السيّد علي الميلاني
قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ آل عمران:61.
هذه الآية تسمّى بـ «آية المباهلة».
المُباهلة في اللُّغة
المُباهلة: من البَهْل، والبهل في اللّغة بمعنى تَخلِيَة الشَّيء وتركه غير مُراعَىً، هذه عبارة الرّاغب في كتاب (المفردات).
وعندما تراجعون (القاموس) و(تاج العروس) وغيرهما من الكُتُب اللُّغويَّة، ترونهم يقولون في معنى البهل: اللّعن.
لكنّي رأيتُ عبارة الرّاغب أدقّ، فالبهل هو تَرْك الشَّيء غير مراعىً، كأنْ تترك الحيوان مثلاً من غير أن تربطه بمكان، تَتركه غير مراعى، تُخلّيه وحاله وطَبْعه.
وهذا المعنى موجود في رواياتنا بعبارة: «أَوْكَلَه الله إلى نفسه»، فَمَنْ فعل كذا أَوْكَله الله إلى نفسه. وهذا المعنى دقيق جدّاً.
تَتَذكّرون أنّكم تقولون في أدعيتكم: «ربّنا لا تكِلنا إلى أنفسنا طرْفَة عينٍ أبداً»، وإنّه لمعنىً جليل وعميق جدّاً. فَلَو أنّ الإنسان تُرِكَ مِن قِبَل الله سبحانه وتعالى لحظة واحدة، وانقطع ارتباطه بالله سبحانه وتعالى، وانقطع فَيْض الباري بالنّسبة إليه آناً من الآنات، لانعدم هذا الإنسان، وَلَهَلك.
ولو أردنا تشبيه هذا المعنى بأمرٍ مادّي خارجي، فانظروا إلى هذا الضِّياء، هذا المصباح، إنّه متّصل بالمركز المولِّد، فلو انقطع الاتّصال آناً ما، لم تجد هناك ضياءً ولا نوراً من هذا المصباح.
هذا معنى إيكال الإنسان إلى نفسه.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة:
«إنّ أبغض الخلائق إلى الله رَجُلان، رجلٌ وَكَلَه الله إلى نفسه فهو جائرٌ عن قصد السَّبيل، مَشْغوفٌ بكلام بِدعةٍ ودعاء ضلالة، فهو فتنة لِمَن افْتتن به، ضالٌّ عن هَدْيِ مَنْ كان قبله، مُضلٌّ لِمَن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حَمّالٌ لِخطايا غيره، رهنٌ بخطيئته ".."».
لهذا أمكن القول إنّ عبارة الرّاغب أدقّ. معنى البهل والمباهلة: أن يدعو الإنسان ويَطلب من الله سبحانه وتعالى أن يَترك شخصاً وشأنَه. وأنْ يكِلَه إلى نفسه، وعلى ضوء كلام أمير المؤمنين أن يَطلب من الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الشَّخص أبغض الخلائق إليه. وأيُّ لعنٍ فوق هذا، وأيّ دعاءٍ على أحد أكثر من هذا؟
لذا عندما نرجع إلى معنى كلمة اللّعن في اللّغة نراها بمعنى الطَّرد بِسَخط، والحرمان من الرّحمة، فعندما تلعن شخصاً -أي تطلب من الله سبحانه وتعالى أن لا يَرحمه- تَطلب من الله أن يكون أبغض الخلائق إليه، فالمعنى في (القاموس) وشرحه أيضاً صحيح، إلّا أنَّ المعنى في (مفردات) الرّاغب أدقّ. هذا معنى المباهلة.
تجدر الإشارة إلى أن نصارى نجران قد عَدَلوا عن المباهلة وتراجعوا، مع أنّهم قرّروا ووافقوا على المباهلة، وحَضَروا من أجلها، إلَّا أنّهم لمّا رأوا رسول الله ووجوه أبنائه وأهله معه، قال أُسْقُفهم: «إنّي لَأَرى وجوهاً لو طَلَبوا من الله سبحانه وتعالى أن يُزيل جبلاً من مكانه لَأَزاله».
تعيين مَنْ خرج مع الرّسول صلّى الله عليه وآله في المباهلة
ليس في الآية المباركة اسم لأحد، لا نجد اسم الإمام علي عليه السلام ولا نجد اسم غيره في هذه الآية المباركة.
إذاً، لا بدّ أن نرجع إلى السُّنّة، وإلى أيّ سُنّة نرجع؟ نرجع إلى السنّة المقبولة والمُتَّفَق عليها عند الطَّرفَين.
ومِن حُسن الحظّ أنَّ قضيّة المباهلة موجودة في الصِّحاح، وفي المسانيد والتَّفاسير المعتبرة.
فلا يُمكن لأيّ مُخاصم ومُناظر وباحِث إنكار حقيقة المباهلة، لأنَّنا إذا رجعنا إلى المحدّثين السُّنّة في تفسير هذه الآية المباركة، وفي شأن مَنْ نَزَلَت ومَنْ خَرَج مع رسول الله، نرى مسلماً والترمذي والنسائي وغيرهم من أرباب الصّحاح يروون الخبر بأسانيد معتبرة. (أنظر: صحيح مسلم 7 / 120؛ مسند أحمد 1 / 185؛ صحيح الترمذي 5 / 596؛ خصائص أمير المؤمنين: 48 ـ 49؛ المستدرك على الصحيحين 3 / 150؛ فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7 / 60؛ المرقاة في شرح المشكاة 5 / 589؛ أحكام القرآن للجصاص 2 / 16؛ تفسير الطبري 3 / 212؛ تفسير إبن كثير 1/319؛ الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2 / 38؛ الكامل في التاريخ 2 / 293، أُسد الغابة في معرفة الصحابة 4 / 26؛ وغيرها من كتب التفسير والحديث والتاريخ).
ولا أعتقد أنّ أحداً يناقش في سَنَد هذا الحديث بعد وجوده في مثل هذه الكتب.
دلالة آية المباهلة على إمامةِ عليٍّ عليه السلام
أمّا وجه الدَّلالة في هذه الآية المباركة، بعد بيان شأن نزولها وتعيين مَنْ كان مع النّبيّ في تلك الواقعة، دلالة هذه الآية على إمامة عليٍّ عليه السلام، فيَستدِلّ علماؤنا -تبعاً لأئمّتنا عليهم السلام- بكلمة: ﴿..وأنفسنا..﴾.
ولعلّ أوّل مَن استدلّ بهذه الآية المباركة هو أمير المؤمنين عليه السلام نفسه، عندما احتجّ في الشُّورى على الحاضرين بجملة من فضائله ومناقبه، فكان من ذلك احتجاجه بآية المباهلة، وسبب نزولها، وكلّهم أقرّوا بما قال أمير المؤمنين عليه السلام، وصدّقوه في ما قال، وهذا الإحتجاج في الشُّورى مرويٌّ أيضاً من طُرُق السُّنّة أنفسهم. (أنظر: ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق 3 / 90، الحديث 1131)
وفي رواياتنا أنّ المأمون العبّاسي سأل الإمام الرضا عليه السلام عن الدّليل من القرآن الكريم على إمامة عليّ عليه السلام، فذكر له الإمام عليه السلام آية المباهلة، واستدلّ بكلمة: ﴿..وأنفسنا..﴾ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله عندما أُمِر أنْ يُخرِج معه نساءه، فأخرج فاطمة فقط، وأبناءه فأَخرَج الحسن والحسين فقط، وأُمر بأن يُخرِج معه نفسه، ولم يخرج إلّا عليّ، فعليٌّ نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله، إلّا أنّ كَوْن عليّ نفس رسول الله بالمعنى الحقيقي غير ممكن، فيكون المعنى المجازي هو المُراد، وأقرب المجازات إلى الحقيقة يؤخذ في مثل هذه الموارد كما تقرّر في الكُتُب العلميّة. أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي في مثل هذا الموْرِد هو أن يكون عليّ مساوياً لرسول الله صلى الله عليه وآله، إلّا أنّ المساواة مع رسول الله لا يمكن أن تكون في جميع الجهات وفي جميع النَّواحي، فتَخرج النبوّة بالإجماع على أنّه لا نبيّ بعد رسول الله، وتبقى بقيّة مزايا رسول الله، وخصوصيّات رسول الله، وكمالات رسول الله، موجودةً في عليّ بِمُقتضى هذه الآية المباركة.
مِن خصوصيّات رسول الله: العِصْمة، فآية المباهلة تدلّ على عِصْمة عليّ بن أبي طالب قطعاً.
مِن خصوصيّات رسول الله صلّى الله عليه وآله: أنّه أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، فعليّ أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم كَرسول الله صلّى الله عليه وآله قطعاً.
مِن خصوصيّات رسول الله صلّى الله عليه وآله: أنّه أفضل من جميع الخلائق، أفضل البشر والبشريّة، منذ أنْ خَلَق الله سبحانه وتعالى العالم وخَلَق الخلائق كلّها، فكان أشرفهم رسول الله محمّد بن عبدالله، وعليّ عليه السلام كذلك.
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع