قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد علي التسخيري
عن الكاتب :
ولد في مدينة النجف الأشرف عام 1944م، هو أحد من الشخصيات التقريبية البارزة على مستوى العالم الإسلامي، درس عند مجموعة من كبار علماء الحوزة، منهم: السيد محمد باقر الصدر والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد تقي الحكيم والميرزا جواد التبريزي والسيد محمد رضا الكلبايكاني والشيخ وحيد الخراساني والشيخ ميرزا هاشم الآملي والشيخ محمد رضا المظفر.rnكان عضواً في مجلس خبراء القيادة في إيران، وأميناً عاماً للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وأميناً عاماً لمجمع أهل البيت العالمي، من مؤلفاته: الاقتصاد الإسلامي، المختصر المفيد في تفسير القرآن المجيد، توفي في 18 آب/أغسطس 2020 في طهران، ودُفن في حرم السيدة معصومة في مدينة قم.rn

الحكمة في وجود المتشابه في القرآن الكريم (1)

لقد تعرّض الباحثون في علوم القرآن لهذا البحث وذكروا لإثارته سببين:

 

الأوّل: أنّ القرآن الكريم كتاب هداية ونور مبين، ووجود المتشابه فيه لا يتفق مع هذه الحقيقة، لأنّ المتشابه لا يعلمه إلّا اللّه والراسخون في العلم.

 

الثاني: ما أشار إليه الفخر الرازي ونسبه إلى الملاحدة، أنّ وجود المتشابه في القرآن كان سببًا لاختلاف المذاهب والآراء، وتمسك كلّ واحد منها بشيء من القرآن بالشكل الذي ينسجم مع مذهبهم. ولهذا يناقض الأهداف التي جاء من أجلها القرآن الكريم. ولذا عمل الباحثون في علوم القرآن على استكشاف وجوه الحكمة في المتشابهات في القرآن. وعلى هذا الأساس ذكرت وجوه متعدّدة ومختلفة تتأرجح بين الضعف وغاية القوة والمتانة. «1» وسوف نشير في بحثنا إلى بعضها مع مناقشة ما يستحقّ النقد منها.

 

الأوّل: ما ذكره الشيخ محمّد عبده أنّ اللّه سبحانه أنزل التشابه ليمتحن قلوبنا في التصديق به فإنّه لو كان كلّ ما ورد في الكتاب واضحًا لا شبهة فيه عند أحد من الأذكياء ولا من بلهاء البلاد لما كان في الإيمان به شيء من معنى الخضوع لما أنزل اللّه تعالى والتسليم لما جاءت به رسله. «2» وقد ناقشه العلّامة الطباطبائي بأنّ الخضوع هو انفعال معيّن وتأثّر خاصّ من قبل الضعيف في مقابل القوي. ولا يكون ذلك من الإنسان إلّا لما يدرك عظمته أو لشيء لا يتمكّن من إدراكه لعظمته وكبره كقدرة اللّه وعظمته وسائر صفاته إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة به. وهذان الأمران غير واردين في المتشابه؛ لأنّه وإن كان من الأمور التي لا يدركها العقل ولا ينالها ولكنه يغتر باعتقاده لإدراكها وحينئذ لا معنى لخضوعه لها. «3» ولكنّ هذه المناقشة لا يمكن الالتزام بها؛ وذلك لأنّ معنى الامتحان بالمتشابه هو وضعه كمقياس بين المؤمن وغيره. فالمؤمن من آمن به استسلامًا منه للمتشابه وإن لم يدرك كنهه دون محاولة تأويله. والذي زاغ قلبه يغترّ به ويدّعي معرفة تأويله، والإنسان في حالة غروره وإن لم يكن خاضعًا ولكنه غير مؤمن؛ لأنّ الخضوع لا يكون إلّا من المؤمن وهو لا يكون مغترًّا.

 

وبعبارة أخرى: إنّ المتشابه لا يكون بطبيعته موردًا لاغترار العقل وإنّما قد يزيغ الإنسان فيغترّ بإدراكه لكنهه. ومن هنا جاء تمحيص القلوب بالمتشابه. فإذا صدّق الإنسان به واستسلم له فهو قد ثبت على الإيمان وإذا اغترّ به وحاول معرفة تأويله فقد زاغ قلبه. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم حيث قال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فهو شيء تمحّص به القلوب. فمن كان في قلبه مرض أو زيغ اتّبعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

 

الثاني: ما ذكره الشيخ محمّد عبده أيضًا، أنّ وجود المتشابه في القرآن كان حافزًا لعقل المؤمن إلى النظر كيلا يضعف فيموت، فإنّ السهل الجليّ جدًّا لا عمل للعقل فيه، والعقل أغنى القوى الإنسانية التي يجب تربيتها والدين أعزّ شيء على الإنسان فإذا لم يجد العقل مجالًا للبحث في الدين يموت عامل العقل فيه وإذا مات فيه لا يكون حيًّا بغيره. «4» وقد ناقشه العلّامة الطباطبائي: أن القرآن الكريم اهتمّ بالعقل وتربيته اهتمامًا بالغًا. فأمر باستعمال العقل في الآيات الآفاقية والأنفسية إجمالًا في بعض الموارد، كما فصّل ذلك في موارد أخرى كالأمر بالتدبّر في خلق السماوات والأرض والجبال والشجر والدوابّ والإنسان واختلاف الألسنة والألوان. كما حثّ على التفكير والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين، وحرّض العقل والفكر ومدح العلم بأبلغ المدح وفي كل ذلك ما يغني عن سلوك طريق آخر هو إنزال المتشابهات الذي يكون مزلقة للأقدام ومصرعا للعقل. «5»

 

الثالث: ما ذكره الشيخ محمّد عبده أيضًا، وهو أنّ الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامّة الناس وخاصّتهم وفيهم العالم والجاهل والذكيّ والبليد. وهناك من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث بفهمه الجميع على السواء وإنّما يفهمه الخاصّة منهم عن طريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى اللّه تعالى والوقوف عند حدّ المحكم فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده. «6» وقد ناقشه العلّامة الطباطبائي بأنّ الكتاب الكريم كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبيّن هذه المتشابهات عند الرجوع إليها، ولازم ذلك أن لا تتضمّن المتشابهات من المعاني ما هو أزيد ممّا تكشف عنه المحكمات، وعند ذلك يبقى سؤالنا - ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب؟ وأيّ حاجة إليها مع وجود المحكمات؟ - على حاله.

 

والسبب في هذا الاشتباه الذي وقع فيه الشيخ محمّد عبده أنّه أخذ المعاني نوعين متباينين:

 

الأوّل: معانٍ يفهمها جميع المخاطبين من العامّة والخاصّة وهي مداليل المحكمات.

 

الثاني : معاني حقيقتها بحيث لا يدركها إلّا الخاصّة ولا يتلقّاها غيرهم، وهي المعارف الإلهية والحكم الدقيقة، فكان من نتيجته أنّ من المتشابهات ما لا ترجع معانيها إلى المحكمات، وذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالّة على أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضًا وغير ذلك. «7» وهذه المناقشة لا تقوم على أساس منطقي؛ إذ ما الذي يمنع من وجود هذين القسمين من المعاني إذا كان المانع من ذلك هو ما يشير إليه العلّامة الطباطبائي من أمومة المحكمات للمتشابهات...؟ وهذه الأمومة لا تعني أكثر من وضع حدود خاصّة معيّنة للمتشابهات تمنع عن الزيغ فيها وتسقط من الحساب جميع الصور والتجسيدات غير المنسجمة مع روح القرآن. وهذا لا يعني تجسيد الصورة الحقيقية للمعنى المتشابه وتعيينها في مصداق خاصّ حتّى تختفي الفائدة منه.

 

فقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) «7» محكم يسقط من الحساب جميع التجسيدات التي تشبه الأشياء كمفهوم الاستواء على العرش في قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) «8» ولكنه لا يعطينا الصورة الواقعية والمصداق المجسّد لهذا الاستواء، فهو معنى مستقلّ لا يمكن أن نفهمه عن ذلك المحكم (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع بهذا الصدد الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 7، ص 184 - 185؛ والسيوطي الإتقان، ج 2، ص 12 - 13 والزرقاني، مناهل العرفان، ج 2، ص 178 - 181.

(2) رشيد رضا، تفسير المنار، ج 3، ص 170.

(3) انظر الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 57.

(4) رشيد رضا، تفسير المنار، ج 3، ص 70.

(5) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 58.

(6) رشيد رضا، تفسير المنار، ج 3، ص 170 - 171.

(7) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص 8.

(8) الشورى: 11.

(9) طه: 5.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد