا مجرّد تمثيل وتبسيط للقضية بمثال مكاني) وغير موجود في مكان آخر، فالوجود والعدم اجتمعا ـ إذا صحّ التعبير ـ لنخرج منهما صورة الوجود المحدود، وعليه فحقيقة الوجود لا تقبل العدم، إذن فلا تقبل المحدوديّة، وإذا كانت لا تقبل المحدودية فهي واجبة الوجود؛ لأنّ غير الواجب فقير وممكن ومحدود، وبهذا نثبت وجود واجب الوجود من نفس وجود الوجود، فليس إثبات واجب الوجوب بأمر يضاف إلى اثبات حقيقة الوجود في الخارج، والتي هي من البديهيات الأوّلية عند الفلاسفة العقليين الإسلاميين على المشهور (خلافاً لمثل السيد الصدر).
وهذا هو برهان الصديقين الصدرائي الذي يثبت وجود الله واجب الوجود بنفس التأمّل في حقيقة الوجود؛ لأنّ أصالة الوجود عندهم تُثبت بعينها أنّ الوجودَ لا ضدّ له، لأنّ الضد وجود ثانٍ متعاقب على موضوع والوجود لا موضوع له. وتثبت أنّ الوجود لا جنس ولا فصل ولا أيّ خاصية من خواص الماهيات له؛ لأنّه غير الماهية. ولا مثل له؛ لأنّ المثل للشيء هو ما شارك الشيء في ماهيته النوعية، والوجود لا ماهية له. وتثبت أنّ الوجود لا يقع جزءاً لشيء غيره؛ لأنّ المركّب والجزء الآخر إمّا وجود فلا يكون الشيء جزء نفسه، وأمّا عدم فلا أصالة له بل هو باطل، فلا يكون تركيبٌ من رأس. وتثبت أنّ الوجود لا جزء له؛ لأنّه بسيط؛ إذ التركيب فرع الماهية، فمن أيّ شيء يتركّب غير الوجود.
وإذا عبرنا وجود واجب الوجود، واكتشفنا أنّه مطلق لا محدودية له، فنقول: إنّ الشيء إذا كان مطلقاً فلا يمكن فرض ثانٍ له أبداً؛ لأنّه عندما نفرض ثانياً له فهذا يعني أنّ الثاني غير الأوّل، وعندما يكون الثاني غير الأوّل فهذا يعني أنّ الأوّل لا يشمل الثاني، وإلا كان خُلف غيريّته له، وعلى تقدير عدم شموله له يكون قد خرج عن الإطلاق، فينقلب محدوداً بعد أن كان مطلقاً، وهو خُلف.
وعليه فإذا شرعنا من نقطة (الوجود) التي هي حجر الزاوية في أصالة الوجود، فسوف نصل إلى فرض أنّ حقيقة الوجود لا ثاني لها، ولا يمكن تصوّر ثانٍ لها، فليس في الدار غير الله ديّار، وهذا هو برهان الصدّيقين الصدرائي الذي انطلق من حقيقة الوجود لإثبات الباري تعالى، وبنفس الطريقة وبمسافة قصيرة جداً إثبات توحيده، لأنّ حقيقة الوجود تعني الوجوب والوحدانية عنده.
ومن إطلاق الوجود ظهرت مشكلة المخلوقات، فلو كان وجود الله مطلقاً فهذا يعني أنّ هذا العالم إمّا عدم محض كما قال بعض المتصوّفة، وهو خلاف البديهة، أو وجود، وإذا كان وجوداً فإمّا هو الله، وهذه هي وحدة الوجود والموجود معاً، وإمّا غير الله، وإذا كان العالم وجوداً غير الله فكيف يكون وجود الله مطلقاً حينئذٍ؟!
من هنا نشأت فكرة الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة، ليقال بأنّ العالم عين الله وغيره، وأنّ الفرق بينهما هو في الشدّة والضعف الوجوديّين، فظهرت نظرية التشكيك الخاصّي الصدرائي التي تمثل العالم بأمواج البحر التي هي عين البحر وغيره في الوقت عينه دون أن يلزم تناقض أصلاً من وجهة نظرهم. ومن هنا أيضاً ظهرت فكرة التجلّي التي طرحها بقوّة ابن عربي، وتبلورت مع المدرسة الصدرائيّة عبر تحليل فكرة المعلولية بأنّها ليست إلا الفقر الوجودي، والفقرُ عدمٌ.
وخلاصة القول: إنّ السير مع أصالة الوجود يوصلنا إلى وجود واجب الوجود ووحدانيّته الحقّة الحقيقيّة، انطلاقاً من ذات الوجود، فذات الوجود هي عين وجوبه وعين وحدانيّته وعدم تكرّره ولا تثنّيه، أمّا على أصالة الماهية فإنّ وجود الواجب ووحدانيته إنّما يأتيان من خارجه، لا أنّ ذات الوجود تجعل الوجوب، ولا أنّ ذات الوجوب تفرض الوحدانية ضرورةً وقهراً.
السيد عباس نور الدين
حيدر حب الله
الشيخ حسين الخشن
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عدنان الحاجي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾
الفرق بين القلب والرّوح والنّفس وحقيقة عالم الذّرّ
هل يمكن بناء حضارة إسلامية جديدة؟
ما تأثير أصالة الوجود على الوحدة الحقيقية الحقّة للباري تعالى؟
العمل سرّ النجاح
مصادر تفسير القرآن الكريم (4)
(خيال الظّلّ) جديد الكاتب والنّاقد محمّد الحميدي
كيف يتأثر دماغ الطفل وحيد أسرته وسلوكه حين يصل إلى مرحلة الرشد
(ما تنكّر من عرش بلقيس)، الدّيوان الشّعريّ الثّالث لتهاني الصّبيح
(كتابك هديّتك) مبادرة ثقافيّة في صفوى