قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

الولاء والبراءة في القرآن الكريم (1)

ليس الصراع من أجل استقطاب ولاء الناس بأمر طارئ أو جديد في حياة البشرية وتاريخها الطويل، وإنّما هو من أقدم أنماط الصراع إذ يتقابل فيه محوران:

 

الأوّل: المحور الرباني وما له من امتدادات في حياة الإنسان.

 

الثاني: محور الطاغوت؛ حيث يحاول أن يستقطب ولاء الناس لنفسه، ويعمل على انتزاعه منهم بأساليب متعددة.

 

ولكل طاغوت محوره الخاص به، ولكن هذه المحاور جميعها تقع في قبال المحور الرباني للولاية في حياة الإنسان.

 

ومما يلفت النظر بقوّة في زيارة الإمام الحسين (ع) المعروفة بزيارة وارث هي حالة الارتباط بالمحور الرباني للولاية، والانفصال عن كل المحاور التي يصطنعها الطاغوت من أجل استقطاب ولاء الناس لنفسه.

 

والولاء من مقولة التوحيد دائماً، فلا يقبل معه الشرك مطلقاً، وتوحيد الولاء من أهم مقولات التوحيد.

 

فليس للإنسان أن يحتفظ بولاء آخر إلى جانب ولاء الله تعالى، مهما كان نوع ذلك الولاء - غير ولاء الله - لابدّ وأن يقع في مقابل ولاء الله لا محالة، وإن أكثر مصاديق الشرك الذي كان يحاربه الأنبياء والذي ينقله القرآن الكريم هي من شرك الولاء، وليست من الشرك في الخالق.

 

فقليل من الناس مَن يشرك بالله، ويعتقد بوجود إله خالق غيره لهذا الكون، ولكن الكثير منهم مَن يشرك بالله في الولاء فيشرك غير الله ولغير الله في ولائه، ويوزّع ولاءه وطاعته لله ولغير الله معاً، فيعطي للطاغوت حظّاً من ولائه ونصيباً من طاعته، وفي الوقت الذي يجب أن لا يكون للطاغوت أي شيء منها، ويجب أن يكون الولاء والطاعة خالصَيْن لله تعالى وحده.

 

ومن هنا، فإن الطاغوت عندما يعمل على تثبيت حالة محوريته في حياة الناس، فإنّه إنّما يعلن - بذلك - الحرب على الله سبحانه وتعالى، لأنّه يكون حينئذ قد تجاوز حدوده سبحانه، وتعدّى على حق الله وولايته على جميع الموجودات بما فيها الإنسان.. محاولاً انتزاع البشرية من دائرة الولاء لله تعالى وقطع صلتها به سبحانه.

 

وقد كان صراع التوحيد والشرك في حياة الأنبياء في هذا الأمر بالذات هو من أغلب الحالات، فقد كان الأنبياء يعملون على توحيد الولاء، وتوحيد محور الولاية في حياة الإنسان.. حيث كانوا يدعون البشرية إلى ولاء الله وطاعته ويأمرونهم برفض كل ولاء آخر غير الولاء له سبحانه.

 

ويشكّل صراع الحق والباطل في تاريخ الإنسان صوراً مختلفة لمعركة الولاء التي هي أعمق بكثير من كونها صراعاً سياسياً أو عسكرياً، لأنّها معركة عقائدية وحضارية في حقيقة الحال، وحتّى إذا سمّينا هذا الصراع بالصراع السياسي فهو نمط خاص من أنماط الصراع السياسي، وليس من قبيل ما ألفه الناس من الحروب السياسية.

 

فالمعركة هنا حول مسألة واحدة، وهي: حق الحاكمية في حياة الإنسان.

 

وحق الحاكمية حق واحد لا يتجزّأ ولا يتعدد، فإمّا أن يكون لله تعالى فلا يقبل شريكاً ولا ندّاً، وإمّا أن يكون لغير الله فيكون من الشرك بالله سبحانه.

 

وتنشطر البشرية حول هذه المسألة إلى شطرين أحدهما: يوحّد الله تعالى بالولاء والطاعة، ولا يقبل لله سبحانه أي شريك في الولاية والحاكمية. والآخر: يقبل في الحياة محاور أخرى للولاية وينقاد لها؛ فقد يكون الولاء للهوى، وقد يكون للطاغوت.

 

ويُشكّل الصراع بين هذين الشطرين من البشرية كبرى قضايا الإنسان، وأهم أحداث تاريخ حياة الإنسان على وجه الأرض. وإذا جاز للإنسان أن يقف موقف اللاّمبالاة والمتفرج من كثير من القضايا، فلا يجوز له أن يقف موقف المتفرج من قضية الولاء، فهي مسألة جدّية وحقيقية في حياة الإنسان، تتطلب منه موقفاً محدّداً وصريحاً، وتتطلب منه ثباتاً على الموقف مهما كلّفه ذلك من جهد وعمل ومهما احتاج إلى ضرائب وتضحيات.

 

فليست مسألة الولاء في حياة الإنسان مسألة مساومة ولا مجاملة، وإنّما هي عنوان شخصية الإنسان وقيمته؛ حيث إن الإنسان الذي ليس له ولاء معيّن ومحور ثابت يرتبط به في حياته، فإنّه لا يزيد على أن يكون ريشة في مهب الرياح السياسية والأهواء الذاتية والمتغيرات الاجتماعية.

 

والولاء لله هو الولاء الوحيد الذي يحدّد للإنسان معالم شخصيته ومسار تحرّكه، وهو الذي يعطي للإنسان قيمته الحقيقية التي تتمثل في خلافته لله تعالى على وجه الأرض، وهو الذي يحدّد له الموقف والمنطلق والمسار والغاية.

 

والمسألة التي تكون بهذه الدرجة من الأهمية في حياة الإنسان لا يجوز للإنسان أن يتناولها بضعف، ويتعامل معها بتسامح وتساهل ومرونة؛ بل عليه أن يأخذها بقوّة، ويكون من أمرها واضحاً وصريحاً وجادّاً وقويّاً! كيف يكون الولاء؟

 

ويتجسّد الولاء لله سبحانه وتعالى عبر الارتباط به سبحانه من خلال:

 

1 - الطاعة والانقياد والتسليم:

 

فقال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) - (..وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) - (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) - (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ...) - (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) - (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ...) - (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...). وكما أن الولاء لله يتطلّب الطاعة لله وللرسول والانقياد والتسليم، فإنّه يتطلّب كذلك رفض الطاعة لغير الله. قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ).

 

2 - الحب والإخلاص لله سبحانه وتعالى:

 

فقال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) - (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ...).

 

3 - النصرة لله ولرسوله وللمؤمنين:

 

فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) - (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) - (...وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ..) - (..وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا...) - (...فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

 

والولاء بهذا المعنى الشامل يقوم باستقطاب كل قدرات الإنسان وإمكاناته ومواهبه وميوله حول محور واحد، ويؤدّي إلى توجيه أفعال الإنسان وتحرّكاته ورغباته كافّة في خدمة ذلك المحور... وبالتالي فإنّه - أي الولاء - يفرض هيمنة شاملة لهذا المحور على كل الكينونة الإنسانية، فينقذ الإنسان من التشتّت والتمزّق والضياع الذي يعاني منه كثير من الناس حيث تتوزّعهم أمور متباينة وعوامل مختلفة وجهات شتّى.

 

فأوّل ما يصنع توحيد الولاء في كيان الإنسان هو أنّه يجمع كل كيانه الداخلي والخارجي حول نقطة واحدة. ثم يوجّه - ثانياً - هذه المجموعة المنسجمة من الإمكانات والطاقات من ميول ورغبات وأفعال باتجاه واحد، وهو الصراط المستقيم الذي يأمر به الله تعالى، فيتحوّل الإنسان حينئذ - من كائن ضعيف متشتّت البال والأحوال ومتوزّع القوى والقدرات إلى كائن قوي فاعل في الاتجاه الذي يسير فيه، لا تتنازعه العوامل المختلفة ولا يصيبه الضعف أو التردّد أو الوهن، ولا يعاني من الحيرة في العمل ولا يلابسه لبس أو غموض أو شك في التحرك.

 

فيحرّره - ثالثاً - من جميع المحاور المختلفة والعوامل المتباينة التي تهدّد باحتواء حياة الإنسان وجهده وحركته، كالأهواء والأنا والطاغوت والمال والمتاع.

 

ويمنحه - رابعاً - الانسجام التام بين الجوارح والجوانح، بين الظاهر والباطن، بين الخارج والداخل، إذ إن الولاء لا يفرض هيمنة قسرية على جوارح الإنسان وعمله وتحرّكه، وإنّما يمنح الإنسان الانسجام النفسي مع الطاعة والإقبال والحب والرغبة؛ وذلك لأنّه يشكّل هيمنة كاملة على كل الكينونة الإنسانية، ويشكّل محوراً ثابتاً لكل اهتمامات الإنسان وتحرّكاته وجميع ميوله النفسية ورغباته.

 

ومن أهم خصائص هذه الهيمنة والمحورية هي أنّها لا تأتي عن حشر وإرغام وقسر، وإنّما تصدر عن انسجام نفسي كامل للإنسان مع هذا المحور، وانجذاب شامل نحوه، حيث إن حركة الجوارح يمكن أن تخضع للحشر والضغط، ولكن الميول والرغبات والحب والبغض لا يمكن أن تخضع للعوامل الخارجية القاهرة.

 

ولذلك، فإن حب الله والحب في الله هي من أهم عناصر الولاء ومقوّماته، حيث إنّه هو الذي يمنح الإنسان هذا الانسجام ما بين عمل جوارحه وتوّجه جوانحه، وهو الذي يجعل طاعة الإنسان لله وانقياده له وعبادته إياه تعالى تصدر عن رغبة وحب وشوق.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد