قرآنيات

نعمة شرح الصّدر

الشيخ محسن قراءتي

 

يقول تعالى: ‏﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلی‌ رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾([1]).

المعروف أنّ سورة «ألم نشرح» نزلت بعد سورة «الضحی» ومحتواها يؤيد ذلك، لأنّها تسرد أيضاً قسماً من الهبات الإلهية لرسول الأكرم صلّی اللّه عليه وآله وسلّم.

‏في سورة «الضحی» عرض لثلاث هبات إلهية بعضها مادية وبعضها معنوية، وفي هذه السّورة ذكر لثلاث هبات أيضاً غير أنّ جميعها معنوية، وتدور السّورة بشكل عام حول ثلاثة محاور، الأوّل: بيان النعم الثلاث، والثّاني: تبشير النّبي بزوال العقبات أمام دعوته، والثّالث: الترغيب في عبادة اللّه الواحد الأحد.

‏ولذلك ورد عن أهل البيت عليم السّلام ما يدلّ على أنّ هاتين السّورتين سورة واحدة ... ووجب قراءتهما معاً في الصلاة لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد.

‏ومن أهل السنة من ذهب إلی ذلك أيضاً، كما نقل الفخر الرازي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنّهما يقرءانها معا في الصلاة، ويحذفان البسملة بينهما (حسب فتاوی فقهاء مذهب أهل البيت، قراءة البسملة في كليهما واجبة، وما نقله المرحوم الطبرسي بشأن حذف بعض الفقهاء البسملة هنا لا يبدو صحيحاً).

‏والفخر الرازي بعد نقل آراء القائلين بوحدة السّورتين، يرد عليهم مستدلاًّ بالفرق الموجود بين السّورتين، ذلك لأن سورة والضحی- في رأيه- نزلت حين كان الرّسول متألماً ومغتمّاً لما ناله من أذی الكفار، بينما السّورة التالية نزلت في حالة انشراح الرّسول وابتهاجه‌. وهذا استدلال غريب، فالسورتان كلاهما تتحدثان عمّا مضی من حياة الرّسول، وكان ذلك حين تجاوز النّبي كثيراً من مشاكل الدعوة، وحين أصبح قلبه الطاهر مفعماً بالأمل والسرور. كلا السّورتين تتحدثان عن الهبات الإلهية وتذكّران بأيّام المحن والصعاب كي يكون ذلك تسلية لقلب الرّسول الأكرم صلّی اللّه عليه وآله وسلّم وتصعيداً للأمل في نفسه.

‏علی أي حال ارتباط محتوی السّورتين ارتباطاً وثيقاً أمر لا يقبل الشك، وهكذا الكلام في سورتي الفيل وقريش. وبشأن مكان نزول السّورة، يتبيّن أنّها نزلت في مكّة، ولكن آية: ‏"وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ"‌ جعلت البعض يعتقد أنّها نزلت في المدينة، حيث ارتفع ذكر النّبي وشاع صيته في كل مكان، وليس هذا الدليل بقانع، لأنّ النّبي الأكرم صلّی اللّه عليه وآله وسلّم ذاع صيته قبل الهجرة رغم كل العقبات والمشاكل، وكان الحديث عن دعوته علی الألسن في جميع المحافل، كما أنّ خبر الدعوة انتشر في الحجاز عامّة والمدينة خاصّة من خلال الوافدين علی مكّة في موسم الحج.

 

فضيلة السّورة

‏ورد في فضيلة هذه السّورة عن النّبي الأكرم صلّی اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: «من قرأها أعطي من الأجر كمن لقي محمّدًا مغتمّاً ففرّج عنه»([2]).

 

التّفسير

‏نعم إلهية: سياق الآيات ممزوج بالحب والحنان وبألطاف ربّ العالمين لنبيّه الكريم. وأهم هبة إلهية تشير إليها الآية الاولی: ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‌. «الشرح»: في الأصل- كما يقول الراغب- توسعة قطع اللحم بتحويلها إلی شرائح أرق. و«شرح الصدر» سعته بنور إلهي وبسكينة واطمئنان من عند اللّه، و«شرح معضلات الحديث» التوسّع فيه وتوضيح معانيه الخفية، و«شرح الصدر» في الآية كناية عن التوسعة في فكر النّبي وروحه، ولهذه التوسعة مفهوم واسع، تشمل السعة العلمية للنّبي عن طريق الوحي والرسالة، وتشمل أيضاً توسعة قدرة النّبي في تحمله واستقامته أمام تعنت الأعداء والمعارضين. ‏ولذلك حين أمر موسی بن عمران عليه السّلام بدعوة فرعون: ﴿اذْهَبْ إِلی‌ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی‌ دعا ربّه وقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ويَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾([3])‌.

 

‏وفي موضع آخر يخاطب اللّه نبيّه بقوله سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ﴾([4])‌ أي لا تكن كيونس الذي وقع بعدما غادر قومه في المشاكل ولاقی أنواع الإرهاق. ‏وشرح الصدر يقابله «ضيق الصدر»، كما في قوله تعالی: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ‌﴾([5]).

‏ولا يمكن أساساً لقائد كبير أن يجابه العقبات دون سعة صدر. ومن كانت رسالته أعظم (كرسالة النّبي الأكرم) كانت الضرورة لشرح صدره أكبر... كي لا تزعزعه العواصف ولا تثني عزمه الصعاب ولا تبعث في نفسه اليأس مكائد الأعداء، ولا يضيق بالملتوي من الأسئلة. وهذه كانت أعظم هبة إلهية لرسول ربّ العالمين. ‏لذلك‌ روي عنه صلّی اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال: لقد سألت ربّي مسألة وددت أنّي لم أسأله. قلت: ‏أي ربّ إنّه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحي الموتی. قال، فقال: ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ قال: قلت: بلی. قال: ألم أجدك ضالّاً فهديتك؟ قال: قلت: بلی أي ربّ، قال: ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ قال: قلت: بلی أي ربّ([6])‌.

 

‏وهذا يعني أنّ نعمة شرح الصدر تفوق معاجز الأنبياء. والمتمعّن في دراسة حياة الرّسول صلّی اللّه عليه وآله وسلّم، وما فيها من مظاهر تدل علی شرح عظيم لصدره تجاه الصعاب والمشاق، يدرك بما لا يقبل الشك أن الأمر لم يتأتّ لرسول اللّه بشكل عادي، بل إنّه حتماً تأييد إلهي ربّاني.

‏وقيل إنّ شرح الصدر إشارة لحادثة واجهت الرّسول في طفولته، حين نزلت عليه الملائكة فشقّت صدره وأخرجت قلبه وغسلته، وملأته علماً وحكمة ورأفة ورحمة([7]). المقصود طبعاً من القلب في هذه الرّواية ليس القلب الجسماني، بل إنّه كناية وإشارة إلی الإمداد الإلهي من الجانب الروحي، وإلی تقوية إرادة النّبي وتطهيره من كل نقص خلقي ووسوسة شيطانية.

‏ولكن، علی أي حال، لا يتوفر عندنا دليل علی أنّ الآية الكريمة مختصة بالحادثة المذكورة، بل لها مفهوم واسع، وقد تكون هذه القصّة أحد مصاديقها. ‏وبسعة الصدر هذه اجتاز الرسول صلّی اللّه عليه وآله وسلّم العقبات والحواجز والصعاب علی أفضل وجه، وأدّی رسالته خير أداء.

 

ثمّ يأتي ذكر الموهبة الثّانية.

‏"وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ":‌ أي ألم نضع عنك الحمل الثقيل، "الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ"‌. ‏«الوزر» بمعنی الثقل، ومنها «الوزير» الذي يحمل أعباء الدولة، وسمّيت الذنوب «وزراً» لأنّها تثقل كاهل صاحبها. ‏«أنقض» من (النقض) أي حلّ عقدة الحبل، أو فصل الأجزاء المتماسكة من البناء، و«الانتقاض» صوت انفصال أجزاء البناء عن بعضها، أو صوت فقرات‌ الظهر حين تنوء بعب‌ء ثقيل. ‏والكلمة تستعمل أيضاً في نكث العهود وعدم الالتزام بها، فيقال نقض عهده. ‏والآية تقول إذن، اللّه سبحانه وضع عنك أيّها النّبي ذلك الحمل الثقيل القاصم الظهر.

‏وأي حمل وضعه اللّه عن نبيّه؟ القرائن في الآيات تدل علی أنّه مشاكل الرسالة والنّبوّة والدعوة إلی التوحيد وتطهير المجتمع من ألوان الفساد، وليس نبيّ الإسلام وحده بل كلّ الأنبياء في بداية الدعوة واجهوا مثل هذه المشاكل الكبری، وتغلبوا عليها بالإمداد الإلهي وحده، مع فارق في الظروف، فبيئة الدعوة الإسلامية كانت ذات عقبات أكبر ومشاكل كثيرة. ‏وقيل أيضاً: إنّ «الوزر» يعني ثقل «الوحي» في بداية نزوله. ‏وقيل: إنّه عناد المشركين وتعنتهم. ‏وقيل: إنّه أذاهم. ‏وقيل: إنّه الحزن الذي ألمّ بالنّبي لوفاة عمّه أبي طالب وزوجه خديجة. ‏وقيل: أيضا إنّه العصمة وإذهاب الرجس. ‏والظاهر أنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره، والتفاسير الأخری تفريع من التّفسير الأوّل.

 

وفي الموهبة الثّالثة يقول سبحانه.

‏"وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ":‌ فاسمك مع اسم الإسلام والقرآن قد ملأ الآفاق، وأكثر من ذلك اقترن اسمك باسم اللّه سبحانه في الأذان يرفع صباح مساء علی المآذن. والشهادة برسالتك لا تنفك عن الشهادة بتوحيد اللّه في الإقرار بالإسلام وقبول الدين الحنيف. ‏وأي فخر أكبر من هذا؟ وأي منزلة أسمی من هذه المنزلة. ‏وروي عن الرّسول صلّی اللّه عليه وآله وسلّم في تفسير هذه الآية قال: «قال لي جبرائيل قال اللّه‌ عزّ وجلّ: إذا ذكرت ذكرت معي«، (و كفی بذلك منزلة). والتعبير بكلمة (لك) تأكيد علی رفعة ذكر النبيّ رغم كل عداء المعادين وموانع الصّادين. ‏وقد ذكرنا أنّ هذه السّورة مكيّة، بينما الآية الكريمة تتحدث عن انتشار الإسلام، وتجاوز عقبات الدعوة، وإزالة الأعباء التي كانت تثقل كاهل الرّسول صلّی اللّه عليه وآله وسلّم، وارتفاع ذكر النّبي في الآفاق... وهذا ما حدث في المدينة لا في مكّة.

‏قيل: إنّ السّورة تبشّر النّبي بما سيلقاه في المستقبل، وكان ذلك سبباً لزوال الحزن والهم من قلبه، وقيل أيضاً: إنّ الفعل الماضي هنا يعني المستقبل. ‏ولكن الحق أنّ قسماً من هذه الأمور قد تحقق في مكّة، خاصّة في أواخر السنين الثلاث عشرة الأولی من الدعوة قبل الهجرة، حيث تغلغل الإيمان في قلوب كثير من النّاس وخفّت وطأة المشاكل، وذاع صيت النّبي في كلّ مكان، وتهيأت الأجواء لانتصارات أكبر في المستقبل.

وشاعر النّبي «حسان بن ثابت» ضمّن معنی الآية الكريمة في أبيات جميلة، وقال:

‏وضمّ الإله اسم النّبي إلی اسمه‌

‏إذ قال في الخمس المؤذن أشهد

‏وشقّ له من اسمه ليجلّه‌

‏فذو العرش «محمود» وهذا «محمّد»

‏ـــــــــــــــــــــ

([1]) سورة الشرح: 1 – 8.

([2]) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٥٠٧.

([3]) طه، الآية ٢٥- ٢٦.

([4]) القلم، الآية ٤٨.

([5]) الحجر، الآية ٩٧.

([6]) مجمع البيان، ج ١٠، ص ٥٠٨.

([7]) تفسير الدر المنثور ( نقلا عن تفسير الميزان، ج ٢٠، ص ٤٥٢) وتفسير الفخر الرازي، ج ٣٢، ص ٢. وهذه الرّواية ذكرها البخاري و الترمذي و النسائي أيضا في قصّة المعراج.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد