السيّد موسى الصدر
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ* وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً* ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً﴾ (الإسراء: 1-3).
صدق الله العليّ العظيم
إنّ هذه الآيات المباركة التي تفتتح بها سورة الإسراء، أو بتسمية أخرى سورة بني إسرائيل، مشتملة على معانٍ عميقة تربويّة وملحميّة كثيرة، نورد بعضها في هذا المقال.
إشارات في معجزة الإسراء
1- تتحدّث الآية الأولى في السورة المباركة عن إسراء النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ إنّ الله أسرى به ليلاً من المسجد الحرام، حيث منبت الوحي والكعبة، إلى المسجد الأقصى، حيث القدس الشريف، وهو القبلة الأولى للمسلمين والملتقى العامّ للرسالات السماويّة كافّة، والمصدر الأصيل لجميع الحضارات العالميّة.
2- بارك الله حول المسجد الأقصى، فأنعم على المنطقة التي تضمّه بالبركات؛ والبركات في المصطلح القرآنيّ تشمل: البركات المعنويّة السماويّة، والأرضيّة الماديّة. وتاريخ هذه المنطقة وجغرافيّتها شاهدان على صدق دعوة الأنبياء العالميّين عليهم السلام، وعلى ظهور العلماء والفلاسفة والأولياء والقدّيسين في هذه المنطقة، وكذلك على النعم المادّيّة التي خصّصها الله بها في أرضها وجبالها وبحرها وإنسانها.
3- تكمن غاية هذه الرحلة المعجزة؛ في رؤية الآيات، وإضفاء المزيد من المعرفة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإغناء دعوته وتوسعتها حتّى تصبح عالميّة، تطبيقاً للآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)؛ فالانتقال من مولد الوحي إلى مولد الرسالات والحضارات، رَبَطَ بين الإسلام والعالميّة.
4- كانت الدعوة الموسويّة لبني إسرائيل لهدايتهم، على أن لا يتّخذوا من دون الله وكيلاً؛ لا العجل الذهبيّ ولا المال ولا الجاه ولا العنصريّة آلهةً يعبدونها من دون الله. وقد أدركوا أنّهم مهما بلغوا من قوّة، فإنّهم أمام إرادة الله، ضعافٌ لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
5- نتيجةً لهذا الطغيان، واتّخاذ الوكلاء من دون الله، يستعرض القرآن الكريم علوّهم في الأرض مرّتين وهبوطهم في كلّ مرّة. ثمّ يضع أمام الناس قاعدةً؛ أنّهم كلّما عادوا إلى طغيانهم وانحرافهم، فإنّ الله سيعود إلى تأديبهم وتعذيبهم. وهذه القاعدة تغنينا عن البحث في معرفة تفاصيل المرّتين.
6- ثمّة ترابطٌ بين انتقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والرسالة بالقدس، وتعليل تقدّم اليهود وهبوطهم، وكأنّ الآيات تقدّم درساً عمليّاً للموقف الإلهيّ الحاضر، المطلوب تنفيذه من المسلمين: عالميّة الرسالة، وصيانة القدس، وعدم الاعتراف بالعنصريّة، وسبب انحراف اليهود، وعدم كراهيّة الإنسان لأنّه إنسان، بل لأجل طغيانه، وحكم الله الذي يده فوق أيديهم، ثمّ تحديد مسؤوليّات المسلمين أمام هذا الطغيان.
7- حصلت معجزة الإسراء العظيمة، وهي إرادة الله، باسم "عبده"؛ تشريفاً له. والعبادة هي مصدر هذا الكمال، دون سائر الصفات البشريّة والصفات النبويّة.
أركان العبادة
العبادة ذات ركنين:
الأوّل: حُسن العمل عند الله: عندما نأخذ بعين الاعتبار مفهوم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ﴾ (فاطر: 15) ندرك أنّ العمل الحسن عند الله، ليس هو ما ينفع الله، بل هو ما ينفع الخلق نفعاً حقيقيّاً؛ أي ينفع عامل ذلك العمل أو الآخرين، أو الاثنين معاً. فالعمل الحسن عند الله، هو كلّ ما يرفع الإنسان، ويزيد في كماله الحقيقيّ. والكمال الحقيقيّ للإنسان، هو التقدّم الذي يُحرزه في إطاره الواقعيّ، بوصفه فرداً، أو بوصفه جزءاً من الجماعة، أو بوصفه موجوداً في هذا الكون الكبير. وهذا الكمال يحصل من خلال اتّصاف الإنسان بصفات كماليّة كالعلم، والمعرفة، والرحمة، والعزّة، والحبّ، والصدق؛ وغيرها من الأوصاف.
الثاني: قصد القربة إلى الله: وإذا لاحظنا أنّ الله لا يحدّه مكان، في عقيدة الإسلام، نعرف إذاً، أنّ التقرّب إليه، ليس بالمكان. وكذلك عندما أدركنا أنّ الله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ( (الشورى: 11) بحسب القرآن، ندرك أيضاً، أن أيّ مفهوم للقرب إلى الله، لا يمكن أن يخضع لاعتبارات الزمان والشكل والنسب.
فالحقيقة، إنّ الأحاديث الشريفة أوضحت مفهوم القرب من الله، حيث أوردت لنا هذا التعليم المبارك، قائلة: "تخلّقوا بأخلاق الله"(1). لذلك، فإنّنا نفهم كلمة التقرّب بمعنى التخلّق، لا التشابه ولا التماثل. وعلى هذا، فمفهوم التقرّب إلى الله في العبادة؛ يعني أن يكون الدافع منها التخلّق بأخلاق الله. وأخلاق الله صفات معروفة، سامية، يُستثنى منها ما هو مختصّ بالذات الإلهيّة، ويُحتذى منها الصفات الأخرى من علم، ورحمة، وعدل، وعزّة، وجمال، وغير ذلك.
وهنا، يلتقي ركنا العبادة؛ حيث إنّ العبادة عمل حسن عند الله، وتصدر بدافع التقرّب منه تعالى. وهذا يعني أنّ أيّ عبادة هي خطوةٌ في سبيل الكمال الإنسانيّ، وهي في الوقت نفسه تحرّرٌ من الجمود والتخلّف. فالعبادات كلّها، وسيلة للغايات السامية، وهي تبعد الإنسان عن الغرور والأنانيّة، والبخل، والجهل، والكسل، وغير ذلك.
طريقٌ إلى التحرّر
فالعبادة تحرّر الإنسان من القيود الحقيقيّة التي عاشها الإنسان المتخلّف. ولنعيد إلى ذاكرتنا قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56) ونتذكّر أنّ التفاسير الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، تُفسّر لنا أنّ معنى ﴿لِيَعْبُدُونِ﴾ هو ليعرفوني؛ أي أنّ المعرفة سبيلها العبادة، وأنّ العبادة سبيل المعرفة.
وبعد هذا البحث، نرى البُعد التربويّ الذي يستشمّ من هذه الكلمة المباركة، كلمة "عبده" في هذه الآية، وأنّ العبادة هي التي جعلت "محمّداً" صلى الله عليه وآله وسلم لائقاً بهذا التشريف الإلهيّ؛ وهو الانتقال المعجز من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وما وراء ذلك من معاني العالميّة والإنسانيّة الشاملة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المجلسي، بحار الأنوار، ج 58، ص 129.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان