قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

القرآن وخلق العالم

إنّ للقرآن الكريم تعابير وإشارات متعددة حول حدوث العالم، إذ يقول في أحد المواضع: «ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلَأرْضِ ائتِيَا طَوْعَاً أوْ كَرْهَاً قَالَتَا اتَيْنَا طَائِعِينَ». (فصلت / 11)

 

وفي موضع آخر يقول:« أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ السَّموَاتِ وَالْأرضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيء حَيّ أفَلا يُؤْمِنُونَ». (الأنبياء / 30)

 

لقد أشير في هاتين الآيتين إلى ثلاث نكات مهمة في صدد خلق العالم والموجودات الحيّة:

 

1 - كان العالم في بادىء الأمر على شكل غاز وبخار.

 

2 - كان العالم متصلًا في البداية ثم فصلت الكرات السماوية عن بعضها الأخرى.

 

3 - بدأت خلقة الموجودات الحية من الماء.

 

وهذه هي نفس الأمور التي عرفت في هذا اليوم بعنوان النظريات العلمية المسلمة.

 

ويتقرر توضيح ذلك: بأنّه بالرغم من وجود فرضيات مختلفة لم تخرج عن حدود الفرضية في صدد كيفية نشوء العالم، إلّا أنّه نظراً للمطالعات التي أجريت على المجرات والمنظومات التي تتجه نحو التكون والحدوث، بدا من المسلَّم أنّ العالم كان على شكل أكوام من الغاز في بادىء الأمر نظير الشيء المضغوط الذي تنعزل منه قطعاته وتتطاير أوصاله على أثر دورانه حول نفسه، وهذه القطع تبرد شيئاً فشيئاً ثم تظهر بشكل مائع أو جامد في كثير من الأحيان لتشكل الكرات المسكونة وغير المسكونة.

 

وبعبارة أخرى تدل دراسات العلماء الفلكيين في مجال السُحب، والعوالم البعيدة عن متناول اليد والتي تأخذ طريقها نحو التكامل على أنّهم أخرجوا هذه النظرية وهي كون الدنيا على شكل أكوام من غاز البخار من حيِّز الفرضية واعتبروها من النظريات القطعية، والتي تم تأييدها من قِبل المحافل العلمية الدولية.

 

وكذلك نقرأ في بداية الآية الأولى بصراحة بـ «أن السماوات» الكرات السماوية كانت في بداية الأمر على هيئة دخان وهذه الآية تنسجم مع الاكتشافات العلمية للعلماء التي لم تزل حديثة العهد، وفي ذلك دلالة واضحة على الإعجاز العلمي للقرآن الذي يكشف عن الحقيقة التي كانت مجهولة في زمن نزول القرآن بصورة كاملة.

 

والآية الثانية أيضاً تُعبِّر عن حالة الارتباط الموجودة في العالم في بادىء الأمر، ومن ثم انفصال أجزائه الأخرى وهذا أيضاً أيدته المحافل العلمية كأصل من الأصول في يومنا هذا، وكذلك الحال بالنسبة إلى ظهور الموجودات الحية من ماء البحار في بادىء الأمر - سواء كانت نباتية أو حيوانية - هي الأخرى تعتبر اليوم من النظريات العلمية المعروفة، وإن كان البحث قائماً على قدم وساق بين العلماء في صدد كيفية التحول والتطور، وظهور الأنواع المختلفة للنباتات والحيوانات.

 

والقرآن أيضاً يفصح عن حقيقة ظهور كافة الموجودات الحية من الماء في الآية الثانية المتقدمة الذكر، وفضلًا عن ذلك تصرح الآيات التي تنسب خلقة الإنسان إلى التراب، بأنّ هذا التراب كان ممتزجاً مع الماء على هيئة طين.

 

ونقرأ أيضاً في قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّنْ مَّاءٍ». (النور / 45). وللمفسرين أحاديث مطولة في صدد «الرتق» و«الفتق» الواردين في الآية الثانية واللذيْنِ هما في الأصل بمعنى «الاتصال» و«الانفصال».

 

اختار البعض المعنى المتقدم، وهو السماء والأرض واللتين كانتا على هيئة كُتل عظيمة من البخار والغاز المحترق، وتجزأت شيئاً فشيئاً على أثر الانفجارات الداخلية وحركتها حول نفسها، ومن ثم ظهرت الكواكب والنجوم، من جملتها المنظومة الشمسية.

 

ويرى البعض الآخر أنّ ذلك إشارة إلى الوحدة النوعية في مواد العالم، بحيث كانت متداخلة في بداية الأمر حيث ظهرت على هيئة مادة واحدة، لكنها انفصلت عن بعضها الآخر، وتشكلت مع مرور الزمان بتركيبات جديدة.

 

وذهب جمع آخر أيضاً إلى أنّ ذلك إشارة إلى عدم نزول المطر ونمو النباتات من الأرض، بمعنى أنّ السماء كانت في بداية الأمر متصلة مع بعضها الآخر، ولم يكن ينزل المطر، والأرض أيضاً كانت متصلة مع بعضها الآخر، فلم يكن للنبات وجود فيها، ثم بأمر من اللَّه تعالى انفجرت السماء ونزل المطر، وتفتحت الأرض فخرجت النباتات.

 

وقد أشارت إلى المعنى الأخير روايات متعددة من طريق أهل البيت عليهم السلام، وكذلك قسم من الروايات الواردة من طريق العامة «1»، في حين تضمنت بعض الروايات الأخرى الإشارة إلى المعنى الأول «2»، وتبدو الإشارة إلى هذا الاتصال أيضاً في الخطبة الأولى من نهج البلاغة، وفي كل الأحوال ينسجم ظاهر الآية مع التفسير الأول، علاوة على عدم وجود مانع من الجمع بين التفاسير المتقدمة، فمن الممكن الجمع بين كل من المعاني الثلاثة في المفهوم الجامع للآية.

 

وممّا يسترعي الانتباه ما ورد في قوله تعالى: «ءَانْتُمْ اشَدُّ خَلْقَاً امِ السَّمَاءُ بَنها... وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحهَا * أخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا». (النازعات / 27 - 32)

 

وتدل هذه الآيات بوضوح أيضاً على كون السماء مخلوقة قبل الأرض، ثم إنّ ظهور الماء والنباتات والجبال كان بعد الانتهاء منها.

 

وبناءً على ذلك، يكون هذا الأمر هو الشيء الذي يؤكّد عليه العلم الحديث، وهو يرى أنّ الأرض وجدت بعد وجود الشمس، ويعتبر ظهور الماء من سطح الأرض، ومن ثم النباتات وكذلك ظهور الجبال بعد خلق الأرض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 424 ، الأحاديث 52 ، و 53 ، و 54 ، و 55 ؛ وتفسير در المنثور ، ج 4 ، ص 317.

(2) المصدر السابق.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد