قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

العُجب رؤية قرآنية


الشيخ محمّد مهدي الآصفي ..

القسم الأول

﴿قُل هَل نُنَبّئُكُم بِالأخسَرينَ أعمالاً، الذينَ ضلّ سَعيُهُم في الحَيَوةِ الدنيا وَهُم يَحسبُونَ أنهم يحسنون صُنعاً، أولئِكَ الذِينَ كَفَرُوا بآيَتِ رَبّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبطَت أعمَلُهُم فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيمةِ وَزناً﴾ (الكهف: 103-105).


المدخل إلى البحث
من أخطر ما يصنعه الشيطان بالإنسان من مكر، هو "العُجب"، وذلك أن الشيطان قد يحرف الإنسان من العبادة إلى الشرك، وهذا نوع من المكر ظاهر يتمكن الإنسان من مكافحته، وقد يحول الشيطان العبادة نفسها إلى الشرك، وهذا هو أخطر مكر الشيطان، وقد يقطع الشيطان السبيل على الإنسان فيحوله من الإقبال على الله إلى الإعراض عن الله وقد يحول الشيطان الإقبال على الله - نفسه - إلى الإعراض عن الله وهذا أخطر من الأول.
كيف يمكر الشيطان هذا المكر، وما هي الأداة التي يستخدمها فيحول العبادة والإقبال على الله إلى الشرك والإعراض عن الله؟
الجواب على ذلك ينطوي في كلمتي "العُجب" و"الرياء".
في العجب يحجب الشيطان الإنسان عن الله ب-"الأنا"، ويجعل الأنا حجاباً بين الإنسان وبين الله فتتحول العبادة إلى ضدها: إعراض وشرك، وفي الرياء يحجب الشيطان الإنسان عن الله بالغير، وليس بـ"الأنا" فيجعل وجهة عمله والغاية من عمله هو "الغير" وليس الله ويستدرج الإنسان من الإخلاص لله تعالى وابتغاء مرضاته إلى ابتغاء مرضاة الآخرين وإعجابهم، فيتحول عمل الإنسان من الطاعة والإقبال على الله إلى الشرك والإعراض عن الله.
إذن من أخطر مكر الشيطان في حياة الإنسان "العُجب" و"الرياء"، ونحن في هذا المقالة نحاول أن نبحث عن "العُجب" إن شاء الله ونتعرف على أسبابه وأعراضه وأنواعه وعلاجه من خلال القرآن الكريم.


علاقة الإنسان بنفسه
من طرائق الفكر الإسلامي تحديد نوع علاقة الإنسان بنفسه، وهو أفق واسع في نفس الإنسان، وقد تتعقد شبكة العلاقة التي تربط الإنسان بنفسه أكثر من تعقيد شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط الإنسان بالآخرين من أفراد أسرته وزملائه وأصدقائه ومنافسيه وأعدائه.
ولكل من هاتين الشبكتين "في النفس والمجتمع" أصولها وأحكامها ومنهاجها التربوي الذي يخصها، ولعل اهتمام الإسلام بالشبكة الأولى في علاقة الإنسان بنفسه لا تقل عن اهتمامه بالشبكة الثانية في علاقة الإنسان بالآخرين.
وللناس في العلاقة بأنفسهم أطوار مختلفة، فقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على "السلام مع النفس" - كما قال المسيح بن مريم (عليهما السلام): ﴿وَالسلمُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أمُوتُ وَيومَ أبعثُ حَيّاً﴾ (مريم: 33)، فهذا طور من العلاقة بالنفس قائمة على السلام مع النفس.
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس من "الظلم والاعتداء" يقول تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمنَهُم وَلكن ظَلَمُوا أَنفُسَهُم﴾ (هود: 101).
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس "التفكير الذاتي بالنفس". يقول تعالى: ﴿أولَم يَتفكرُوا فِي أَنفُسِهِم﴾(الروم: 8).
وقد تكون العلاقة بالنفس قائمة على أساس "مراقبة النفس وإخضاعها للمراقبة والحساب". يقول تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (المائدة: 105).
وقد تكون هذه العلاقة بالعكس قائمة على أساس "نسيان النفس وإهمال مراقبتها". يقول تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ (البقرة: 44).
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس "الصراع الداخلي بين الخير والشر": ﴿إنّ النّفسَ لأمّارّةٌ بِالسُوءِ﴾ (يوسف: 53).
وقد تكون هذه العلاقة قائمة على أساس "إستقرار النفس على الهدى والاستقامة على خط الفطرة". يقول تعالى: (يأيّتُهَا النّفسُ المُطمَئِنّةُ ارجعي إلى رَبّكِ رَاضيَةً مَرضِيّةً) (الفجر: 27)، ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ﴾ (الرعد: 28).
وهناك نماذج أخرى كثيرة لعلاقة الإنسان بنفسه، قد أولاها القرآن الكريم إهتماماً كبيراً والذي يقرأ القرآن بإمعان يجد أن علاقة الإنسان بنفسه وتنظيم هذه العلاقة وتصحيحها يأخذ من كتاب الله اهتماماً كبيراً ومساحة واسعة.
ولا نريد نحن أن ندخل هذا الأفق من البحث في هذا المقال، وإنما نريد فقط أن نشير إلى أن من النماذج الخطرة لعلاقة الإنسان بنفسه هو "العُجب" وهو حالة انشداد الإنسان بنفسه واعجابه الشديد بها وبأعمالها، بحيث يستأثر "الأنا" بكل اهتمامه وإعجابه ويستأثر بكل رؤيته، فلا يرى غير نفسه وغير أعماله.
وعندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانشداد بالأنا يحجبه "الأنا" عن الله تعالى، فيملأ الضئيل الذي يقدمه لله تعالى من عمل وجهد وطاعة كل قلبه وإحساسه، دون أن يرى عظيم رحمة الله تعالى وفضله وجميله به.

ولو كان الإنسان ينظر إلى الأشياء نظرة سوية ويراها بحجمها الحقيقي لاستهان بجهده وعمله وطاعته لله تعالى، وأكبر فضل الله تعالى ورحمته في حقه، واستحى من الله تعالى أن يقابل عظيم رحمته وفضله بمثل هذا الجهد الضئيل. ولكن عندما يستأثر الأنا بكل رؤيته واهتمامه وإعجابه لا يرى إلا جهده وفعله، دون أن يرى رحمة الله تعالى وفضله، فيتحول إقباله على الله وطاعته لله بهذه الطريقة النفسية الملتوية إلى إعراض عن الله وشرك أو كفر به تعالى، فإن الكافر هو الذي يحجبه حاجب عن الله تعالى حجباً كاملاً. والعجب إذا دخل النفس وتمكن منها يحجب الإنسان عن الله حجباً كاملاً، وفي ذلك هلاك الإنسان وسقوطه التام.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من دخله العجب هلك".
وأما في الحالات السوية، عندما يقترن عمل الإنسان وجهده في طاعة الله تعالى بإحساس حقيقي وواضح بعجزه عن شكر الله تعالى ومقابلة إحسانه وفضله، فإن عمله عند ذلك على ضآلة حجمه يكون جسراً يوصله إلى الله تعالى. وقد روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) أنه قال لبعض ولده: (يا بنيّ! عليك بالجد ولا تخرجن نفسك عن حد التقصير في عبادة الله عز وجل وطاعته، فإن الله لا يعبد حق عبادته).
وعن جابر قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): (يا جابر! لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير).
فالعمل الواحد إذن قد يؤدي بالإنسان إلى طريق الله تعالى ويقرّبه من الله، وقد يحجبه ويقطعه عن الله تعالى والفارق الرؤية، وهو أمر عظيم يستحق من الإنسان كل اهتمام.
فقد لا يختلف عمل عن عمل من حيث الحجم والوزن، ولكن أحدهما يقرب العبد إلى الله تعالى والآخر يبعده عنه تعالى.


العجب والاعتداد بالنفس والأنانية
"العجب" حالة واحدة من ثلاث حالات ناتجة عن انشداد الإنسان بمحور الأنا، وهذه الحالات الثالثة هي "العجب" و"الاعتداد بالنفس" و"الأنانية".
و"العجب" هو أن يستأثر الأنا بإعجاب الإنسان ويحجبه عن رؤية فضله تعالى ورحمته به، وفي مقابل "العجب" الشعور بالتقصير والعجز عن أداء شكره ومقابلة فضله ورحمته بالطاعة والعبادة.
والاعتداد بالنفس هي حالة أخرى من حالات الانشداد للنفس تتلخص في اعتماد النفس وطرح الثقة بها في مقابل التوكل على الله ووضع الثقة المطلقة في الله تعالى، وهما حالتان من الاعتماد والثقة في مقابل العمل. وفي الحالة الأولى يضع الإنسان ثقته في نفسه، ويعتمدها وهي الحالة الانحرافية في التعامل مع النفس، وفي الحالة الثانية يضع الإنسان ثقته في الله تعالى ويعتمده في شؤونه وحياته وأعماله كلها وهي الحالة السوية في التعامل.
والحالة الثالثة من حالات الانحراف النفسي في انشداد الإنسان بنفسه هي حالة الأنانية، وهي حالة يكون فيها "الأنا" هو المحور الذي يدور حوله كل حركة الإنسان ونشاطه، ويستأثر بكل فعالية الإنسان وتحركه، وفي مقابل هذه الحالة "الإخلاص لله" الذي يجعل من مرضاة الله تعالى محوراً لكل سعي الإنسان وحركته ونشاطه.
إذن هناك ثلاث حالات من الانشداد بالذات هي "العجب، الاعتداد بالنفس، الأنانية". وهي حالات انحرافية في نفس الإنسان نابعة من إنشداد الإنسان لنفسه وحبه لها وفي مقابلها حالات ثلاثة سوية من الانشداد بالله تعالى والتعلق به وإيثار مرضاته على كل شيء وهي "الإحساس بالتقصير والعجز من أداء شكر الله تعالى والتوكل على الله، والإخلاص لله".

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة