السيد جعفر مرتضى
ظهور الخوارج :
الخوارج : فرقة ظهرت في النصف الأوّل من القرن الأول الهجري ، وبالذات في مناسبة حرب صفين التي دارت بين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) الخليفة الشرعي من جهة ، وبين معاوية بن أبي سفيان ، الذي كان يحاول الاستئثار بهذا الأمر لنفسه من جهة أخرى ، حيث رأى معاوية : أنّ علياً سيربح الحرب لو استمرّت ، فأمر ـ بمشورة من عمروبن العاص ـ برفع المصاحف ، الأمر الذي أنجرّ إلى التحكيم ، وكان أولئك المعترضون على قبول عليّ للتحكيم هم أنفسهم الذين كانوا قد أجبروه عليه من قبل ، كما اعترفوا به هم أنفسهم ، كما صرّحت به النصوص التاريخية الكثيرة جدّاً ، وهذا ما يكذّب ما يدّعيه البعض من أنّ الخوارج كانوا هم المعارضين للتحكيم من أوّل الأمر .
نعم ... إنّ هؤلاء قد حكموا على عليّ (عليه السّلام) بالكفر لأجل قبوله التحكيم الذي أجبروه هم عليه ، كما كفَّروا الخليفة الثالث عثمان بسبب بعض المخالفات التي صدرت عنه في السنين الأخيرة من خلافته ، هذا فضلاً عن تكفيرهم طلحة والزبير وعائشة وغيرهم .
ثمّ إنّهم خرجوا على عليّ (عليه السّلام) وحاربوه ، وكان من جملة ما احتجّوا به لحربهم إياه : أن قالوا : (زعم أنّه وصي فضيّع الوصيّة ) كما ذكره اليعقوبي ، نعم وهؤلاء بالذات وأتباعهم هم الذين سُمّوا بالخوارج ، وهم محطّ بحثنا الآن .
موقف عليّ (عليه السّلام) من الخوارج :
وقد عالج أمير المؤمنين (عليه السّلام) قضية الخوارج بحكمة ومرونة ، ثمّ بحزم وبحسم أيضاً ، حيث حاول أوّلاً أن يقنعهم بخطئهم في تصوّراتهم ومواقفهم ، فناقشهم ووعظهم هو وأصحابه : ابن عباس وغيره ، وأقاموا عليهم الحجّة ، حتى رجع منهم الألوف .
ويلاحظ هنا : أنّه (عليه السّلام) ينهى ابن عباس عن أن يخاصمهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذووجوه ، ولكن يخاصمهم بالسنّة ، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً .
كما أنّه هونفسه قد التزم بذلك إلى حدٍّ كبير ، حيث نجده يهتمّ بأن يحتجّ عليهم بأقوال النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وأعماله بالدرجة الأولى ، فاحتجّ عليهم بأنّه ( صلى الله عليه وآله ) قد رجم الزاني ثمّ صلّى عليه وورثه أهله ، وقتل القاتل كذلك ، وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ، ثمّ قسّم عليهما من الفيء ، ونكحا المسلمات ، فأخذهم ( صلى الله عليه وآله ) بذنوبهم ، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ، ولا أخرج أسماءهم من بين أهله .
واحتجّ عليهم أيضاً بمنِّ النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) على أهل مكّة فلم يسبّ نساءهم ولا ذريتهم ، وبمحوه ( صلى الله عليه وآله ) كلمة : ( رسول الله ) من صحيفة الحديبية ، وبإعطائه النصفة لأهل نجران ، حيث قال : ( ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) وبتحكيمه سعد بن معاذ في بني قريظة الذين نقضوا العهد .
ولكن... رغم كلّ تلك المحاولات والمواعظ والاحتجاجات ، ورغم رجوع الألوف منهم عن غيّهم ، فقد بقيت بقيّة حوالي أربعة آلاف أبوإلاّ البقاء على ما هم عليه ، ومحاربته ، وقتلوا الأبرياء ، حتى النساء ، وأخافوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض ، فاضطر (عليه السّلام) لمحاربتهم لدفع شرّهم ، وإخماد نار فتنتهم ، فحاربهم ، وقتلهم ، ولم يفلت منهم إلاّ أقل من عشرة ، كما لم يستشهد من أصحابه إلاّ أقلّ من عشرة ، كما أخبر به (عليه السّلام) قبل ذلك .
ويقول المؤرّخون : إنّ الذين أفلتوا من القتل قد أصبحوا بذرات أخرى للخوارج في مناطق عديدة فيما بعد .
وأمّا أولئك الذين استأمنوا ، فقد صاروا يخرجون على عليّ (عليه السّلام) وعلى غيره بعد ذلك ، فخرج منهم ألفان على الإمام في النخيلة فقضى عليهم ، ثمّ صار الخوارج يخرجون عليه في شراذم قليلة في بضعة مئات وأقلّ وأكثر في الأنبار ، وماسبذان ، وجرجرايا، والمدائن ، وسواد الكوفة ، فكان يقضي على حركاتهم تلك الواحدة تلو الأخرى بيسر وسهولة .
أنا فقأت عين الفتنة :
ويقول (عليه السّلام) عن حربه للخوارج ولغيرهم :
( أنا فقأت عين الفتنة ، ولم تكن ليجرؤ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها واشتدّ كلبها ) .
وفي رواية أخرى لهذا النصّ بدل ذيل الكلام : ( ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون ، ولا القاسطون ، ولا المارقون ) .
وفي نصّ آخر : ( ما قوتل أصحاب الجمل والنهروان) .
ويبدو أنّ سرّ ذلك هو أنّه قد كان على رأس الناكثين : طلحة والزبير ، وهما من أهل السابقة في الإسلام ، ثمّ أُمّ المؤمنين عائشة زوجة الرسول ، وبنت الخليفة الأوّل أبي بكر ، المرأة الذّكية والشجاعة ، والتي كانت تحظى بعناية ورعاية خاصّة من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، الذي يتميز بعظمة خاصة في نفوس الناس ، وشاع وذاع عنه ما لا يمكن تجاهله وإنكاره .
وكان معاوية يتزّعم القاسطين ، وعمر هو الذي جعله على بلاد الشام ، وكان يعامله معاملة متميزة ، وبقي على عمله إلى أن توفي عمر ، ثمّ طيلة خلافة عثمان ، وتربّى أهل تلك البلاد على أفكاره واتجاهاته ، وأصبحت بلاد الشام سفيانية كما أشار إليه الأصمعي وغيره . ثمّ هناك الشبهات التي كان يلقيها معاوية في الناس بالنسبة لمقتل عثمان .
أمّا المارقون ... فكانوا معروفين بالعبادة والزهد ، فالإقدام على حربهم وقتلهم لم يكن أمراً سهلاً وميسوراً لكلّ أحد ، أمّا عليّ (عليه السّلام) فقد كانت مكانته بين المسلمين معروفة لدى كلّ أحد ، وكانت الأمّة لا تزال تسمع من وعي النَّبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الكثير الكثير ممّا يدل على فضله ، وأنّه مع الحقّ والحقّ معه ، وأنّه منه بمنزلة هارون من موسى ، حتى ليصبح قتاله للخوارج ولغيرهم حتى عائشة دليلاً صريحاً على تعدّيهم وظلمهم ، وخطئهم في موقفهم على الأقل .
نعم ... وقد رأينا الكثيرين من الخوارج عليه ـ (عليه السّلام) ـ يشكّون في صحّة وسلامة موقفهم منه ، حتى إذا جاء العهد الأموي بدءً من معاوية ، قالوا : قد جاء الآن ما لا شكّ فيه . ثمّ أخذوا على عاتقهم مهمة قتال الأمويين بكلّ ضراوة وعنف ، كما هو معلوم .
لا تقاتلوا الخوارج بعدي :
وبعد... فإنّا نجد علياً الذي يحارب الخوارج ويستأصل شأفتهم يوصي الناس وشيعته بأن لا يقاتلوا الخوارج بعده ، ويعلل ذلك بأنّه ليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه .
وأيضاً ... فقد ذكرت الحرورية عنده ، فقال : إن خرجوا على إمام عادل وجماعة فقاتلوهم ، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم ، فإنّ لهم في ذلك مقالاً .
ولعلّ سرّ ذلك هو:
أولاً : إنّ الخوارج في المستقبل سيقاتلون الأمويين الذين كانوا أشدّ خطراً على الإسلام والأمّة ، لأنّ دعوتهم وطريقتهم تستهوي النفوس الضعيفة ، لأنّهم يدعون إلى الدنيا وإلى زبارجها وبهارجها ، وهذا ما ينساق إليه الناس بغرائزهم ويلائم هوى نفوسهم ، كما إنّهم قد تلاعبوا في عقائد المسلمين وغيّروها وأدخلوا عليهم فيها الشُبَهة والإسرائيليات وغير ذلك ممّا لا مجال لذكره هنا ، في حين أنّه كان لهم القدح المعلّى والقدم الثابت في الانحراف ، مع خبث نفوسهم ، وشدّة ظلمهم وفجورهم .
يقول عليّ (عليه السّلام) بعد كلامه السابق عن الخوارج : ( ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة فإنّها فتنة عمياء مظلمة ، عمت خطتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها ، واخطأ البلاء من عمي عنها ، وأيم الله ، لتجدنّ بني أمية لكم أرباب سوء ، كالنار الضروس تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درها ، ـ إلى أن قال ـ : لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلاّ نافعاً لهم ، وغير ضائر بهم ، ـ إلى أن قال ـ : ترد فتنتهم شوهاء مخشية ، وقطعاً جاهلية ، ليس فيها منار هدى ، ولا علم يرى) .
أمّا دعوة الخوارج فلم يكن لها ذلك الخطر ، وذلك لما يلي :
ألف : لقد كان الخوارج ـ عموماً ـ أعراباً جفاة ، لا ثقافة ولا معرفة لديهم ، يشكّلون بها خطراً على الدّين بشبهاتهم وانحرافاتهم .
باء : إنّ دعوتهم لم تكن تنسجم مع الفطرة ولا تتقبلها العقول ، وإذا ما استهوت بعض شعاراتهم بعض البسطاء والسُذّج لبعض الوقت فإنّها لا تلبث أن تنحسر وتتلاشى بمجرّد دعوتهم إلى الفطرة ، والعقل السليم ، والفكر المستقيم .
يضاف إلى ذلك : حِدِّيتهم المتناهية في التعامل مع سائر المسلمين ، حيث لم يكن قلوبهم تعرف الرحمة والشفقة حتى للأطفال والنساء .
فالأزارقة، وقد كانوا أعظم فرقهم وأشدّها شوكة ، وقد استولوا على الأهواز وأرض فارس وكرمان وجبوا خراجها سنوات عديدة ، إنّ هؤلاء يقولون بكفر جميع من عداهم ، ولا يحقّ لأصحابهم المؤمنين منهم أن يجيبوا أحداً من غيرهم إلى الصلاة إذا دعا إليها ، ولا أن يأكلوا ذبائحهم ، ويتزوّجوا منهم ، ويرثوا منهم ، ويورثوهم ، ويكون غيرهم مثل كفّار العرب ، وعبدة الأوثان ، لا يقبل منهم إلاّ الإسلام والسيف ، ودارهم دار حرب ، ويحلّ قتل أطفالهم ونسائهم ، ويحلّ لهم الغدر بمن خالفهم ، ولا تجوز التقية ، إلى غير ذلك ممّا لا مجال لذكره هنا.
جيم : إنّ الخوارج إنّما حاربوا علياً (عليه السّلام) لشبهة تمكّنت من نفوسهم ، وزيّن لهم الشيطان إنّهم ظاهرون ومنتصرون ، فهم قد طلبوا الحقّ فوقعوا في الباطل ، وإذا كان قد خالط ذلك الشيء من حبّ الدنيا والمصالح الشخصية والمفاهيم الجاهلية ، والعصبيات القبلية ، فإنّما كان ذلك ملبساً بلباس ديني ، وشبهة كانت طاغية على فهمهم وإدراكهم ومبرّرة على هذا الأساس ، فكانوا ـ كما عن عليّ (عليه السّلام) ـ مصداقاً لقوله تعالى : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ إنّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) .
ثانياً : إنّ ظاهر الخوارج هو إنّهم من العُبّاد والزُهّاد ، فمن يتصدّى لحربهم ـ سوى عليّ (عليه السّلام) ـ لم يكن يستطيع أن يدافع عن نفسه كثيراً ولاسيما إذا كان الإعلام ـ حتى الأموي ـ ضدّه ، ويعمل على تشويهه ، وتحطيم كلّ مقومات حياته ووجوده .
كما أنّ العراق الميّال لعليّ وأهل بيته (عليهم السّلام) سينشغل بقضية لن تكون نتائجها إلاّ زعزعة ثباته ، وتمزّق أوصاله ، ويقلل من فرص اجتياح المدّ الشيعي على شكل التعاطف مع أهل البيت لمناطق أخرى تقع في نطاق اهتمامات الحكم الأموي .
كما أنّ تولي هؤلاء لحرب الخوارج معناه أن يتحمّلوا هم آثار الحرب ومخلفاتها غير المرغوب فيها ، ولاسيما ما ينشأ عن سفك الدماء عادة من الأحقاد ، ثمّ زعزعت الثوابت على الصعيد القبلي والعاطفي .
ثالثاً : لقد كان الشيعة قلّة ومضطهدين من قبل الحكم الأموي ، فتكليفهم بقتال الخوارج معناه المزيد من إضعافهم هم والخوارج مع بقاء الحكم الأموي محتفظاً بكامل قواه ، يتحكّم بمقدرات الأمّة ، ويسومها الخسف والذلّ .
وقد حاول الأمويون ابتداء من معاوية الزجّ بأهل البيت وشيعتهم في حرب الخوارج ، فأرسل معاوية إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) وهو في طريقه من الكوفة إلى المدينة يدعوه لحربهم ، فرفض (عليه السّلام) طلبه وكتب إليه : ( لو آثرت أن أقاتل أهل القبلة لبدأت بقتالك ) ، وفي مناسبة أخرى على ما يظهر يذكره (عليه السّلام) بأن ليس من طلب الحقّ فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأدركه فأسكت معاوية .
إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ الأمويين قد استطاعوا أن يجيبوا الشيعة على حربهم ، وقد نكل الحجّاج بأهل العراق ، وقتل من قتل وفعل بهم الأفاعيل في مجال إرغامهم على ذلك .
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع