السيد عباس نورالدين
إنّ قوله تعالى في كتابه المجيد:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزيدَنَّكُم}[1] هو قانون كلي وسنّة كونية لا تبديل لها ولا غالب عليها..ولكن، ما هو هذا الشكر الذي يتسبّب في زيادة أرزاقنا دومًا؟
إذا كان الشكر أن نقول الحمد لله والشكر لله، فما أكثر الشاكرين؛ لكن، مِن قوله تعالى: {وَقَليلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُور}،[2]نفهم أنّ للشكر حقيقة هي أعمق من القول باللسان. ومن عرف هذه الحقيقة وطبّقها، ضمن لنفسه الغنى على مدى الحياة!
للشكر سرٌّ بسيط وهو يرتبط بإظهار كرم الله تعالى وتفضّله وعنايته ورحمته بعباده؛ ولأنّ أحد أكبر أهداف إبليس اللعين هو إظهار الله كعدوّ للإنسان وإسخاط الإنسان على ربّه، فإنّ الشكر يُعدّ أكبر قامع لهذا الشيطان الرجيم. فلا شيء يؤذي هذا الرجس النجس ويبعده عن ساحة قلوبنا مثل إظهار مواهب الله وآلائه وجميل إنعامه.
قال أمير المؤمنين (ع): "حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْكُمْ فِي الْيُسْرِ الْبِرُّ وَالشُّكْرُ، وَفِي الْعُسْرِ الرِّضَا وَالصَّبْرُ".[3]
لو قدّر أن يكون أحدنا من أهل النار، وأُدخل جهنم، ثمّ شكر الله، لكان ذلك كفيلًا بتبدّلها إلى برد وسلام عليه. وإنّما كانت جهنم مستقرًّا للمعاندين الذين جحدوا نعمة الله وأنكروها. فالشكر ليس مجرّد حالة معنوية ولا عبادة عادية، بل هو روح الإيمان ومعدنه؛ وهو أحد أكبر المشاريع والأهداف الاستراتيجية التي ينبغي أن نجعلها غاية سيرنا في هذه الحياة.
يتعلّق الشكر قبل أيّ شي بحضور الله تعالى. فالشاكر الحقيقي هو أفضل من يُظهر كرم الله وجماله ولطفه.
قال أمير المؤمنين (ع): "مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ، وَمَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ"،[4]
وورد ممّا أنزله الله على إدريس (ع): "فَإِنْ شَكَرْتُمْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ زِدْتُكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُونِي أَمْدَدْتُكُمْ".[5]
فيُشعر القانطين والبائسين بقرب الرحمة، فلا ينقطعوا عن الله، ولا يعرضوا عنه.
الشكر يُظهر أعظم حقائق الحياة؛ ولهذا فهو سبب لا يفشل أبدًا. ومن أجل ذلك، أحبّ الله التظاهر به وجعل عليه الثواب والأثر الطيّب؛ فقد ورد:
- "لَا تَدُومُ النِّعَمُ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ: مَعْرِفَةٍ بِمَا يَلْزَمُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا، وَأَدَاءِ شُكْرِهَا، وَالتَّعَبِ فِيهَا"،[6]
- "وَاسْتَجْلِبْ زِيَادَةَ النِّعَمِ بِعَظِيمِ الشُّكْرِ"،[7]
- "وَشُكْرُ الْمُنْعِمِ يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ"،[8]
- وَقَالَ النبي (ص): "مَنْ يُسَرَّ لِلشُّكْرِ رُزِقَ الزِّيَادَةَ".[9]
بشرط أن لا يصدر منّا ما يبدي هذا التظاهر نفاقًا. فإن أردت أن تظهر بمظهر الشاكرين فحدّث بنعمة ربّك، وأظهر ما يمكنك من نعمة الله حتى لو لم تكن ملكك؛ كأن تستعير من صديقك الثري لباسًا جميلًا يحكي عن غناك في مناسبة ما، دون أن تتظاهر بالفخر أو تطلب بذلك الاستعلاء على غيرك طبعًا. وإذا كنت تملك بيتًا فاسعَ جهدك أن لا يظهر عليه آثار الفقر والبؤس، حتى تبعث برسالة الغنى لكلّ الناس فيعظم رجاؤهم بالله ويطول أملهم به، وهم يقولون إن كان الله قد رزق هذا الفقير منزلًا جميلًا، فلماذا لا يرزقنا مثله.
وقد ورد في الحديث: "جَصِّصِ الدَّارَ وَاكْسَحِ الْأَفْنِيَةَ وَنَظِّفْهَا وَأَسْرِجِ السِّرَاجَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، كُلُّ ذَلِكَ يَنْفِي الْفَقْرَ وَيَزِيدُ فِي الرِّزْقِ".[10]
يتعلّق قسم كبيرٌ من الشكر بإظهار النعمة ونشرها؛ وإن كان جوهره أمرًا يرتبط بالاعتقاد والقلب الذي نشعر معه بمنّة الله، حيث العطاء اللا محدود، وحيث الإنعام لا على سبيل الاستحقاق، وإنّما على نحو التفضّل: "ابْتَدَأْتَنِي بِالنِّعَمِ فَضْلًا وَطَوْلًا، وَأَمَرْتَنِي بِالشُّكْرِ حَقًّا وَعَدْلًا، وَوَعَدْتَنِي عَلَيْهِ أَضْعَافًا وَمَزِيدًا".[11]
فمن لم يرَ نعم الله عليه محض المنّة والتفضّل، فلا يكون شاكرًا على الحقيقة. ولذلك، فإنّ الوصول إلى مقام الشكر يتطلّب نوعًا من المجاهدة النفسية؛ لأنّ نفوسنا قد نشأت على الشحّ والأنانية والمعاملة بالمثل والمبادلة، ويصعب عليها أن تدرك أنّ كل ما لديها ليس لها، بل هو حقيقة قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحْيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمين}.[12]
ورد في دعاء الإمام السجاد (ع): "وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبَادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلَى مَا أَبْلَاهُمْ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ، لَتَصَرَّفُوا فِي مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ، وَتَوَسَّعُوا فِي رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ... وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَغْلَقَ عَنَّا بَابَ الْحَاجَةِ إِلَّا إِلَيْهِ، فَكَيْفَ نُطِيقُ حَمْدَهُ أَمْ مَتَى نُؤَدِّي شُكْرَهُ! لَا، مَتَى. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَكَّبَ فِينَا آلَاتِ الْبَسْطِ، وَجَعَلَ لَنَا أَدَوَاتِ الْقَبْضِ، وَمَتَّعَنَا بِأَرْوَاحِ الْحَيَاةِ، وَأَثْبَتَ فِينَا جَوَارِحَ الْأَعْمَالِ، وَغَذَّانَا بِطَيِّبَاتِ الرِّزْقِ، وَأَغْنَانَا بِفَضْلِهِ، وَأَقْنَانَا بِمَنِّهِ".[13]
والشكر ليس مجرّد فعل، بل هو حالة وصفة للنفس. فمن اتّصف به، صار مرهف الحسّ تجاه كل منعم أو محسن.ولهذاورد في الحديث: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْمُنْعِمَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ".[14]
وفي ميدان المخلوقين هذا تجري معظم عمليات الشكر واختباراته. ولهذا، جعل الله تعالى أكثر رزقنا على يد مخلوقاته. وقد كان الله تعالى قادرًا على أن يخلق كل واحد منّا على كوكبه الخاص؛ لكنّه سبحانه أراد اختبار صدقنا بتعظيم البلاء.
سئل الإمام الصادق (ع): فَبِمَاذَا اسْتَحَقَّ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ وَأَوْسَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِهِ الْغِنَى وَالسَّعَةَ، وَبِمَاذَا اسْتَحَقَّ الْفُقَرَاءُ التَّقْتِيرَ وَالضِّيقَ؟ قَال:
اخْتَبَرَ الْأَغْنِيَاءَ بِمَا أَعْطَاهُمْ لِيَنْظُرَ كَيْفَ شُكْرُهُمْ، وَالْفُقَرَاءَ إِنَّمَا مَنَعَهُمْ لِيَنْظُرَ كَيْفَ صَبْرُهُمْ؛ وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ عَجَّلَ لِقَوْمٍ فِي حَيَاتِهِمْ وَلِقَوْمٍ آخَرَ لِيَوْمِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ؛ وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ عَلِمَ احْتِمَالَ كُلِّ قَوْمٍ فَأَعْطَاهُمْ عَلَى قَدْرِ احْتِمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ أَغْنِيَاءَ لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا وَفَسَدَ التَّدْبِيرُ وَصَارَ أَهْلُهَا إِلَى الْفَنَاءِ، وَلَكِنْ جَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ عَوْنًا وَجَعَلَ أَسْبَابَ أَرْزَاقِهِمْ فِي ضُرُوبِ الْأَعْمَالِ وَأَنْوَاعِ الصِّنَاعَاتِ، وَذَلِكَ أَدْوَمُ فِي الْبَقَاءِ وَأَصَحُّ فِي التَّدْبِيرِ؛ ثُمَّ اخْتَبَرَ الْأَغْنِيَاءَ بِاسْتِعْطَافِ الْفُقَرَاءِ، كُلُّ ذَلِكَ لُطْفٌ وَرَحْمَةٌ مِنَ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يُعَابُ تَدْبِيرُهُ..".[15]
فما أسهل أن تشكر من لا تجد في شكره والإعلان له عن امتنانك أيّ انتقاص لك أو تنازل منك. ولكن هل تستطيع أن تشكر ذلك الإنسان الذي قد ينافسك، أو يراه الناس أقلّ شأنًا منك. ففي هذا الاختبار يبرز معدن الشكر وجوهره. وفي النجاح في هذا البلاء يتألّق باطن الإنسان وتثبت هويّته وكرامته التي هي عين العبودية والفقر والاحتياج.[16]
عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ: "آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُسَجَّلَةٌ، قُلْتُ: مَا هِيَ؟ قَالَ: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ} جَرَتْ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَعَلَيْهِ أَن يُكَافِئَ بِهِ، وَلَيْسَتِ الْمُكَافَأَةُ أَنْ يَصْنَعَ كَمَا صُنِعَ بِهِ بَلْ يَرَى مَعَ فِعْلِهِ لِذَلِكَ أَنَّ لَهُ الْفَضْلَ الْمُبْتَدَأَ".[17]
هل يسهل على طبيبٍ متمرّس أن يعترف لطبيب مبتدئ بالفضل ويشكره على إلفات نظره لخطأ قاتل؟ وهل يسهل على عالم جليل مشهور أن ينوّه بمسألة ابتكرها عالم جديد خامل الذكر؟
الشكر يرتبط بإظهار فضل كل ذي فضل أكثر من أي شيء آخر؛ فبهذه الروحية نزدهر ونعمر ويعلو شأننا كمجتمع حيّ ونابض بالإمكانات.
أَوْصَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) بَعْضَ وُلْدِهِ فَقَالَ: "يَا بُنَيَّ اشْكُرْ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ وَأَنْعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ، فَإِنَّهُ لَا زَوَالَ لِلنَّعْمَاءِ إِذَا شُكِرَتْ وَلَا بَقَاءَ لَهَا إِذَا كُفِرَتْ، وَالشَّاكِرُ بِشُكْرِهِ أَسْعَدُ مِنْهُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي وَجَبَ عَلَيْهَا الشُّكْرُ، وَتَلَا {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ}".[18]
أمّا إذا ضنّ كل إنسان بما يعرفه من فضل الآخرين وأخفى ذلك على المستحقّين، فإنّ المجتمع سيُحرم من الكثير من الإمكانات والطاقات والثروات؛ بل سينزلق في دوّامة الانحطاط والتردّي، حيث ستكثر الدعايات الكاذبة والإعلانات المبالغة ويختلط الكثير من الباطل بالحقّ، ولا يجد الناس طريقًا للوصول إلى الجودة العالية في الإمكانات والطاقات والسلع والخدمات.
الإعلانات مطلوبة، لكنّ أفضل الإعلانات هي التي تجري على ألسنة المجرّبين. ولو أنّ الناس اعترفوا لبعضهم بالفضل وأظهروا ذلك لغيرهم، لأدرك الجميع كل جيد ومفيد واتّجهوا نحوه واستفادوا منه واستعملوه وعزّزوا حضوره ودوره؛ ولأصبح ذلك سببًا عظيمًا للارتقاء بالجودة في كلّ المجالات.
إنّ افتقادنا للّبّ والبصيرة قد يرجع أحيانًا كثيرة إلى تقصيرنا في نصح الآخرين.
قد جاء في الحديث: "مَنِ اسْتَشَارَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ فَلَمْ يَمْحَضْهُ النَّصِيحَةَ سَلَبَهُ اللَّهُ لُبَّهُ".[19]
وتمحيض النصيحة تقديمها كاملة غير منقوصة. وإنّما ننتقص من النصح أحيانًا، فلا نظهر كل حسنات الشخص الذي نُسأل عنه ولا نبرز كفاءاته للمستنصح، خوفًا من أن يُعرض عنّا ويذهب إلى غيرنا.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): "كَفَاكَ بِثَنَائِكَ عَلَى أَخِيكَ إِذَا أَسْدَى إِلَيْكَ مَعْرُوفًا أَنْ تَقُولَ لَهُ "جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا"، وَإِذَا ذُكِرَ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْمَجْلِسِ أَنْ تَقُولَ "جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا" فَإِذًا أَنْتَ قَدْ كَافَأْتَهُ".[20]
ولأنّ الناس طبقات من حيث الدور وأهمّيّته، فإنّ عدم إيفاء من له أعظم الأدوار والمسؤوليات في المجتمع حقّه من الشكر وإعلان الفضل لهو أكبر أنواع الغش في النصيحة للمسلمين. فحين نخفي بعض كرامات وفضائل الوليّ القائد وإنجازاته أو من يقوم مقامه أو لا ندلّ الناس على من يحمل مشاريع كبرى يعمّ خيرها المجتمع كلّه، أو لا نعمل على إظهار أولئك الذين يعرضون الأطروحات التي تفيد البشرية، فلا نتوقّع بعدها أن يبقى فينا لبّ أو نصبح من أولي الألباب.
عنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) أَنَّهُ قَالَ: "لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لَا يَشْكُرُهُ لَكَ، فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَمْتِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ يُدْرَكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِر أَكْثَرُ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".[21]
هكذا ينحدر المجتمع، وهكذا يفقد أهم عناصر ازدهاره. حين لا نعترف بفضائل الآخرين ولا نذكر حسناتهم ولا نقدّر أعمالهم وإنجازاتهم. ولا شكّ بأنّ الشيطان الرجيم قد أعدّ لنا في هذا المجال عشرات المبرّرات. وأشهر هذه المبرّرات بين أهل العلم هو: إنّ تسويقنا لهذا العالِم قد يحمل معه خطرًا عظيمًا؛ فما الذي يضمن أن لا ينحرف هذا العالِم ويأخذ معه الكثير من الناس! غافلين عن أنّ أكبر أسباب انحراف الناس يكمن في قلّة الخير بينهم ومحدودية الخيارات أمامهم. فالعالِم الذي يتجرّأ على الانحراف والدعوة إليه، هو الذي يرى أن لا بديل عنه وأنّ الناس لا يجدون غيره. والناس إنّما تصدّق هذا المنحرف حين لا ترى البدائل المشرقة.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: "قَالَ لَعَنَ اللَّهُ قَاطِعِي سَبِيلِ الْمَعْرُوفِ، قِيلَ: وَمَا قَاطِعُو سَبِيلِ الْمَعْرُوفِ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يُصْنَعُ إِلَيْهِ الْمَعْرُوفُ فَيَكْفُرُهُ فَيَمْتَنِعُ صَاحِبُهُ مِنْ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ".[22]
فتعزيز دور العلماء وأصحاب الفضيلة يؤدي إلى نتيجة حتمية، وهي: تعزيز الفضيلة وترسيخ حضورها وتمكّن الناس من تمييزها عن الرذيلة. وكم من صاحب فضلٍ منعه تقدير الناس لفضله من أن ينحرف، أو رفعته يد العناية الإلهية بعد زلّته، لمّا شاهد ذلك الحب والتقدير، فاستحى وخجل!
إنّ تقدير النعمة الإلهية التي تجري على أيدي الآخرين هو أحد أكبر المحرّكات لعجلة الازدهار الاقتصادي. ولا يغيب عن بالنا ما لعبته مجلة فوربس الأمريكية من دور في الترويج للشركات والمؤسسات والأعمال الأمريكية وتعزيز ثقة كل العالم بها؛ هذه المجلة التي تُعنى بالدعاية المباشرة وغير المباشرة للشخصيات النافذة في الأعمال وروّاد الأعمال والمؤسسات.
أجل، إنّ هذه المجلة ليست شيئًا يُحتذى في كذبها وانحيازها الواضح لكل ما هو أمريكي؛ لكنّ الدرس الذي نتعلّمه أنّ الثناء على كل محسن ومتقن وحاذق وناجح يعم الجميع بالفائدة.
قَالَ الإمام الصادق (ع): "إِنَّ الْمُؤْمِنَ مُكَفَّرٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْرُوفَهُ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يُنْشَرُ فِي النَّاسِ، وَالْكَافِرَ مَشْهُورٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْرُوفَهُ لِلنَّاسِ يَنْتَشِرُ فِي النَّاسِ وَلَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ".[23]
هذا هو الشكر الذي نتطلّع إليه في مجال الأعمال والاقتصاد؛ وليس مجرّد قول الشكر لله والحمد لله الذي لا يجلب سوى القليل من البركة والزيادة.
إننا إذا أردنا مجتمعًا مزدهرًا تزداد ثرواته بصورة مضطردة، فينبغي أن نعمل على جعل الشكر قيمة عامّة يعيشها الجميع ويمارسونها، بدءًا من تقدير قادته لكلّ الأعمال والجهود والإنجازات والإبداعات التي يقوم بها الناس، مهما كان من يقوم بها، ومهما كانت هذه الإنجازات بنظرهم صغيرة؛ حتى يشعر الناس بنعمة القيادة ويقدّروا وجود قادتهم. فالمجتمع يزدهر بثقافة الشكر التي تظهر في كلّ حالاته وإن كان الإعلام أفضل مرآة عاكسة وداعية له.
عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة: "فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ، قَدْ تَرَبَّعَتِ الأمُورُ بِهِمْ، فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِر، وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزّ غَالِب، وَتَعَطَّفَتِ الأمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْك ثَابِت، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الأرَضِينَ، يَمْلِكُونَ الأمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الأحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ! لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ، وَلاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ!
ـــــــــــــــــــ
[1] . سورة إبراهيم، الآية 7.
[2] . سورة سبأ، الآية 13.
[3]. تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص 371.
[4]. نهج البلاغة، ص 123.
[5]. بحار الأنوار، ج92، ص 464.
[6]. تحف العقول، ص 318.
[7]. تحف العقول، ص 286.
[8]. وسائل الشيعة، ج15، ص 347 – 348.
[9]. مستدرك الوسائل، ج12، ص 358.
[10] . مستدرك الوسائل، ج3، ص 456.
[11]. بحار الأنوار، ج92، ص 255.
[12] . سورة الأنعام، الآية 162.
[13]. الصحيفة السجادية، من دعائه (عليه السلام) إذا ابتدأ بالدعاء بدأ بالتحميد لله عز وجل والثناء عليه.
[14] . وسائل الشيعة، ج16، ص 313.
[15]. بحار الأنوار، ج10، ص 171.
[16]. قال أمير المؤمنين (ع): مَنْ كَانَ فِيكُمْ لَهُ مَالٌ فَإِيَّاهُ وَالْفَسَادَ، فَإِنَّ إِعْطَاءَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ وَهُوَ يَرْفَعُ ذِكْرَ صَاحِبِهِ فِي النَّاسِ وَيَضَعُهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُكْرَهُمْ وَكَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ، فَإِنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ مِمَّنْ يُظْهِرُ الشُّكْرَ لَهُ وَيُرِيهِ النُّصْحَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَلَقٌ مِنْهُ وَكَذِبٌ. [الكافي، ج4، ص 31]
[17] . وسائل الشيعة، ج16، ص 306- 307.
[18] . وسائل الشيعة، ج16، ص 313.
[19] . وسائل الشيعة، ج17، ص 208.
[20] . وسائل الشيعة، ج16، ص 307.
[21] . وسائل الشيعة، ج16، ص 307- 308.
[22] . وسائل الشيعة، ج16، ص 309.
[23] . وسائل الشيعة، ج16، ص 308.
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
الشيخ علي الجشي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان