قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ

 

السيد جعفر مرتضى
ورد على خاطري سؤال، بعد أن قرأت لبعض الأخوة أن قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}. (الآية) نزلت قبل بيعة الغدير بوقت طويل. فهل هذه الآية مدنية أو مكية؟
الجواب:
زعموا أن سورة المعارج مكية، وهو ما ذكرته الرواية عن ابن عباس أيضاً(1)، وابن الزبير(2). 
والصحيح أنها نزلت في المدينة، بعد حادثة الغدير، حيث طار خبر ما جرى في غدير خم في البلاد، فأتى الحارث بن النعمان الفهري >أو جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري<.
>قال الأميني: لا يبعد صحة ما في هذه الرواية من كونه جابر بن النضر، حيث إن جابراً قتل أمير المؤمنين عليه السلام والده النضر صبراً، بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله لما أسر يوم بدر<(3). 
فقال: يا محمد، أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك، ففضلته علينا، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله؟!
فقال رسول الله’: والذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله.
فولى جابر، يريد راحلته، وهو يقول: اللهم، إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم.
فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته، وخرج من دبره، وقتله. وأنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} الآية(4).
وقد رد ابن تيمية هذا الحديث لعدة أدلة أوردها وتبعه غيره(5).
 

وأدلته هي التالية:
1 ـ إن قصة الغدير إنما كانت بعد حجة الوداع بالإجماع ـ والروايات تقول: إنه لما شاعت قصة الغدير جاء الحارث وهو بالأبطح بمكة. مع أن اللازم أن يكون مجيئه الرسول صلى الله عليه وآله في المدينة.
2 ـ إن سورة المعارج مكية باتفاق أهل العلم..
3 ـ إن قوله: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، نزلت عقيب بدر بالاتفاق. وقصة الغدير كانت بعد ذلك بسنين.
4 ـ إن هذه الآية نزلت بسبب ما قاله المشركون بمكة، ولم ينزل عليهم العذاب هناك لوجود النبي ’ لقوله تعالى: {مَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}.
5 ـ لو صح ذلك لكانت آية كآية أصحاب الفيل، ومثلها تتوفر الدواعي على نقله، مع أن أكثر المصنفين في العلم وأرباب المسانيد والصحاح والفضايل والتفسير والسير قد أهملوا هذه القضية، فلا تروى إلا بهذا الإسناد المنكر.
6 ـ إن الحارث المذكور في الرواية كان مسلماً حسبما ظهر في خطابه المذكور مع النبي’، ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لم يصبه عذاب على عهد النبي صلى الله عليه وآله.
7 ـ إن الحارث بن النعمان غير معروف في الصحابة، ولم يذكر في الاستيعاب ولا ذكره ابن منده، وأبو نعيم وأبو موسى في تآليفهم في أسماء الصحابة.
ونقول:
إن جميع ذلك لا يمكن قبوله.. وسوف نكتفي بما ذكره العلامة الأميني رحمه الله، فنذكره ملخصاً، فنقول:
 

1 ـ الدليل الأول
بالنسبة للدليل الأول نقول:
ألف: إن كلمة الأبطح إنما وردت في بعض الروايات دون بعض، فإطلاق الكلام بحيث يظهر منه أن الإشكال يرد على جميعها في غير محله.. وعبارة تذكرة الخواص، ومعارج العلى أن مجيء السائل كان إلى المسجد. وقد نص في السيرة الحلبية على أن ذلك قد كان في مسجد المدينة.
ب ـ إن كلمة الأبطح لا تختص ببطحاء مكة، بل هي تطلق على كل مسيل فيه دقائق الحصى. وقد ورد في البخاري في صحيحه، أحاديث ترتبط بالبطحاء بذي الحليفة.
وورد التعبير بذلك أيضاً في كلام عائشة عن موضع قبر النبي صلى الله عليه وآله .
وثمة أحاديث عن حذيفة بن أسيد، وعامر بن ليلى، تذكر في أحاديث الغدير: أنه حين رجوع النبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع، فلما كان بالجحفة نهى عن سمرات متقاربات بالبطحاء أن لا ينزل تحتهن أحد.
حديث عن بطحاء واسط، وبطحاء ذي الحليفة، وبطحاء ابن ازهر، وبطحاء المدينة، وهو أجل من بطحاء مكة، وقد نسب البطحاوي العلوي إلى جده قوله:
وبطحا المدينة لي منزل فيا حبذا ذاك من منزل..
وفي قول حيص بيص المتوفي سنة 574 هـ .
ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح
ويوم البطحاء (منسوب إلى بطحاء ذي قار) من أيام العرب المعروفة.
ومن الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
أنا ابن المبجل بالأبطحين وبالبيت من سلفي غالب
قال الميبذي في شرحه: يريد أبطح مكة والمدينة.


2 ـ الدليل الثاني
وأما الجواب عن الدليل الثاني، وهو أن سورة المعارج مكية بالإجماع لا مدنية، فنقول:
أولاً: إن الإجماع إنما هو على أن مجموع السورة كان مكياً، لا جميع آياتها. فلعل هذه الآية بالخصوص كانت مدنية.. وقد يعترض على ذلك بأن المتيقن في اعتبار السورة مكية أو مدنية هو تلك التي تكون بداياتها كذلك، أو تكون تلك الآيات التي انتزع اسم السورة منها كذلك..
والجواب عن ذلك..
ألف: إن هناك سوراً كثيرة يقال عنها إنها مكية مثلاً مع أن أوائلها تكون مدنية، وكذلك العكس، وذلك مثل:
سورة العنكبوت.. فإنها مكية إلا عشر آيات من أولها.سورة الكهف.. مكية إلا سبع آيات من أولها .
سورة المطففين مكية إلا الآية الأولى (وفيها اسم السورة) سورة الليل مكية إلا أولها: (وفيها اسم السورة أيضاً).
وهناك سور أخرى كثيرة مكية، وفيها آيات مدنية.. فراجع.. 
ب ـ وهناك سور مدنية وفيها آيات مكية، مثل:
سورة المجادلة، فإنها مدنية إلا العشر الأول (وفيها تسمية السورة) 
سورة البلد وهي مدنية إلا الآية الأولى، (وفيها اسم السورة). وحتى الرابعة، وغير ذلك.
ثانياً: إننا لو سلمنا: أن هذه السورة مكية فإن ذلك لا يبطل الرواية التي تنص على نزولها في مناسبة الغدير، لإمكان أن تكون قد نزلت مرتين، فهناك آيات كثيرة نص العلماء على نزولها مرة بعد أخرى، عظة وتذكيراً، أو اهتماماً بشأنها، أو اقتضاء موردين لنزولها أكثر من مرة، نظير: البسملة، وأول سورة الروم، وآية الروح. 
وقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ..}. 
وقوله: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}. 
وقوله: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}. 
وسورة الفاتحة، فإنها نزلت مرة بمكة حين فرضت الصلاة، ومرة بالمدينة حين حولت القبلة، ولتثنية نزولها سميت بالمثاني.
 

3 ـ الدليل الثالث
وعن الدليل الثالث أجاب: 
أن نزول الآية قبل سنوات، لا يمنع من أن يتفوه بها هذا المعترض على الله ورسوله، يظهر كفره بها. ولعله قد سمعها من قبل، فآثر أن يستخدمها في دعائه، لإظهار شدة عناده وكفره أخزاه الله.
 

4 ـ الدليل الرابع
وعن الدليل الرابع أجاب:
ألف: إنه قد لا ينزل العذاب على المشركين لبعض الأسباب المانعة من نزوله، مثل إسلام جماعة منهم، أو ممن هم في أصلابهم، ولكنه ينزل على هذا الرجل الواحد المعاند في المدينة لارتفاع المانع من نزوله.
ب: قد يقال: إن المنفي في آية {مَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} هو عذاب الاستئصال للجميع، ولا يريد أن ينفي نزول العذاب على بعض الأفراد..
ج: قد دلت الروايات على نزول العذاب على قريش، وذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليهم بأن يجعل سنيهم كسني يوسف عليه السلام فارتفع المطر، وأجدبت الأرض، وأصابتهم المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف.
د ـ إنـه قـد نـزل العذاب أيضاً على بعض الأفراد بـدعـاء رسـول الله صلى الله عليه وآله ، كما جرى لأبي زمعة، الأسود بن المطلب، ومالك بن الطلالة، وما جرى للحكم بن أبي العاص، وما جرى لجمرة بنت الحارث.
وكما جـرى لذلك الـرجل الـذي كـذب على رسول الله صلى الله عليه وآله  وما جرى للهب بن أبي لهبوكذلك عتبة بن أبي لهب.
هـ ـ قد هدد الله قريشاً بقوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}.. وإذا كان مناط الحكم هو إعراض الجميع، فإن الصاعقة لم تأتهم لأن بعضهم قد آمن. ولو أنهم استمروا جميعاً على الضلال لأتاهم ما هددهم به. ولو كان وجود النبي صلى الله عليه وآله مانعاً من جميع أقسام العذاب، لم يصح هذا التهديد.. ولما أصيب الحكم بن أبي العاص، وغيره ممن تقدمت أسماؤهم..
 

5 ـ الدليل الخامس
وعن الدليل الخامس أجاب رحمه الله: 
إن حادثة الفيل استهدفت تدمير أعظم رمز مقدس لأمة بأسرها، فالدواعي متوفرة على نقلها.. أما قصة هذا الرجل الذي واجه رسول الله صلى الله عليه وآله في قضية الغدير، فالدواعي لنقلها أقل بكثير، وهي ككثير من معجزات الرسول صلى الله عليه وآله التي لم تنقل عن طريق الآحاد، وبعضها قد قبله المسلمون من دون نظر في سنده..
بل الدواعي متوفرة على طمس هذه القضية، وذلك إمعاناً في إضعاف واقعة الغدير، وإبعادها عن أذهان الناس وإنساء الناس لها.
وأما دعواهم: أن المصنفين قد أهملوا هذه القضية، فهي مجازفة ظاهرة، إذ قد تقدم أن كثيرين منهم قد رووها..
 

6 ـ الدليل السادس
وعن الدليل السادس أجاب رحمه الله: 
بأن الحديث كما أثبت إسلام الحارث، فإنه قد أثبت ردته.. والعذاب نزل عليه، بعد ردته لا حين إسلامه، فلا يصح قوله: إنه لم يصب العذاب أحداً من المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله.
ثم ذكر شواهد عن عذاب لحق المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كقصة جمرة بنت الحارث، وغيرها. وقصة ذلك الذي ركل عند النبي صلى الله عليه وآله بشماتة وقد رواها مسلم في صحيحه، وقصة الأعرابي الذي عاده رسول الله صلى الله عليه وآله .. وأنه حين ناقض رسول الله صلى الله عليه وآله في ما يجري له.. 
قال له النبي صلى الله عليه وآله : فنعم إذا. فما أمسى من الغد إلا ميتاً.
وكذا بالنسبة لمن نقى شعره في الصلاة، فقال له ’ قبح الله شعرك، فصلع مكانه.
 

7 ـ الدليل السابع
وأجاب عن الوجه السابع: 
بأن معاجم الصحابة لم تستوف ذكر جميعهم، وقد استدرك المؤلفون على من سبقهم أسماء لم يذكروها. وقد أوضح العسقلاني ذلك في مستهل كتابه >الإصابة< فراجع.. 
وقد ذكروا: أن النبي صلى الله عليه وآله توفي وكان عدد من رآه وسمع منه زيادة على مئة ألف إنسان..

أضف إلى ذلك: أنه قد يكون إهمال ذكر هذا الرجل في معاجم الصحابة كان لأجل ردته..
تلك هي خلاصة لما ذكره العلامة الأميني في كتابه القيم >الغدير< ونظن أنها تكفي لإعطاء صورة من هذا الموضوع، وللعلامة الطباطبائي في كتاب >الميزان< ج2 ص5 و6 و11 وج9 ص67 ـ 71 كلام مفيد أيضاً فليراجع.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد