قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

التَّقِيَّةُ في القُرآنِ الكَريم

 

الشيخ جعفر السبحاني
تُعدّ التقية من المفاهيم الإسلامية الأصيلة، المنسجمة مع حكم العقل، وروح الإسلام، ومرونة الشريعة المقدسة وسماحتها، وضرورات العمل الإسلامي، وقد وردت في القرآن الكريم، وأكّدتها السنة الشريفة، وآمن بمشروعيتها علماء المسلمين.
ولا ريب في أنّ الشيعة ـ وبحكم الظروف العصيبة التي حاقت بهم على امتداد فترات تاريخية  طويلة ـ اشتهروا بالعمل بالتقية، واللّياذ بظلها كلما اشتدت عليهم وطأة القهر والظلم.
وقد سعى الصائدون في الماء العكر من حُكّام الجور والمغرضين والمتعصّبين إلى استغلال هذا الأمر، وذرّ الرماد في العيون من خلال إيجاد تصوّرات وأوهام باطلة، وغرسها في أذهان الناس، بدعوى أنّ التقية عند الشيعة ضرب من النفاق والخداع والتموية، وأنّها تجعل منهم منظّمة سرية غايتها الالتفاف على الإسلام وتشويه صورته وتهديم أركانه.

إنّ العمل بالتقية والاحتراز عن الإفصاح عن المبادئ والأفكار لا يعنيان أبداً أنّ للشيعة أسراراً وطلاسم يتداولونها بينهم، ولا يتيحون للآخرين فرصة الاطلاع عليها ومعرفتها، ولا يعنيان أيضاً أنّ لهم نوايا عدوانية ضدّ الإسلام وأهله، وإنّما يتعلّق الأمر كلّه بإرهاب فكري وسياسي مُورس ضدهم، وجرائم وحشية ارتكبت بحقهم، ألجاتهم إلى اتخاذ التكتّم والاحتراز أسلوباً لصيانة النفوس والأعراض والمحافظة عليها. ونحن إذا نظرنا إليهم في بعض العهود التي استطاعوا  أن يتنفسوا فيها نسائم الحرية، نجد كيف أنّهم بادروا وبنشاط إلى نشر أفكارهم وآرائهم وبثّ مبادئهم وتعاليمهم، وكيف أنّهم ساهموا  ـ مع إخوانهم من سائر المذاهب والطوائف ـ في صنع حضارة الإسلام الخالدة.

وإذا كان الإنصاف يدعو إلى تبرير موقف ضحايا القمع والاستبداد بالالتجاء إلى حمى التقية لضمان السلامة والتوقّي من الشر المستطير... وإذا كان الضمير الحي يدعو إلى مواساة هؤلاء المظلومين الذين تُحصى عليهم أنفاسهم ويعانون أفانين الضغط والإكراه، وأشكال التضييق والمحاربة، فإنّ شيئاً من هذا ولا ذاك لم يحصل، بل حصل العكس، إذ عمد الكثير من أهل السنّة والجماعة ـ و مع الأسف ـ إلى الإغضاء عن الجزّارين أو معاضدتهم، وإلى التنديد بالضحايا والتشهير بهم!!
وأخيراً، نحن نعتقد أنّ العمل بالتقية أمر لا مفرّ منه، وأنّ مجانبتها تماماً وفـي كلّ الأحوال والعصـور أمـر لا واقع ولا حقيقـة لـه. وأنت إذا رميت ببصرك إلـى بعض الشعوب التي تحكمها أنظمة قمعية استبدادية، لوجدت أنّها ـ وفيها من هم مـن أهـل السنـّة ـ تتجنّب الإعلان عـن آرائها وأهـدافها جهـرةً، وتسكت عمّا يُمارس بين ظهرانيها من أعمال منافية للإسلام، وما ذلك إلاّ خوفاً من البطش والقتل والأذى الذي سيصيبها لو أنّها نطقت بما يخالف إرادة المستبدين.


وهذه الرسالة المتواضعة، ستميط الستر عن وجه الحقيقة وتثبت، أنّ التقية ثمرة البيئة التي صودرت فيها الحريات، ولو كان هناك لومٌ وانتقاد، فالأجدر أن نتوجه بهما إلى من حمل المستضعفين على التقية، لا أنفسهم.
وستتضح للقارئ في غضون هذه الرسالة، أنّ التقيّة من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة، ليصون بها نفسه وعرضه وماله، أو نفسَ من يمتُّ إليه بصلة وعرضَه ومالَه، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل ولاذ بها عمّـار عندما أُخذ وأُسِر و هُدِّد بالقتل، إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة، فمن المحتّم علينا أن نتعرّف عليها، مفهوماً (لغة و اصطلاحاً)، وتاريخاً وغايةً ودليلاً وحدّاً، حتى نتجنَّب الإفراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.
وتحقيق المسألة  يتم ببيان أُمور:

 

التقية لغة
التقية اسم مصدر لـ«اتقى يتقي» و أصل اتقى: اوتقى فقلبت الواو ياءً للكسرة قبلها، ثمّ أُبدلت تاءً وادغمت وقد تكرر ذكر الاتقاء في الحديث ومنه  حديث علي: «كنّا إذا احمّر البأس اتقينا برسول اللّه»، أي جعلناه وقاية لنا من العدو.
وقد أخذ «اتقى» من وقي الشيء، يقيه إذا صانه، قال اللّه تعالى: ( فَوقاهُ اللّهُ سيّئاتِ ما مَكَرُوا ) أي حماه منهم  فلم يضرّه مكرهم.
وربما تستعمل مكان التقية لفظة «التُّقاة» قال سبحانه: ( لا يَتّخِذِ المُؤمِنُونَ الكافرينَ أولِياءَ مِنْ دُونِ المؤمِنينَ ومَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ في شيْء إلاّ أن تَتَّقُوا مِنْهُم تُقاة ) .
قرأ الأكثر «تقاة» إلاّ يعقوب فقرأ «تقيّة» وكلاهما مصدر لفعل اتقى«فتقاة، أصله «وقية» أبدلت الواو تاءً كما أبدلوها في تُجاة وتكاة وانقلبت الياء الفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهو مصدر على وزن فُعل كتؤدد وتخمة.
التقية اصطلاحاً
التقية كما عرّفها  السرخسي هي  أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره وإن كان ما يضمر خلافه.
وقال ابن حجر: التقية: الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير.
وعرفها صاحب المنار بأنّها ما يقال أو يفعل مخالفاً للحقّ لأجل توقّي الضرر.
وعرفها الشيخ محمد أبو زهرة بأنّها أن يخفي الشخص ما يعتقد دفعاً للأذى. والتعريف الثالث أشمل من الرابع لاختصاص الأخير بالعقيدة وعمومية الآخر لها وللفعل.
وأمّا الشيعة فقد عرّفها الشيخ المفيد بقوله: التقية كتمان الحقّ وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا.
وفُرض ذلك، إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن، فمتى لم يعلم ضرراً بإظهار الحقّ ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية.
وعرفها الشيخ الأنصاري بقوله: التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ.

التقية تاريخيَّاً
ربما يتصوّر لأول وهلة أنّ للتقية مبدأً تاريخياً ظهر في المجتمع الإنساني، ولكن هذا التصور يجانب الحقّ، فظاهرةُ التقية زامنت وجود الإنسان على هذا الكوكب يوم برز بين البشر القويّ والضعيف، وصادر الأوّل حريات الثاني ولم يسمح له بإبداء ما  يضمره عن طريق القول والفعل.
فظهور التقية في المجتمع البشري إذن، كان تعبيراً عن مصادرة الحريات، وسلاحاً لم يجد الضعيف بدّاً من الجوء إليه للدفاع عن نفسه وعرضه وماله.
1. التقيّة في عصر الكليم
وأظهر مورد تبنّاه القرآن الكريم في هذا الصدد هو مؤمن آل فرعون، يقول اللّه تعالى:
( وَقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرعَوْنَ يكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّي اللّهُ وقَدْ جاءَكُمْ بِالبَيِّنات مِنْ رَبِّكُمْ وَإِن يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادِقاً يُصِبكُمْ بَعْضُ الّذِي يَعِدُكُم إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّاب )
وكانت عاقبة أمره أن( فَوقاهُ اللّه سيّئاتِ ما مَكَرُوا وحَاقَ بآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذاب )
وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتعميته، استطاع أن ينجّي  نبيَّ اللّه من القتل كما يحكيه سبحانه عنه ويقول: ( قالَ يا مُوسى إِنَّ المَلأَ يَأتمِرُونَ بِكَ لَيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِين )
نقل الثعلبي عن السدي ومقاتل إنّ مؤمن آل فرعون كان ابن عم فرعون وهو الذي أخبر اللّه تعالى عنه فقال: ( وجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى ) . وقال آخرون: كان إسرائيلياً، ومجاز الآية:« وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعونْ، واختلفوا أيضاً في اسمه.
فقال ابن عباس وأكثر العلماء: اسمه حزبيل.
وقال وهب بن منبه: اسمه حزيقال.
وقال ابن إسحاق: خبرل.
2. التقية في عصر الرسول
هناك حوادث تاريخية تدلّ على شرعية التقية في عصر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نكتفي بهذين النموذجين:
1. يقول سبحانه: ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِّنٌ بِالإِيمان )
قال المفسرون: قد نزلت الآية في جماعة أُكْرِهُوا على الكفر، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سُميّة، وقُتل الأبوان لأنّهما لم يُظهرا الكفر ولم ينالا من النبي، وأعطاهم عمّارُ ما أرادوا منه فأطلقوه، ثمّ أخبر بذلك رسول اللّه، وانتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمار، فقال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : «كلاّ إنّ عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».
وفي ذلك  نزلت الآية السابقة، وكان عمّار يبكي، فجعل رسول اللّه يَمْسَحَ عينيه، ويقول:« إن عادُوا لك فعُد لهم بما قلت»
2. أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن، أنّ مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لأحدهما:
أتشهد أنّ محمّداً رسول اللّه؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أنّي رسول اللّه؟ قال: نعم، ثمّ دعا بالآخر فقال: أتشهد أنّ محمّداً رسول اللّه؟ قال: نعم، فقال له: أفتشهد أنّي رسول اللّه؟ قال: إنّي أصمّ. قالها ثلاثاً، كل ذلك يجيبه بمثل الأوّل، فضرب عُنقُه، فبلغ ذلك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أمّا ذلك المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضله، فهنيئاً له.
وأمّا الآخر فقبلَ رخصة اللّه فلا تبعةَ عليه.


3. التقية بعد رحيل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)
قد استغل الأمويُّون مسألة القضاء والقدر وركّزوا على أنّ كلّ ما يجري في المجتمع الإسلامي بقضاء وقدر من اللّه سبحانه وليس لأحد فيه الاختيار ولا الاعتراض، وعلى ذلك فالفقر المدقع السائد بين أكثر المسلمين تقدير من اللّه، والترف الذي يعيشه الأمويون، والظلم الذي يُلحقونه بالمسلمين تقدير من اللّه.
ولما كانت تلك المزعمة مخالفة لضرورة الدين وبعثة الأنبياء، قام غير واحد بوجه هذه الفكرة، وسكت كثيرون خوفاً من بطش الأمويين، فكتموا عقيدتهم وسلكوا مسلك التقيّة.
1. هذا هو ابن سعد يروي عن الحسن البصري بأنّه كان يخالف الأمويين في القدر بالمعنى الذي تتبنّاه السلطة آنذاك فلما خوّفه بعض أصدقائه من السلطان، وعد أن لا يعود.
روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال: نازلت الحسن  في القدر غير مرة حتّى خوّفته من السلطان، فقال: لا أعود بعد اليوم.
2. كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يُشخص إليه سبعة نفر من المحدثين منهم:
1. محمد بن سعد كاتب الواقدي، 2. أبو مسلم، مستملي يزيد بن هارون، 3. يحيى بن معين، 4. زهير بن حرب أبو خثيمة، 5. إسماعيل بن داود، 6. إسماعيل بن أبي مسعود، 7. أحمد بن الدورقي فامتحنهم المأمون وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعاً انّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السلام، وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره فشهّر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث فأقرّوا بمثل ما أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. وقد فعل إسحاق بن إبراهيم ذلك بأمر المأمون.
يذكر أن الرأي الذي كان سائداً بين المحدّثين هو قدم القرآن أو عدم حدوثه ولكنّهم اتّقوا واعترفوا بخلق القرآن، وهذا هو نفس التقية التي يعمل بها الشيعة، وقد مارسها المحدِّثون في عصر المأمون.
وهناك رسالة أُخرى للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة، وممّا جاء فيها: وليس يَرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة(القرآن ليس بمخلوق) حظاً في الدين ولا نصيباً من الإيمان....
فلما جاءت الرسالة إلى إسحاق بن إبراهيم أحضر لفيفاً من المحدّثين ربما يبلغ عددهم إلى 26 فقرأ عليهم رسالة المأمون مرتين حتّى فهموها ثمّ انّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً فأجاب القوم كلّهم واعترفوا بأنّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم: أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد بن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشُدُّوا في الحديد، فلما كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن  مخلوق فأمر بإطلاق قيده وخلّى سبيله وأصرّ الآخرون على قولهم.
فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري بأنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده وخلّى سبيله، وأصرّ أحمد بن حنبل و محمد بن نوح على قولهما ولم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد ووُجِّها إلى طرسوس وكتب معهما كتاباً بإشخاصهما.
ثمّ لما اعتُرض على الراجعين عن عقيدتهم، برّرّوا عملهم بعمل عمار بن ياسر حيث أكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان.

 

كلّ ذلك يدلّ على أنّ التقية أصل مشروع التزم بها المسلمون عند الشعور بالضعف أمام السلطة الغاشمة. وبذلك يظهر ـنّ اتهام الشيعة بتفرّدها بالقول بالتقية يضادُّ الذكر الحكيم والسنة النبوية وسيرة المسلمين عبر التاريخ.
إنّ التقية سلاح الضعيف، سلاح من صُودرتْ حقوقه وحرّياته من قبل سلطة غاشمة، قاهرة، لا تُبدي أية مرونة في مواقفها، وهذا هو حكم العقل وهو دفع الضرر عن النفس والنفيس بإظهار الموافقة لساناً وعملاً حتّى يرتفع الضرر ثمّ يعود الإنسان إلى ما كان عليه.
ومثل هذا لا يمكن أن يختص بفرقة دون أُخرى.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد