لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
السيد محمد حسين الطباطبائي
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة:25-26.
قد أعرب بعض المفسرين في تفسير الآية مستظهراً بما جمع به بين الروايات على اختلافها فأصرّ على ما ملخّصه: «أنّ المسلمين لم يفرّوا على جبن، وإنّما انكشفوا عن موضعهم لمّا فاجأهم من شدّ كتائب ثقيف وهوازن عليهم شدّ رجل واحد، فاضطربوا اضطرابة زلزلتهم وكشفتهم عن موضعهم دفعة واحدة، وهذا أمر طبيعي في الإنسان إذا فاجأه الخطر ودهمته بلية دفعة ومن غير مهل، اضطربت نفسُه وخلّي عن موضعه. ويشهد به نزول السكينة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعليهم جميعاً. فقد كان الاضطراب شمله وإيّاهم جميعاً، غير أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أصابه ما أصابه من الاضطراب والقلق حزناً وأسفاً ممّا وقع، والمسلمون شملهم ذلك لمّا فوجئوا به من حملة الكتائب حملة رجل واحد. ومن الشواهد أنّهم بمجرّد ما سمعوا نداء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونداء العباس بن عبد المطلب، رجعوا من فورهم وهزموا الكفّار بالسكينة النازلة عليهم من عند الله تعالى..».
والذي أورَده [هو] من الخلط بين البحث التفسيري الذي لا همّ له إلّا الكشف عمّا تدلّ عليه الآيات الكريمة، وبين البحث الكلامي الذي يُرام به إثبات ما يدّعيه المتكلّم في شيء من المذاهب من أيّ طريق أمكن، من عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع، أو المختلط منها. والبحث التفسيري لا يبيح لباحثه شيئاً من ذلك، ولا تحميل أيّ نظر من الأنظار العلمية على الكتاب الذي أنزله الله تبياناً.
أمّا قوله: «إنّهم لم يفرّوا جبناً ولا خذلاناً للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنّما كان انكشافاً لأمرٍ فاجأهم، فاضطربوا وزلزلوا ففرّوا ثمّ كرّوا»، فهذا ممّا لا يندفع به صريح قوله تعالى: ﴿..ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ التوبة:25، مع اندراج هذا الفعل منهم تحت كلّية قوله تعالى في آية تحريم الفرار من الزحف: ﴿..فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ..﴾ الأنفال:15-16. ولم يقيّد سبحانه النهي عن تولية الأدبار بأنّه يجب أن يكون عن جبن أو لغرض الخذلان، ولا استُثنيَ من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجئ، ولا أورد في استثنائه إلا ما ذكره بقوله: ﴿..إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ..﴾ الأنفال:16، وليس هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف.
وأمّا استشهاده على ذلك «بأنّ الاضطراب كان مشتركاً بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم»، واستدلاله على ذلك بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ..﴾ حيث إنّ نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان -على ما تدلّ عليه كلمة ثمّ- يلازم نزول الاضطراب عند ذلك على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن كان عن حزن وأسف إذ لا يتصوّر في حقّه، صلّى الله عليه وآله وسلّم، التزلزل في ثباته وشجاعته». فلننظر فيما اعتبره للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، من الحزن والأسف هل كان ذلك حزناً وأسفاً على ما وقع من الأمر من انهزام المسلمين وما ابتلاهم الله به من الفتنة والمحنة جزاء لما أُعجبوا من كثرة عددهم، وبالجملة حزناً مكروهاً عند الله؟ فقد نزّهه الله عن ذلك وأدّبه بما نزل عليه من كتابه وعلّمه من علمه، وقد أنزل عليه مثل قوله عزّ من قائل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ..﴾ آل عمران:128، ولم يَرد في شيء من روايات القصّة أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، زال عن مكانه يومئذٍ، أو اضطرب اضطراباً ممّا نزل على المسلمين من الوهن والانهزام.
وإن كان ذلك حزناً وأسفاً على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطأهم في الاعتماد بغير الله والركون إلى سراب الأسباب الظاهرة، والذهول عن الاعتصام بالله سبحانه حتّى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف، لِما كان هو صلّى الله عليه وآله وسلّم، عليه من الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فهذا أمر يحبّه الله سبحانه، وقد مدح رسوله صلّى الله عليه وآله عليه إذ قال: ﴿..بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ التوبة:128. وليس يزول مثل هذا الأسف والحزن بنزول السكينة عليه، ولا أنّ السكينة، لو فرض نزولها لأجله ممّا حدث بعد وقوع الانهزام، حتّى يكون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، خالياً عنها قبل ذلك، بل كان صلّى الله عليه وآله وسلّم على بيّنة من ربّه منذ بعثه الله إلى أن قبضه إليه، وكانت السكينة بهذا المعنى نازلة عليه حيناً بعد حين.
ثمّ السكينة التي نزلت على المؤمنين ما هي؟ وماذا يحسبها؟ أكانت هي الحالة النفسانية التي تحصل من السكون والطمأنينة كما فسّرها بها واستشهد عليه بقول صاحب (المصباح): «إنّها تطلق على الرزانة والمهابة والوقار»، حتّى كانت ثبات الكفّار وسكونهم في مواقفهم الحربية عن سكينة نازلة إليهم؟ فإن كانت السكينة هي هذه، فقد كانت في أوّل الوقعة عند كفّار هوازن وثقيف خصماء المسلمين، ثمّ تركتْهم ونزلت على عامّة جيش المسلمين من مؤمن ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن مؤمن لم يثبت واختار الفرار على القرار، ومن منافق، ومن ضعيف الإيمان مريض القلب، فإنّهم جميعاً رجعوا ثانياً إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وثبتوا معه حتّى هزموا العدو، فهم جميعاً أصحاب السكينة أنزلها الله إليهم، فما باله تعالى، يقْصر إنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، إذ يقول: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ..﴾ التوبة:26 على أنّه إن كانت السكينة هي هذه، وهي مبتذلة مبذولة لكلّ مؤمن وكافر، فما معنى ما امتنّ الله به على المؤمنين بما ظاهرُه أنّها عطية خاصّة غير مبتذلة ولم يذكرها في كلامه إلّا في موارد معدودة لا تبلغ تمام العشرة.
وبذلك يظهر أنّ السكينة أمرٌ وراء السكون والثبات، لا أنّ لها معنى في اللغة أو العرف وراء مفهوم الحالة النفسانية الحاصلة من السكون والطمأنينة، بل بمعنى أنّ الذي يريده تعالى من السكينة في كلامه له مصداق غير المصداق الذي نجده عند كلّ شجاع باسل له نفسٌ ساكنة وجأش مربوط، وإنّما هي نوع خاصّ من الطمأنينة النفسانية له نعت خاص وصفة مخصوصة.
كيف وكلّما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتناناً بها على رسوله وعلى المؤمنين خصّها بالإنزال من عنده، فهي حالة إلهية لا ينسى العبد معها مقام ربّه، لا كما عليه عامّة الشجعان أولو الشدّة والبسالة، المعجبون ببسالتهم، المعتمدون على أنفسهم. وقد احتفّت في كلامه بأوصاف وآثار لا تعمّ كلّ وقار وطمأنينة نفسانية، كما قال في حقّ رسوله: ﴿..إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا..﴾ التوبة:40، وقال تعالى في المؤمنين: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ..﴾ الفتح:18، فذكر أنّه إنّما أنزل السكينة عليهم لِما علِمه من قلوبهم، فنزولها يحتاج إلى حالة قلبية طاهرة سابقة يدلّ السياق على أنّها الصدق، ونزاهة القلب عن إبطان نيّة الخلاف.
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة
محاضرة للمهندس العلي حول الأنماط الحياتيّة من التّراث الدّينيّ
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (2)
الأمّة المستخلفة
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (1)