من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

حقيقة التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية

لـمّا انتشر الإسلام في الجزيرة العربية، ودخل الناس في الإسلام زرافاتٍ ووحدانًا، لم يجد اليهود والنصارى الموجودون فيها محيصاً إلّا الاستسلام؛ فدخلوا فيه متظاهرين به، غير معتقدين غالباً إلّا من شملتهم العناية الإلهية منهم وكانوا قليلين، ولكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصاً الأحبار والرهبان بقوا على ما كانوا عليه من العقائد السابقة.

 

وبما أنّهم كانوا من أهل الكتاب عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأُصول والعقائد، عمَدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاصّ، وبطريقة تعليميّة، ولـمّا كانت السذاجة تغلب على عامّة المسلمين لذا تلقّوهم كعلماء ربانيين، يحملون العلم، فأخذوا ما يلقونه إليهم بقلبٍ واعٍ ونيّة صادقة، وبالتالي نشر هؤلاء في هذا الجوّ المساعد كلّ ما عندهم من القصص الانحرافية والعقائد الباطلة، خصوصاً فيما يرجع إلى التجسيم والتشبيه وتصغير شأن الأنبياء في أنظار المسلمين، بإسناد المعاصي الموبقة إليهم، والتركيز على القدر وسيادته في الكون على كلّ شيء، حتى على إرادة الله سبحانه ومشيئته.

 

ولم تكن رؤية الله بأقلّ مما سبق في تركيزهم عليها.

 

فما ترى في كتب الحديث قديماً وحديثاً من الأخبار الكثيرة حول التجسيم، والتشبيه، والقدر السالب للاختيار والرؤية ونسبة المعاصي إلى الأنبياء، فكلّ ذلك من آفات المستسلمة من اليهود والنصارى. وقد عدّها المسلمون حقائق ثابتة وقصصاً صادقة فتلقّوها بقبول حسن ونشرها السلف بين الخلف، ودام الأمر على ذلك.

 

وأهمّ العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين، النهي عن تدوين حديث الرسول صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ونشره ونقله والتحدّث به طيلة أكثر من مائة سنة، فأوجد الفراغ الّذي خلفه هذا العمل أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية، خصوصاً من قبل الكهنة والرهبان.

 

فقد كان التحدّث بحديث الرسول صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أمراً مكروهاً، بل محظوراً من قبل الخلفاء إلى عصر عمر بن عبد العزيز (61 ـ 101 ه‍)، بل إلى عصر المنصور العباسي (143 ه‍)، ولكن كان المجال للتحدّث بالأساطير من قبل هؤلاء أمراً مسموحاً به؛ فهذا هو تميم بن أوس الداري من رواة الأساطير، وقد أسلم سنة تسع للهجرة، وهو أول من قصّ بين المسلمين، واستأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً، فأذن له، وكان يسكن المدينة ثمّ انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان. فسمحت الظروف لمثل هذا الكتابيّ أن يتحدّث بما تعلّم في حياته السابقة ولكن منع من أراد التحدّث بحديث الرسول، لذا كان المجال خصباً لنشر الأساطير والعقائد الخرافية.

 

يقول الشهرستاني: وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديثَ متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه وكلها مستمدّة من التوراة (1).

 

وهذا هو المقدسي يتكلّم عن وجود هذه العقائد بين عرب الجاهلية، يقول: وكان فيهم من كلّ ملّة ودين، وكانت الزندقة والتعطيل في قريش، والمزدكية والمجوسية في تميم، واليهودية والنصرانية في غسان، وعبادة الأوثان في سائرهم (2).

 

ويقول ابن خلدون: إنّ العرب لم يكونوا أهلَ كتاب ولا علم، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُميّة، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكوَّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهلَ الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهلَ المفسّرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلّها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون (3).

 

ولو أردنا أن ننقل كلمات المحقّقين حول الخسارة التي أحدثها اليهود والنصارى لطال بنا الكلام وطال مقالنا مع القرّاء.

 

ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام كعب الأحبار؛ حيث خدع عقولَ المسلمين وحتى الخلفاء والمترجمين عنه من علماء الرجال، فقد أسلم في زمن أبي بكر، وقدِمَ من اليمن في خلافة عمر، فانخدع به الصحابة وغيرهم.

 

قال الذهبي: العلّامة الحبر!! الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبيّ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر (رض)، وجالس أصحاب محمّد، فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب ـ إلى أن قال: ـ حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي، وهو نادر عزيز، وحدّث عنه أيضاً أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي (4). وعرّفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنه من أوعية العلم (5).

 

وقد وجد الحبر الماكر جوّاً ملائماً لنشر الأساطير والقصص الوهمية، وبذلك بثّ سمومه القاتلة بين الصحابة والتابعين، وقد تبعوه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

 

وقد تنبّه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر لفيف من القدماء، منهم ابن كثير في تفسيره، حيث إنّه بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان، قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقاة عن أهل الكتاب ممّا وجد في صحفهم، كروايات كعب ووهب ـ سامحهما الله تعالى! ـ فيما نقلاه إلى هذه الأُمّة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن، وممّا حُرِّف وبُدِّل ونسخ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنفع وأوضح وأبلغ (6).

 

والّذي يدلّ على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنه ربّما ينقل شيئاً من العهدين، وفي الوقت ذاته نرى أنّ بعض الصحابة الّذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه ينسب نفس ما نقله إلى الرسول! والذي يبرّر ذلك العمل حسن ظنّهم وثقتهم به، فحسبوا المنقول أمراً واقعياً، فنسبوه إلى النبيّ زاعمين أنّه إذا كان كعب الأحبار عالماً به فالنبيّ أولى بالعلم منه.

 

وإن كنت في شكٍّ من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تأريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس والقمر يوم القيامة، والآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبيّ الأكرم، ومضمون الحديث ينادي بأعلى صوته بأنّه موضوع مجعول على لسان الوحي، نشره الحبر الخادع وقبله الساذج من المسلمين.

 

1 ـ قال الطبري: عن عكرمة، قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر، قال: وكان متكئاً فاحتفز ثمّ قال: وما ذاك؟ قال: زعم يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم، قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شفة ووقعت أُخرى غضباً، ثمّ قال: كذب كعب، كذب كعب، كذب كعب، ثلاث مرّات، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام، الله أجلّ وأكرم من أن يعذّب على طاعته، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) (7)، إنّما يعني دؤوبهما في الطاعة، فكيف يعذّب عبدين يُثني عليهما أنّهما دائبان في طاعته؟ قاتلَ الله هذا الحبر وقبّح حبريّته، ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله!! قال: ثمّ استرجع مراراً (8).

 

2 ـ قال ابن كثير: روى البزار، عن عبد العزيز بن المختار، قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد ـ مسجد الكوفة ـ وجاء الحسن فجلس إليه فحدّث، قال: حدّثنا أبو هريرة أنّ رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وسلم قال: «إنّ الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة» فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أُحدّثك عن رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله وتقول ـ أحسبه قال ـ : وما ذنبهما؟! ثمّ قال: لا يروى عن أبي هريرة إلّا من هذا الوجه (9).

 

ولـمّا كان إسلام كعب الأحبار بعد رحيل الرسول، لذلك تعذّر عليه إسناد ما رواه من أساطير إلى النبيّ الأكرم، ولو أنّه أدرك شيئاً من حياته صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله وإن كان قليلاً لنسب تلك الأساطير إليه، ولكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيه الباطلة، ولكنّ أبا هريرة لما صحب النبيّ واستحسن الظنّ بكعب الأحبار، وكان أُستاذه في الأساطير نسب الرواية إلى النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله.

 

هذا نموذج قدمته إلى القرّاء لكي يقفوا على دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين، وأن لا يحسنوا الظنّ بمجرّد النقل من دون التأكّد من صحته.

 

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأُصولنا، ولو لا أنّه سبحانه قيّض في كلّ آنٍ رجالاً مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الشهرستاني، الملل والنحل 1 : 117.

(2) المقدسي، البدء والتاريخ 4 : 31.

(3) ابن خلدون، المقدمة : 439.

(4) الذهبي، سير أعلام النبلاء 3 : 489.

(5) الذهبي، تذكرة الحفاظ 1 : 52.

(6) ابن كثير، التفسير، قسم سورة النمل 3 : 339.

(7) إبراهيم: 33.

(8) الطبري، التاريخ 1 : 44 ط بيروت.

(9) تفسير ابن كثير 4 : 475 ط دار الاحياء.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد