قرآنيات

كيف نزل القرأن وأول ما نزل منه (1)


 الشيخ محسن الأراكي

النظرية الأولى
وقد اختلف الباحثون الإسلاميون في وجه الجمع بين الأمرين وقد ذكروا في ذلك آراء ونظريات نعرض فيما يلي لأهمها:
وهي التي تعتبر للقرآن نزولين: النزول الأول إلى البيت المعمور أو بيت العزّة - حسب بعض التعابير- وهذا هو النزول الدفعي الذي أشارت إليه بعض الآيات السابقة، والنزول الثاني على النبي محمد صلى الله عليه وآله بالتدريج وطيلة المدة التي كان يمارس فيها مهمته القيادية في المجتمع الإسلامي.
وقد ورد في هذا بعض النصوص عن الإمام الصادق عليه السلام، فقد روي عنه في قوله عزّ وجل: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ كلام يقول فيه (إن القرآن نزل جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثم أُنزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة).
وقد نقل ما يقارب هذا عن ابن عباس أيضاً، فقد روي عنه أنه قال: أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أُنزل بعد ذلك بعشرين سنة. وقد خالف المحققون من علماء القرآن هذا الرأي ورفضوا النصوص التي وردت فيها ورموها بالضعف والوهن وأقاموا شواهد على بطلانه.
يقول الشيخ المفيد (ره) تعقيباً على هذه النظرية التي أخذ بها أبو جعفر بن بابويه الصّدوق: (الذي ذهب إليه أبو جعفر في هذا الباب أصله حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً، ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالاً فحالاً يدل على خلاف ما تضمنه الحديث، وذلك أنه قد تضمن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه وذلك لا يكون على الحقيقة إلا لحدوثه عند السّبب، ألا ترى قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ (النساء 100). وقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾ (الزّخرف20). وهذا خبر عن ماضٍ ولا يجوز أن يتقدم مخبره فيكون حينئذ خبراً عن ماضٍ وهو لم يقع بل هو في المستقبل، وأمثال ذلك كثيرة. ثم يستشهد رحمه الله ببعض الشواهد القرآنية الأخرى التي تؤكد النزول التدريجي للقرآن وتقوم قرينة على بطلان النزول الدفعي له.

ويناقش صاحب المنار هذه النظرية أيضاً ويرفضها قائلاً: (ورووا في حلّ الإشكال أن القرآن نزل في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات ثم نزل على النبي صلى الله عليه وآله في رمضان منه شيء، خلافاً لظاهر الآيات، ولا تظهر المنّة علينا ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم - على قولهم هذا - لأنّ وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السموات أو اللوح المحفوظ من حيث أنه لم يكن هداية لنا، ولا تظهر فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار به). إذن فأهم ما يرد على هذه النظرية يتلخص في شيئين:
1 - ورود الآيات القرآنية في بعض المناسبات الخاصة بحيث لا يعقل التكلم بتلك الآية قبل تلك المناسبة المعينة.
2 - عدم تعقل فائدة النزول الأول للقرآن من حيث هداية البشر فلا وجه لهذه العناية به في القرآن والاهتمام به ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.


النظرية الثانية
إن المراد من إنزاله في شهر رمضان وفي ليلة ابتداء القدر منه ابتداء إنزاله في ذلك الوقت ثم استمر نزوله بعد ذلك على الرسول صلى لله عليه وآله بالتدريج ووفقاً للمناسبات والمقتضيات.
قال صاحب المنار (وأما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أن المعروف باليقين أن القرآن نزل منجماً متفرقاً في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر - أي الشرف والليلة المباركة - كما في آيات أخرى وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه).
وقال الشيخ المفيد: (وقد يجوز في الخبر الوارد بنزول القرآن جملة في ليلة القدر أنه نزل جملة منه في ليلة القدر ثم تلاه ما نزل منه إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله).
ويبدو أن هذا الرأي هو الذي استقطب أنظار الأغلبية من محققي علوم القرآن والتفسير نظراً إلى كونه أقرب الآراء إلى طبيعة الأمور وأوفقها مع القرائن وظواهر النصوص القرآنية، فإن القرآن يطلق على القرآن كله كما يطلق على جزء منه، ولذلك كان للقليل من القرآن نفس الحرمة والشرف الثابتين للكثير منه، فنزول جزءٍ من القرآن - استهل به الوحي الإلهي في ليلة القدر من شهر رمضان - يصدق معه نزول القرآن في ليلة القدر وفي شهر رمضان.
وتأييداً لهذه الفكرة فإننا نحاول الاستفادة من التعابير الجارية بين عامة الناس حين يقولون مثلاً سافرنا إلى الحج في التاريخ الفلاني، وهم لا يريدون بذلك إلا مبدأ السفر، أو نزل المطر في الساعة الفلانية ويقصد به ابتداء نزوله، فإنه قد يستمر إلى ساعات ومع ذلك يصح ذلك التعبير.

وبعبارة أخرى، أننا نلاحظ صحة هذا النوع من الاستعمال في الأسماء التي تطلق على قليل المعنى وكثيره على السواء كالمطر والسفر وأمثالها بخلاف ما لا يطلق إلا على المعنى بكامله كالبيت مثلاً فإنه لا يصح في العادة أن يعبّر عن الشروع ببنائه بعبارة (بنينا البيت في الزمان الفلاني)، وكلمة ﴿القرآن﴾ كما أشرنا سابقاً تطلق على كلام الله مطلقاً قليله وكثيره، فمن الطبيعي إذن التعبير عن ابتداء نزوله بـ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وما شاكل ذلك من التعابير.
ولا بد أن نضيف على هذا الرأي إضافة توضيحية هي أن المقصود من كون ابتداء النزول القرآني في ليلة القدر من شهر رمضان ليس ابتداء الوحي على النبي صلى الله عليه وآله.. فإن افتتاحة الوحي المحمدي كانت لسبع وعشرين خلون من رجب على الرأي المشهور وكانت الآيات التي شعّت من نافذة الوحي على قلب الرسول صلى الله عليه وآله لأول مرة هي (إقرأ بأسم..إلخ)، ثم انقطع الوحي عنه لمدة طويلة ثم ابتدأه الوحي من جديد في ليلة القدر من شهر رمضان - وهذا الذي تشير إليه الآية المباركة - واستمر الوحي عليه صلى الله عليه وآله حتى وفاته.. وبما أن هذا كان بداية استمرار النزول القرآني فقد صحّ اعتباره بداية لنزول القرآن.


النظرية الثالثة
وهي النظرية التي اختص بها العلاّمة الطباطبائي، تعرّض لها باختصار مع توضيح، وهي تمثل لوناً جديداً من ألوان الفكر التفسيري انطبعت بها مدرسة السيد الطباطبائي في التفسير.
وهذه النظرية تعتمد على مقدمات ثلاث تتلخص فيما يلي:
1 - هناك فرق بين (الإنزال) و (التنزيل) فالإنزال إنما يستعمل فيما إذا كان المُنزَل أمراً وُحدانياً نزل بدفعة واحدة والتنزيل إنما يستعمل فيما إذا كان المُنزَل أمراً تدريجياً وقد ورد كلا التعبيرين حول نزول القرآن: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ ﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾. والتعبير بـ (الإنزال) إنما هو في الآيات التي يشار فيها إلى نزول القرآن في ليلة القدر أو شهر رمضان بخلاف الآيات الأخرى التي يعبّر فيها بـ (التنزيل).
2 - هناك آيات يستشعر منها أن القرآن كان على هيئة وحدانية لا أجزاء فيها ولا أبعاض ثم طرأ عليه التفصيل والتجزئة فجعل فصلاً، فصلاً، وقطعة، قطعة. قال تعالى ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود 2).
فهذه الآية ظاهرة في أن القرآن حقيقة محكمة، ثم طرأ عليها التفصيل والتّفريق بمشيئة الله تعالى والإحكام الذي يقابل التفصيل هو وحدانية الشيء وعدم تركّبه وتجزئه.
3 - هناك آيات قرآنية تشير إلى وجود حقيقة معنوية للقرآن غير هذه الحقيقة الخارجية اللّقطية، وقد عبّر عنها في القرآن بـ (التأويل) في غير واحدة من الآيات، قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (يونس 39). وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾(الأعراف52-53). فالتأويل على ضوء الاستعمال القرآني هو الوجود الحقيقي والمعنوي للقرآن وسوف يواجه المنكرون للتنزيل الإلهي تأويله وحقيقته المعنوية يوم القيامة.
واستنتاجاً من هذه المقدمات الثلاث فللقرآن إذن حقيقة معنوية وحدانية ليست من عالمنا هذا العالم المتغّير المتبدّل، وإنما هي من عالم أسمى من هذا العالم لا ينفذ إليه التغير ولا يطرؤه التبديل، وتلك الحقيقة هو الوجود القرآني المحكم الذي طرأ عليه التفصيل بإرادة من الله جلّت قدرته، كما أنه هو التأويل القرآني الذي تلمح إليه آيات الكتاب العزيز.
وإذا آمنا بهذه الحقيقة فلا مشكلة إطلاقاً في الآيات التي تتضمن نزول القرآن نزولاً دفعياً في ليلة القدر وفي شهر رمضان فإن المقصود بذلك الإنزال هو هبوط الحقيقة المعنوية للوجود القرآني على قلب رسول الله محمد صلّى الله عليه وآله وانكشاف ذلك الوجود التأويلي الحقيقي للقرآن أمام البصيرة الشفافة النبوية، فإن هذا الوجود المعنوي هو الذي يناسبه الإنزال الدفعي كما أن الوجود اللّقطي التفصيلي للقرآن هو الذي يناسبه (التنزيل) التدريجي.
وليس المقصود مما ورد من روايات عن أهل البيت عليهم السلام حول النزول الأول للقرآن في البيت المعمور إلا نزوله على قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله فإنه هو البيت المعمور الذي تطوف حوله الملائكة، وقد رمز إليها الحديث بهذا التعبير الكنائي.

وهذه النظرية مع ما تتصف به من جمال معنوي لا نجد داعياً يدعونا إلى تكلّفها كما لا نرى داعياً يدعونا إلى محاولة نقضه وتكلّف ردّه، فليست النظرية هذه تتضمن أمراً محالاً، كما لا لزوم في الأخذ بها بعد أن وجدنا لحل المشكلة ما هو أيسر هضماً وأقرب إلى الذهن.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد