مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشهيدة بنت الهدى
عن الكاتب :
ولدت الشهيدة آمنة بنت آية الله السيد حيدر الصدر (بنت الهدى) عام 1356هــ 1937م في مدينة الكاظمية، عرفت بالذكاء الوقاد، وسرعة الحفظ، وقد لعبت دوراً فعالاً وملموساً في هداية الفتيات، مارست عملها التبليغي عبر إلقاء المحاضرات والكتابة في مجلة "الأضواء" ثم مارست كتابة القصة لمخاطبة الجيل الناشيء بأسلوب قصصي بسيط، من مؤلفاتها: الفضيلة تنتصر، ليتني كنت أعلم، امرأتان ورجل، صراع مع واقع الحياة، لقاء في المستشفى، الخالة الضائعة، الباحثة عن الحقيقة ،كلمة ودعوة، ذكريات على تلال مكة، بطولة المرأة المسلمة، المرأة مع النبي (ص) . استشهدت مع أخيها السيد محمد باقر الصدر عام 1980.

ذكريات على تلال مكة (8)

وبعد أن انتهينا من الرمي كان علينا أن نعود.. والعودة تعرضنا لأن نكون في مواجهة الرماة، وذلك يعني أن نصبح معرضات للإصابة بالحصى التي ترمى من بعيد، فتصيب تارة وتخطىء أخرى، ومن الطريف أن بعض الحجاج كانوا يعقبون حصاهم بما لديهم من أحذية مخرقة أو نفايات متفسخة، ولهذا فقد كان علينا أن نشق طريقنا بين الصفوف، ونحن منحنيات تجنبًا أن نكون مرمى لما يرمى به (الشيطان).

 

وما أن تخلصنا من منطقة الزحام، حتى وجدنا عددنا قد نقص واحدة. فكدر ذلك علينا فرحتنا بإتمام مهمة الرمي، وتلفتنا يمنة ويسرة نبحث عنها بعيون حائرة وسط هذه الجموع الغفيرة العدد المتباينة اللون واللغة، ثم حاولنا أن نفتش فمنعنا الدليل الذي كان معنا عن ذلك، وذهب هو يفتش عنها وسط المجاميع وكنا نحن نساء قافلة اليعقوبي لدينا ما يميزنا عن الآخرين، وهو قطعة قماش خضراء كتب عليها اسم المتعهد واسم المطوف. ومع أن صاحبنا المساعد لم يكن يعرف القراءة والكتابة، ولكنه كان يشخصنا من طبيعة لون القطعة وصورة كتابتها، فذهب لكي يجدها تقف في جانب من الجوانب وعاد يصحبها وهو يشعر بالانتصار لعثوره عليها بسهولة، والحقيقة وحفاظًا على الواقع نسجل شكرنا لهذا الإنسان الذي استشعر مسؤولية حمايتنا لبضع ساعات هي من الصعوبة بمكان، مع أنه أجير لدى المتعهد لا أكثر ولا أقل أثابه الله على ذلك ووفقه للهداية في طريق الخير..

 

ولم نتمكن أن نعرف عنه سوى أنه سائق سيارة استصحبه المتعهد مع سيارته إلى مكة وأنه ينادى بأبي حيدر. وعلى كل حال فقد عدنا نحو الخيمة لنجد أن الركب لم يصل بعد، وكان الظهر قد حان فأدينا صلاتنا، ثم وكلنا من يذبح الهدي بدلًا عنّا لتعذر ذلك بالنسبة لنا، وأوصيناه أن يحتسب ثلثها نيابة عن صديق كان قد وكلنا باحتسابه، وثلثها الثاني نيابة عن فقير كنا قد طلبنا أذنه في ذلك قبال مقدار من المال، والثلث الثالث نيابة عنا، ثم توجهنا للنوم لأن أعراضًا للحمى والزكام كانت قد بدأت تتفشى بيننا، شديدة عند بعضنا وخفيفة عند الآخريات، وبعد الظهر بقليل وصلت بعض طلائع الركب وعصرًا وصلت وجبة منه.

 

وبعد أن عرفنا باكتمال الهدي، كان علينا أن نقصر ونحل إحرامنا. وفعلًا فقد قصرنا، وبذلك تحلّلنا من شروط الإحرام عدى الطيب والنساء فإن ذلك لا يصح إلا بعد طواف الحج. ونمنا ليلتنا تلك في منى، وذهبت مجموعة من الحاج بعد منتصف تلك الليلة نحو مكة المكرمة لأداء طواف الحج، ولكن انحراف صحتنا خلال تلك الليلة منعنا عن الالتحاق بهم.. وفي صبيحة اليوم الثاني كان علينا أن نرمي الجمرات الثلاث الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى... وموقع الجمرات ليس ببعيد عن مخيمنا والطريق الذي يفصل بيننا وبينه واضح المعالم مستقيم الشوارع.

 

وهذه من أكبر النعم التي من الله بها علينا.. ولهذا فقد توجهنا صباح اليوم الحادي عشر للرمي وحدنا، وكان الرمي مزدحمَا جدًّا والناظر إليه عن بعد لا يجد سوى رؤوس مرفوعة وأيد ممتدة وحصى تنهال كالمطر على الجمرات، منظر رهيب يومي بالكثي .. ووصلنا إلى مقربة من الجمرة الصغرى فوقفنا ننتظر لحظة مناسبة نتمكن خلالها أن نلج هذه الجموع، نعم هذه الجموع التي جاءت تؤكد على الجانب السلبي من العبادة. فهي عندما طافت حول البيت وسعت بين الصفا والمروة أكدت على طبيعة مسيرتها في الحياة، وأنها تنطلق من الله لتعود إليه، وذلك هو الجانب الإيجابي جانب الطاعة الكاملة والانصياع التام للخالق جل وعلا.. وهنا. هنا، عليها أن تؤكد على الجانب السلبي من العبادة فهناك رسمت عبادتها كلمات الإطاعة.. الانقياد.. وهنا ترسم عبادتها كلمات رفض المعصية ورمي ما يعكر مسيرة الانقياد.. إنه الجانب السلبي، فلا يكفي في مفهوم التوحيد الخالص أن يعبد الإنسان ربه ويعبد معه سواه وليس من علامات العبادة الصادقة أن يطيع الإنسان خالقه ثم لا يرفض ما يتعارض مع أمر الخالق ولهذا اشتملت أعمال الحج على الجانبين السلبي والايجابي.. ثم هذا الإصرار على الرمي لأيام ثلاثة وبحصوات سبع لكل مرة من المرات.

 

إن هذا الإصرار هو بمثابة التأكيد والتشديد على رفض ما هو باطل، ومحاربة كل ما يرمز إلى الشر من قريب أو بعيد. إنها عهود ومواثيق تعبر عنها هذه الحصيات. وترمز إليها هذه الجمرات ولا يفوتنا ملاحظة الانسجام بين عدد أشواط الطواف والسعي، وبين عدد الحصى لكل رمية وعدد أدوار الرمي. فالعدد في جميع ذلك لا يتعدى السبعة، وهذه حكمة نتمكن أن نفهم بها الموازنة التي ينبغي أن يحتفظ بها الإنسان في نفسه. نعم الموازنة بين مستوى تقبل المعروف ومستوى رفض المنكر: إنه تشريع كامل متجانس النواحي والأطراف، ولكن مما يدمي القلب أن نجد أكثر متلقي هذا التشريع غير واعين لحكمته وشموله الواسع.

 

لو كانت هذه الأيدي التي تمتد لترمي هذا النصب الحجري.. لو كانت تمتد دائمًا وأبدًا لترمي كل ما يرمز إلى معصية الخالق، إذن لما كان للشر مقر على الأرض. ولكن.. ووجدنا أخيرًا منفذًا تغلغلنا خلاله مقتربات نحو الجمرة، ومن رحمة الله وعنايته بنا أن تمكنا من الوصول إلى أقرب نقطة حيث أدينا واجبنا بسهولة وعدنا بسهولة أيضًا. وكذلك كان الحال في رمي الجمرتين فالحمد لله رب العالمين..

 

وبقينا ننتظر لكي نعود إلى مكة لأداء طواف الحج، وبما أن المبيت واجب في منى فكان علينا أحد أمرين.. إما أن نذهب عصراً ونعود قبل منتصف الليل، وإما أن ننتظر حلول منتصف الليل ثم نخرج بعد ذلك، وقد اخترنا الشق الثاني فنمنا في بداية الليل ساعة أو ساعتين، ثم استيقظنا بعد منتصف الليل بقليل، فجددنا الطهارة وخرجنا بصحبة شقيق المتعهد وخمس من نساء القافلة ورجلين من رجالهن.. واستأجر لنا صاحبنا سيارة أوصلتنا إلى باب الحرم المكي (باب سعود) كان الطريق خاليًا هادئًا تنساب السيارة فيه انسيابًا مريحًا وكنا نشعر بالغبطة كلما اقتربنا من مكة.. فقد كنا على موعد مع ساعات عبادة وعطاء.. ودخلنا الحرم وكان لهيبته أكبر الأثر في نفوسنا وكأننا ندخله للمرة الأولى.. وهذا من خصائص ذلك الحرم الطاهر، فهو لا يفقد في نفوس داخليه هيبته وروعته مهما تكررت الزيارات وتلاحقت المشاهدات.

 

وبدأنا نطوف .. وكان طوافنا هذا أسهل من طوافنا الأول بكثير وذلك لقلة الزحام وهدوء الطواف، ولهذا فقد أدينا طوافنا بسهولة لم نكن نتوقعها مطلقًا، وخرجنا من الطواف لنتجه نحو الصلاة. ووقفنا نصلّي في أقرب نقطة من مقام نبي الله إبراهيم، وبعد ذلك كان علينا أن نذهب نحو المسعى فاسترحنا قليلًا ثم سمينا باسم الله وتوجهنا نحو الصفا والمروة وبدأنا نقطع الأشواط هناك جيئة وذهابًا.. وكان صاحبنا يحمل بيده علمًا أخضر وهو يسير أمامنا لكي لا نضل عنه.. ولكن المجال لم يكن يدعو إلى ذلك، ولم يكن هناك أي خطر للضلال أو لم يكن للضلال أي خطر. وعلى كل حال. فقد سرنا داعيات مرة وساكنات أخرى حتى أنهينا أشواطنا السبعة والحمد لله، فهل انتهت أعمال الحج بهذا يا ترى. كلا فقد كان علينا أن نطوف طواف النساء. ولولا طواف النساء هو طواف حول الكعبة الشريفة فيه من القرب والخشوع الشيء الكثير، لولا هذا لكان غير مرغوب فيه لأن وجوبه يأتي بعد أن يكون الحاج قد صرف من الطاقات أكثرها. ولكن الشعور بالقرب من تلك البقعة المباركة لابد وأن يتغلب في نفس الحاج على كل تعب ونصب وطفنا طواف النساء.. وكان الطواف قد ازدحم عن طوافنا الأول نسبيًّا ولكن وعلى كل حال لم يكن بالشكل المتعب جدًّا، ثم أدينا صلاة الطواف الواجبة وبذلك أنهينا جميع أعمال الحج.. عدا رمي الجمرات لليوم الثالث..

 

أي شعور من الشكر والامتنان لله الواحد القهار يشعره الحاج عندما ينتهي من نطق آخر كلمة في تشهده من الصلاة؟ لقد أحسست بالضعة والعجز الكامل عن التمكن من شكر الله على هذه النعمة فسجدنا سجدة الشكر.. ولكن شكرنا لله يحتاج إلى شكر.. وذهب صاحبنا بعد الصلاة ليأتي لنا بكوز من ماء زمزم فيا لعذوبة ذلك الماء المالح!! عذوبة معنوية تنسي الشارب مرارته الحسية.

 

وكنا نحس بمزيد الحاجة إلى الماء فشربنا حتى ارتوينا وغسلنا وجوهنا ثم حمدنا الله من جديد.. ولا يسعني هنا إلا أن أسجل كلمة شكر لصاحبنا شقيق المتعهد ذلك فقد عاملنا معاملة جيدة ووفر لنا في تلك الساعات جميع ما تمكن عليه من أسباب الراحة فأسأل الله تعالى أن يجزيه عنا خير الجزاء.. وللقارئ أن يتصور مدى حاجتنا في ذلك الوقت إلى الراحة وهي لا تتم إلا بالعودة نحو منى، والطريق كان مهددًا بالازدحام كلما قرب انتهاء الليل، ولكن كان علينا أن ننتظر فإن أحد الحجاج الذي صحبنا في منى كان قد انفصل عنا بالطواف والسعي هو وزوجته وكان علينا أن ننتظره لكي نعود معًا.. هكذا قال صاحبنا المتعهد.. وحفاظًا على آداب المصاحبة فقد خضعنا للأمر الواقع وجلسنا ننتظر. وطالت المدة دون أن يتفضل صاحبنا فيمر علينا مرور الكرام حتى يئس متعهدنا من عودته، واعتقد أنه قد عاد بزوجته إلى منى فخرجنا نسحب أقدامنا في الأرض سحبًا لشدة التعب والسهر وهيأ لنا صاحبنا سيارة نقلتنا إلى مدخل منى حيث تعذر عليها أن تستمر لكثرة الزحام، فنزلنا لنمشي ذلك الطريق الطويل ونحن متعبات مرهقات نعسانات مريضات.. ولكن.. وأخيرًا وصلنا إلى الخيمة والشمس لم تشرق بعد فحمدنا الله على السلامة.. ووجدنا حاجتنا (زوجة الحاج الفاضل) تغط في نومة عميقة ثم استيقظت لكي تقول (لماذا تأخرتم؟)!!

 

وكنا في حاجة ماسة إلى النوم فنمنا قريرات العين لتمكننا من أداء الواجب بالشكل الصحيح.. واستيقظنا بعد ساعتين لتناول إفطارنا وكنا قد استعدنا بعض قوانا والحمد لله.

 

كان علينا أن نرمي الجمرات لليوم الثالث، وبينما كنا نتحدث عن أحسن وقت نتمكن فيه من الذهاب، إذ بمجموعة من السيدات يدخلن الخيمة عائدات من الجمرات وكل واحدة منهن تنادي بالويل والثبور للازدحام المرير وصعوبة الوصول إليه، فهذه تقول كدت اختنق ـ وتلك تقول ـ إنه موت محقق ـ وأخرى تقول ـ إنه الهلاك بعينه.. تهويل ومبالغة غير مستحبة أبدًا.. وتلفت حولي فوجدت الوجوه وقد علتها مسحة من القلق.. وكأن أخواتي خيل إليهن أن هناك تطورًا جديدًا قد حدث في نطاق رمي الجمرات.. وأن صعوبة المرمى قد تصاعدت إلى مستوى الموت والهلاك فأردت أن أحسم فترة الانتظار المشوبة بالقلق ولهذا اقترحت عليهن الذهاب نحو الجمرات.. فجددنا الطهارة لأن من مستحبات الرمي هو أن يكون الرامي حافظًا للطهارة ثم توجهنا نحن الخمسة نحو المرمى..

 

كانت مهمتنا في ذلك اليوم هي أسهل منها في اليومين الماضيين، فلم نلحظ من قريب أو بعيد أثر من آثار الهلاك أو الموت أو الاختناق، وخرجنا من محوطة الجمرة الكبرى صخبات ضاحكات لأننا بذلك كنا قد أنهينا جميع أعمال الحج.. نعم أنهيناها بالأصالة ولم نضطر إلى وكالة، وأنهيناها باطمئنان ولم نتعرض فيها لشك أو نسيان.. انتهينا منها واعيات ولم ننصرف عنها جاهلات.. وأخيرًا انتهينا منها راغبات في العودة غير برمات لشيء أو ساخطات على أمر من الأمور.. ولهذا كنا نضحك.. ولهذا أيضا كنا نحس بالغبطة والسعادة.. فالحمد لله على ما أنعم وأسدى. وعدنا إلى الخيمة وهناك كانت الخيمة أشبه ما تكون بسوق خيري.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد