قرآنيات

سورة العنكبوت (1)

 

الشيخ محمد جواد مغنية
(1): ﴿الم﴾: تقدم في أول البقرة.
(2): ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾: لا يبتلون ويمتحنون بالضراء والسراء، وخلاصة المعنى أن الإيمان ليس لعقًا على اللسان، ولا صورة وشكلاً، ولا تسبيحًا وتهليلاً على عدد حبات المسابح، وإنما هو فعل الواجب وترك الحرام، وعلى سبيل المثال: إن كنت غنيًا أديت حق الله والناس من أخماس وزكوات عن طيب نفس، وإن كنت فقيرًا لم تبع دينك للشيطان، ورضيت بأي عمل.. الأعمال المحللة السائغة لسد الحاجة والجوعة.
(3): ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾: وجاء في التفاسير أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر وغيره من المعذبين على الإسلام، والقصد منها أن يوطنوا النفس على الأذى من أجل الحق، وينالوا الدرجات عند الله، ويؤيد هذا قوله تعالى بلا فاصل: (ولقد فتنا الذين من قبلهم) أي من قبل المعذبين على الإسلام فصبروا صبر الأحرار ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُو﴾: الله يعلم الصادقين والكاذبين لأنه يعلم ما هو كائن وما كان وما يكون وما لا يكون، ولكن لتظهر الأفعال التي يستحق عليها الإنسان الثواب والعقاب.
(4): ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَ﴾: أن يمتنعوا منا بهرب أو حصن أو حيلة؟.
(5): ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾: من آمن باليوم الآخر وعمل له، فإيمانه حق وصدق، وعمله خير وأجر، وسيرى ذلك لا محالة، وكل آت قريب.
(6): ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾: الله يقول، والعقل يقول، والفطرة والناس والأديان والشرائع كلها تقول: ليس للإنسان إلا ما سعى. أما العمل والتنفيذ فكل يعمل على شاكلته أو منفعته أو دينه وعقيدته وإنسانيته. وما ربك بغافل عما يعملون.


(7): ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾: هذه الآية تختص بمن كفر أو أذنب، ثم ندم وتاب، فيعفو سبحانه عما سلف، ويزيده من فضله، ومن عاد فينتقم الله منه.
(8) – (9): ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنً﴾: الوالد يحسن إلى ولده بالإنفاق والإشفاق، لا يريد منه جزاءًا ولا شكورًا، وكل الذي يبتغيه أن يكف أذاه عنه، وهذا وحده في عصرنا من أحسن الإحسان ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَ﴾: إن كنت موحدًا، وكان أبواك مشركين، وحرضاك على دينهما فإياك وإياهما، وفيما عدا ذلك لا تغضبهما ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: حساب الشرك والكفر بالله لله وحده لا لوالد أو ولد ولا لشيخ أو خوري.
(10) – (11): ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ﴾: وما هو من الإيمان الحق في شيء، ولكن إبليس حاك له خرافة على منواله، وصبغها بلون الإيمان وشكله، وباعها لأبله مسكين، فانطلت عليه الحيلة، وأخذ ينشر ويذيع من مثله إيمانًا بوحي من الشيطان وهو على يقين بأنه من إملاء الدين! وكيف يكون من الدين وما دخل العجب شيئًا إلا أفسده وأهلكه، وفي الحديث: لولا العجب ما ابتلى المؤمن الحق بذنب وفي ثان: ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدل، إن المدل لا يصعد من عمله شيء ﴿فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ... ﴾: يذهب إيمانه مع الريح، لأنه مجرد لون ومظهر ﴿وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ... ﴾: تقدم في الآية 141 من النساء.
(12): ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾: قال الذين كفروا بمحمد (ص) للذين آمنوا به: ما آمنتم به إلا خوفًا من نار جهنم، ارتدوا عن دينه إلى ديننا، ونحن نحمل العذاب عنكم، قالوا هذا ساخرين من خرافة النشر والحشر ﴿وَمَا هُم بِحَامِلِينَ﴾: أبدًا لا أحد يحمل على أحد، كل أمرئ وما كسب.
(13): ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾: كل من ضلَّ وأضلَّ آخرين يبوء بوزرين: وزر نفسه، ووزر من اغتر به دون أن ينقص من وزر هذا شيئًا.
(14) – (15): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامً﴾: قيل: هذه تسلية من الله لمحمد (ص) أن لا يأسف ويحزن لإعراض من أعرض عنه، فإن نوحًا مكث في قومه يدعوهم ليلاً ونهارًا فما زادهم ذلك إلا فرارًا، وتقدم الحديث عن نوح مرات منها في الأعراف وهود والشعراء.


(16): ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ...﴾: دعا إبراهيم (ع) إلى التوحيد، ولاقى الكثير في سبيل دعوته حتى أُلقي في النار، وما زاده ذلك إلا قوة وصلابة في دينه وحزمًا وثباتًا على ثورته وقال لقومه من جملة ما قال:
(17): ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكً﴾: تبتدعون أشياء لا أساس لهل إلا الجهل والضلال.
(18): ﴿وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾: وبلغكم ما حلَّ بهم من بوار ودمار.
(19): ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: أما الخلق الأول فندركه بالحس والعيان، ونحن منه والخلق الثاني ندركه بالعقل، لأن الذي أحيا وأمات يهون عليه أن يحيي الأموات بحكم البديهة.
(20): ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾: أي من لا شيء مادي؛ بل بكلمة (كن) وإلا لما وجد شيء إطلاقًا، لأن السؤال يبقى قائمًا إلى ما لا نهاية تمامًا كسؤال السائل لماذا لا تسقط الأرض في الفضاء؟ فأُجيب بأنها تستند إلى قرن الثور. ثم سأل ثانية ولماذا لا يسقط الثور؟ فأُجيب بأنه يستند إلى سلحفاة. فسأل للمرة الثالثة ولماذا لا تسقط السلحفاة؟ ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾: حيث تجزى كل نفس الجزاء الأوفى على ما قدمت.
(21): ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء﴾: وما من شك أن مشيئته تعالى تصدر عن علمه وعدله وحكمته لا يشغله غضب عن رحمة، ولا تولهه – أي لا تذهله – رحمة كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع):
(22): ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء﴾: لا ملجأ ولا مهرب من الله لأهل الأرض والسماء إلا إليه.
(23): ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: الدالة على وجوده وقدرته على إحياء الموتى ﴿أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي﴾: لا نصيب لهم فيها.
(24): ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾: عجزوا عن رد الدليل بالدليل والحجة بالحجة فهددوا وتوعدوا، ولكنه في حصن أمين من حول الله وقدرته وتقدم في الآية 69 من الأنبياء.
(25): ﴿وَقَالَ﴾: إبراهيم لقومه: ﴿إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانً﴾: كرمز وعنوان لوحدتكم وكيانكم الاجتماعي، وأنكم قلب واحد ويد واحدة على عدوكم، ولكنكم غدًا وفي دار الحق سترون أن هذه الأصنام هي السبب الأساس والأصيل لعذابكم وتباغضكم حيث ﴿يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضً﴾: إن ذلك لحق تخاصم أهل النار – 64 ص. على العكس من أهل الجنة الذين قال عنهم سبحانه: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين – 47 الحجر).


(26): ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾: ابن أخي إبراهيم ﴿وَقَالَ﴾: إبراهيم: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾: داعيًا إليه وإلى العمل بدينه وشريعته.
(27): ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ﴾: بن إسحاق، وتقدم في الآية 49 من مريم و72 من الأنبياء.
(28) – (29): ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾: أنكر عليهم هذا الفعل القبيح الشنيع، وقوله: ﴿مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ﴾: يدل بصراحة أنهم أول من اكتشف ومارس، وسمعنا وقرأنا أن في الغرب والشرق أسافل وأراذل على دين قوم لوط! فبعدًا لهم وسحقًا ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾: أي سبيل النسل بترك النساء ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾: النادي: مجلس تجتمع فيه الرجال، والمنكر: فعلهم بالذكور.
(30): ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي﴾: بنزول العذاب عليهم استغاث بالله، وتضرع إليه أن يتولى حربهم بنفسه لأن الله سبحانه لم يهيء له أسباب الجهاد والقتال كالسلاح والرجال.
(31) – (33): ﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾: المراد بالرسل هنا الملائكة، وبالبشرى البشارة بولده إسحق ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾: الباقين مع الهالكين، ودخل الملائكة على لوط في هيئة شبان حسان، ولما رآهم ﴿سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعً﴾: المراد بالذرع هنا الطاقة والمعنى أن لوطًا أضافهم، ولكنه أحس بكابوس على قلبه مخافة أن ينالهم أذى من قومه.
(34) – (37): ﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزً﴾: عذابًا من السماء لا يبقى منهم إلا الآثار عبرة لأولي الأبصار، وتقدمت هذه الآيات في سورة الأعراف وهود ﴿وَارْجُواْ الْيَوْمَ الآَخِرَ﴾: على حذف مضاف أي ثواب اليوم الآخر﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾: الزلزلة الشديدة ﴿جَاثِمِينَ﴾: باركين على الركب ميتين، وتقدم في سورة الأعراف.
(38): ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ﴾: عاد قوم هود، وثمود قوم صالح، قال ابن كثير في تفسيره كانت العرب تعرف مساكنهما جيدًا وتمر عليها كثيرًا.
(39): ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾: مثلث الرجس والعتو والضلال: قارون الغني الشقي العالمي، وتقدم عنه الحديث في الآية 76 من القصص. وفرعون الرب الغريق الصفيق، وسبق ذكره في سورة الأعراف وهامان وزير فرعون، وأُشير إليه في القصص.


(40): ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾: ولا مناص ولا محالة، فكل مجرم مرتهن بجرمه، وحبيس بإثمه ﴿فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبً﴾: كقوم لوط، والحاصب: الرمي بالحصباء ﴿وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَ﴾: كقوم نوح وفرعون ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾: كيف وهو القائل: (أن لعنة الله على الظالمين – 44 الأعراف) ﴿وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾: قال رجل لأبي ذر: عظني، قال: لا تسيء إلى نفسك. قال: وهل من أحد يسيء إلى نفسه، قال: من يعرضها للمهلكات والعثرات.
(41): ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ... ﴾: جاء في كتاب القرآن محاولة لفهم عصري ما شرحه وتوضيحه: كشف العلم الحديث أن الإنسان لو اتخذ لنفسه خيمة من خيوط الصلب بدقة خيط العنكبوت لكان بيتها بالنسبة إليها أقوى ثلاثة أضعاف من خيمة هذا الإنسان بالنسبة إليه، ومعنى هذا أن بيت العنكبوت حصن حصين لها، ولكن إذا تحصن به الإنسان والتجأ إليه يكون هذا الحصن (العنكبي) بالنسبة إليه لا شيء على الإطلاق تمامًا كما لو تحصن بالضياء أو بالهواء ... وهذا شأن من اعتز بغير الله، وتوكل على سواه.
(42): ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾: ليس هذا إخبارًا بأن الله يعلم هوية المعبود من دونه كلا، بل هو تهديد ووعيد للعابد المعاند.
(43) – (44): ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾: تلك إشارة إلى بيت العنكبوت ونظائره ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾: هذا هو دين الحياة والإنسانية والحق والواقع، يخاطب العلماء والعقلاء والمفكرين لا الجهلة المقلدين الذين يريدون من أهل العلم بالدين أن يشفوا المرضى، ويردوا الضائع، ويعقد اللسان الوحش بالرقية والتميمة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد