من التاريخ

كربلائية القدس الشريف

الشيخ حسين كوراني

 

يرمز القدس الشريف في مسار المواجهة بين الحق والباطل، إلى موقع القداسة- الطهر، في مسار المواجهة بين العقل والجهل. وتكفي نظرة متأنية في الثوابت المشتركة بين الديانات العالمية، وفي كليات حركة الممانعة ضد الظلم عبر القرون، لاسنتاج أن محورية القدس في تحقيق العدالة على هذه البسيطة، كمحورية الكعبة الشريفة في بسط الأرض ودحوها، وفي بسط العدل - القداسة - وعولمتها.

 

من الكعبة" أول بيت وضع للناس" كان بدء الرحلة العالمية للأسرة الآدمية الواحدة، في المسارين المادي والمعنوي، الجسدي والقيمي، وكان العدل الغاية، فكانت القدس القبلة الأولى.

 

وعندما بعدت الشقة في أوائل الجولات، وغلب الفراعنة، وطال ليل المستضعفين، استردت الكعبة زمام المبادرة: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها. ومع القبلة الثانية كانت القدس المسرى، والمعراج: "من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى". والمسرى رمز مسار حركة التوحيد على وجه الأرض، وارتباطِ هذا المسار جذرياً بالقدس. والمعراج رمز محورية كربلائية القدس في سلامة ارتباط مسرى ممانعة الأجيال وجهادها، بالسماء والسمو.

 

وكما أجمع النصارى على عودة المخلص، وارتباط هذه العودة بالقدس، أجمع المسلمون على " ظهور المهدي المنتظر، ونزول النبي عيسى عليه السلام، وائتمامه بالمهدي ومحاربة الكفر تحت لوائه" وارتباط ذلك كله بالقدس، فالإجماع على القدس ومخلصه عالمي.

 

ولا تنفصل ثنائية المهدي والمسيح عن ثنائية الكعبة والقدس، ولا عن محطة الإسراء والمعراج الكونية، ولا عن ثنائية الإسلام الأصيل، والمسيحية الصافية من أدنى شوب من الشرك الخفي الذي بدأ يستشري بانحرافات بني إسرائيل.

 

حديث هذه الثنائية المتحدة بائتمام المسيح بالمهدي، حديث المشكاة المحمدية، والزيتونة التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. حديث العقل الأول: لولاك ماخلقت آدم!. حديث شاهدية المصطفى الأقرب على كل المصطفين، الذين لم يبعث أي منهم إلا بالإقرار بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وكما تتجلى وحدة حركة النبوات كلها في القبلتين: القدس، والكعبة، لموقعهما من المحمدية البيضاء، محور المشيئة الإلهية في الخلق، كما في سياسة القلوب في خط العقل الكلي، تتجلى بسناً أبهى في محمدية المهدي المنتظر. وسيؤكد المسيح على نبينا وآله وعليه السلام هذا التجلي، التزاماً منه بمقتضى قول المصطفى الحبيب: لا نبي بعدي.

 

قال ابن حجر: ".. وعند أحمد من حديث جابر في قصة الدجال ونزول عيسى: وإذا هم بعيسى، فيقال تقدم يا روح الله، فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم".." ".. وقال ابن الجوزي لو تقدم عيسى إماماً، لوقع في النفس إشكال، ولقيل أتراه تقدم نائباً، أو مبتدئاً شرعاً؟ فصلى مأموماً، لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله ( ص): لا نبيَّ بعدي. وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة، مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة، دلالة للصحيح من الأقوال أن الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة، والله أعلم.

 

وهل يمكن الفصل بين محمدية المهدي، وبين حسينيته وكربلائيته، وهما التماع جوهرة: "حسين مني وأنا من حسين"! بل هل يمكن الفصل بين محمدية الحسين وبين المسيح أو محمديته لا فرق. المهدي بعض عطاء الله تعالى للإمام الحسين المعوض من شهادته" أن الأئمة من ذريته".

 

المهدي هو الإدخار الإلهي الأعظم بإذنه تعالى ليوم العدل العالمي في هذا الشوط البشري، يوم: "ليظهره على الدين كله"، في غاية المسار الكربلائي.

 

لا يمكن - إذن - الفصل بين إئتمام المسيح عليه السلام بالمهدي، وبين ادخاره ليوم الفصل الحسيني، يوم العولمة الأصيلة تحت شعار"يا لثارات الحسين" في ملاحم يشكل وجود المسيح فيها رمز وحدة المسار التوحيدي عبر كل المراحل. ومن هذا التماهي الحسيني بين المهدي والمسيح ينبغي أن يبدأ البحث عن الحقائق التالية:

 

1- أن ولادة المسيح عليه السلام كانت في كربلاء.

2- أنه لم يرفع حجر في يوم المقدس يوم شهادة الحسين، إلا وجد تحته دم عبيط.

3- أن المعركة الفاصلة بين الخير والشر حسينية - مسيحية، بقيادة المهدي الذي يأتم به المسيح.

 

وسيغرق في موجات التحريف كل من يفتقر إلى الرؤية الكلية للمسار التوحيدي، كما يغرق في مستنقعات الأحقاد إلى حد انعدام الحس الإنساني من لا يصدق منهجه الفكري ثابتة أن جميع الناس هم بنو آدم وحواء، إخوة حقيقيون.

 

أما من أراد قصد السبيل، فسيكفيه - لإعادة النظر على الأقل- ما يلي:

 

في الحقيقة الأولى: أن ولادة المسيح كانت في كربلاء: يصف القرآن الكريم مكان ولادته عليه السلام بأربع صفات: (مكاناً شرقياً.. مكاناً قصِياً... وفيه نخل..: "وهزي إليك بجذع النخلة". "ربوة ذات قرار ومَعين".).

 

وسواءً أكانت الآية الرابعة ".. ربوة ذات قرار ومعين" تتحدث عن ظروف الولادة كما هو الحق المستفيض في مصادر مدرسة أهل البيت عليهم السلام، أو كانت تتحدث عن ظروف اضطرار النبي عيسى وأمه مريم عليهما السلام إلى التخفي عندما بلغ الثالثة عشر من عمره، كما هو مستفيض في المصادر الأخرى، فإن المواصفات الواردة في الآيات الثلاث الأول لا تنطبق- من بين كل الأقوال في تحديد مكان ولادة النبي عيسى عليه السلام - إلا على القول بولادته في كربلاء.!

 

وينبغي الوقوف بامتياز عند اتخاذ النصارى الشرق قبلة وبين انطباق هذه الآيات على كربلاء وما حولها، فهي شرقي فلسطين وبعيدة جداً عنها، وبالبعد الشديد فسر لفظ "قصي" الدال على بعد يفوق - في رأي - دلالة "أقصى"، ويطابقه بحسب أغلب المراجع اللغوية.

 

وفي الحقيقة الثانية: لم يرفع حجر في بيت المقدس يوم عاشوراء إلا وجد تحته دم عبيط، - يكفي- أن هذا مستفيض في المصادر حد التواتر الذي يكفي ما دونه لإثبات الموضوعة التاريخية.

 

وفي الحقيقة الثالثة: يكفي: أن هذا مجمع عليه بين المسلمين، وأن إجماع النصارى على رجوع المسيح لا ينافيه، بل ينسجم معه انسجامه مع خاتمية الإسلام المحمدي لجميع رسالات التوحيد.

 

وسأقتصر في ما يلي على عرض موجز ومكثف لخلاصة كل من المحاور المتقدمة.

 

1- تتوزع المصادر في تحديد مكان ولادة نبي الله عيسى عليه السلام على أقوال، أهمها:

 

أ- فلسطين على اختلاف في تحديد المكان. دمشق. مصر. مسجد براثا قرب بغداد. ج- النجف أو الكوفة أو نجف الكوفة، أو "حيرة الكوفة". كربلاء. الفرات.

 

وتحتم الآيات القرآنية الثلاثة المشار إليها آنفاً (شرقياً، قصياً، بجذع النخلة) حصر البحث عن المكان بما هو شرقي بيت لحم وبعيد عنها من الأماكن التي يوجد فيها النخيل، ومقتضى ذلك أمران:

 

1- إبطال القول بأن ولادة النبي عيسى عليه السلام كانت في فلسطين، أو في مصر، أو في دمشق، خصوصاً وأن هذه الأقوال تورد عادة بلغة "قيل" دون تبن لها، أو يتم التعقيب عليها بعبارة "والله أعلم" أو يتم الإعراض عنها بعد إيرادها، أخذاً بالمعنى العام للأية، وهو "من صفة الربوة التي (آوينا) إليها مريم وابنها عيسى، أنها أرض منبسطة وساحة وذات ماء ظاهر ".."جارٍ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ".

 

بل بلغ الإختلاف في تحديد المكان إلى إعطاء وصف لا يذكر أحياناً مصداقه، وهو: "أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً". وقد صرح السيد الطباطبائي بضعف هذه الروايات جميعاً. ويلحق بماتقدم إبطال القول المستحدث بولادته عليه السلام في الحجاز.

 

2- حصر البحث عن مكان الولادة بالأقوال التي يجمعها كلها "أنها كانت في العراق". وبالتأمل في الأماكن المختلفة من العراق التي ورد ذكرها في الروايات يتضح أنها كربلاء وحواليها من جهة بغداد  براثا) ومن جهة الكوفة: (النجف، الحيرة، والكوفة نفسها)، كما نجد التصريح بأن ولادة نبي الله عيسى عليه السلام كانت في كربلاء، وهو ما يضعنا أمام احتمال أن الحديث عما حول كربلاء حديث عنها، ثم يقوى هذا الاحتمال حد التعين عندما نجد أن علاقة نبي الله عيسى عليه السلام بعاشوراء وبكربلاء علاقة خاصة:

 

1- ففي يوم عاشوراء كانت - على رواية- ولادته عليه السلام.

 

2- وقد استدعت هذه العلاقة مروره بكربلاء وبكاءه الإمام الحسين عليه السلام فيها.

 

وأنه ترك في كربلاء أثراً لأمير المؤمنين علي عليه السلام -روي ذلك في المصادر السنية- ويسجل لنا التاريخ أن الأمير عليه السلام وجد ذلك الأثر، وحدث من كانوا معه عن مرور نبي الله عيسى بكربلاء.

 

3- وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أن "الدالية التي غسل فيها رأس الحسين عليه السلام، فيها غسلت مريم عيسى عليه السلام، واغتسلت لولادتها".

 

وتفصيل هذا الموجز وافر المصادر، غزير المادة، ساطع البرهان، والمحصلة النهائية لكل ماتقدم هي التالي:

 

تتماوج الأطياف المحمدية لعالمية الحسين والمهدي المسيح، في واحدية المعتقد، لتتجلى على صفحات الزمن عبر القرون رحمة إلهية "رحمة للعالمين" في المسار الكربلائي الدائم الذي كانت القدس أولى ساحاته، وها هو الراهن يتلو ما سيؤكده المستقبل الواعد: وحدة المصير والدم، الذي انبعث فواره المحمدي في كربلاء، فانبجس تحت كل حجر من أحجار القدس الشريف وانتفاضاته.

 

وما يزال، وسيبقى.. إلى أن يتنفس من ربى القدس الكربلائية - بالقائم المهدي المنتظر- صبح يوم الخلاص، لتظهر بجلاء واحدية الناس، وواحدية مشكاة الأديان، ومحورية القدس الكربلائية في جمع الشمل، وإنجاز حلم العولمة الأصيلة.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد