مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

حين يفسد الطيّبون في الأرض.. أيّ سنّة قد تجري عليهم؟

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ‏ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‏ ما في‏ قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصام‏ * وَإِذا تَوَلَّى‏ سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَساد}[1]

أصعب شيء على المؤمن ألّا يتمكن من ملاحظة قرب الله في حياته. قرب الله هنا هو قرب الرحمة الخاصة. الرحمة الرحيمية علامة على قبول الحق تعالى لعبده وتقبّله. هكذا تنبعث أواصر المحبة الإلهية ويتعمق في القلب حبنا لله. كلما تنسّمنا رياح رحمة الله كنّا أقرب إلى الشعور بحضوره الجمالي الرحماني في حياتنا. هذا مطلب يصعب على المؤمن إغفاله أو تجاوزه في علاقته بالله تعالى.

ما يجعل الأمر صعبًا هو ألّا نتمكن من تفسير حوادث الحياة تفسيرًا إلهيًّا؛ حتى لو كانت النتيجة والاستنتاج الحاصل من هذا التفسير والقراءة يدل على حضور الجلال وظهور النقمة، فإنّه أهون من ألّا نقدر على تفسير ما يحصل. ففي كل جلال يكمن الجمال وفي كل نقمة يوجد نعمة. ويمكن أن ننتقل بسرعة من ملاحظة الجلال إلى رؤية الجمال الكامن فيه حين نتمكن من قراءة الحوادث وتفسيرها تفسيرًا إلهيًّا يجعلنا شاهدين على حضور الله وربوبيته وتدبيره.

 

يوجد ساحتان أساسيتان لملاحظة حضور الله في عالم الدنيا: الأولى هي ساحة النفس وميدانها؛ والثانية هي ساحة المجتمع والعلاقات البشرية. تتحول ساحة النفس إلى مدرسة إلهية تعليمية حين نخوض ميدان الجهاد الأكبر ونجاهد أنفسنا للوصول إلى مقام القرب. هذا الأمر هو الضامن الأول لقراءة آيات الله في أنفسنا.

ولكي نتمكن من قراءة ساحة المجتمع والآفاق، نحتاج إلى معرفة السنن الحاكمة عليها. هناك قوانين إلهية تجري في جميع ميادين الحياة الاجتماعية للبشر، لكنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأدائهم وسلوكياتهم العامة. ومن هذه السلوكيات ما يرتبط بتعاملهم مع الأرض.

ربما يمكن القول إنّ هذه القضية هي القضية الأولى في الحياة الدنيا، لأنّ وجود الأرض مقدمة لكل شيء آخر. بقاء البشرية واستمرارها مرهون بحياة الأرض وصلاحها. وبدون البشرية لا يوجد أي حياة اجتماعية بالطبع. الأرض مهد الحياة والله يقول: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ‏ مِنَ الْأَرْضِ نَباتا}.[2]

 

إنّ التعامل الخاطئ مع الأرض يفرض سريان مجموعة من القوانين وتحقق سلسلة من السنن. ومن المؤكد أنّ تخريب الأرض عند الله خط أحمر، لأنّ للأرض عاقبة ومصيرًا جميلًا حيث تشرق بنور ربّها ويرثها عباد الله الصالحون المصلحون. كل من تمتد يده لتخريب الأرض لا بد من قطعها مهما كان.

 يمكن اعتبار عملية تخريب الأرض كأخطر ظاهرة في الحياة الاجتماعية؛ ولذلك لا يمكن التسامح معها إطلاقًا. وهذه القاعدة تسري على أي جماعة مهما كانت ديانتها وانتماؤها ووضعها.

لو كانت الجماعة متشكلة من الطيبين الذين لا يقصدون أي شر، لكنّهم يُخرّبون الأرض بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، فهم يرتكبون واحدًا من أكبر الأخطاء على الإطلاق. ولو كانت الجماعة البشرية متشكلة من الخبيثين ولم يكونوا يخربون الأرض (هذا، على سبيل الفرض، رغم أنّه مستبعد جدًّا) فيمكن الغض عنهم أو ألّا يُجري الله أقسى السنن عليهم؛ أو يمكن القول إنّ عقابهم لن يكون بمستوى عقاب تلك الجماعة التي تُمعن خرابًا وفسادًا في الحرث!

 

يتصور بعض الناس أنّ المظلومية كافية لاستدرار النصر. كم من مظلومٍ هو في الوقت نفسه ظالم وإن كان لا يدري. حتى لو كانت الجماعة مظلومة مضطهَدة، لكنّها كانت في تعاملها مع الأرض تخرّب وتفسد، فربما لن تشفع لها مظلوميتها. قد يرسل الله على هذه الجماعة المظلومة من يطردها من أرضها ويشتت شملها ويشردها في البلاد.. تصبح هذه الجماعة التي إذا اجتمع أفرادها خرّبوا، وإذا تفرقوا لم يفسدوا (فليس من الضروري أن يُبادوا من الأرض). إنّ ذهاب الجماعات لا يعني فناء أفرادها، بل زوال هويتها الجمعية؛ كما نقرأ اليوم عن جماعات كثيرة أو شعوب كانت موجودة في التاريخ ثم انقرضت. قد يكون نسلهم موجودًا اليوم، لكن لا ذكر لهويتهم أبدًا.

نحتاج إلى تعميق هذه الفكرة لأسباب عدة. منها أنّ قضية تخريب البيئة وإفسادها ليس مطروحًا في ثقافتنا الإسلامية العامة كما ينبغي. يمكن القول إنّنا أقل شعوب العالم إدراكًا للعلاقة الوثيقة بين الدين والأرض. ومن هذه الأسباب أنّ ذلك يعيننا على فهم ما يجري علينا من حوادث، وما ينبغي أن نقوم به من أجل اكتشاف طريق التقدم الحضاري والسير عليه. لا يمكن لأي جماعة أن تصنع حضارة بعيدًا عن رؤية واضحة تجاه الأرض والبيئة....

رغم أنّ الله أنعم علينا بنسبة جيدة من الأمطار، لكنّنا نلجأ إلى تجفيف مصادر المياه بطريقة تجعل مستقبل هذه الثروة الحساسة والمصيرية مخيفًا.... التخريب لا ينحصر في تسميم المياه وتعرية التربة؛ جزءٌ مهم من هذا التخريب يرجع إلى الاستخدام العشوائي والاستغلال المفرط.

 

عدم تقدير الثروات الطبيعية هو المقدمة الأساسية للتخريب. الطيبون إن لم يعرفوا أهمية التربة والمياه ولم يشكروا الله على هذه الموارد الحساسة بحسن استعمالها، فسوف يستخدمونها بطريقة عشوائية اعتباطية ظالمة إسرافية تبذيرية. وعدم التقدير والشكر في سنن الله هو العامل الأول وراء الحرمان من النعم. قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتيها رِزْقُها رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ}.[3]

إنّ قصة أهل سبأ والسد العظيم معروفة. خلّدها الله في كتابه لتبقى لنا درسًا: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ في‏ مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور *  فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ‏ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَليل * ذلِكَ جَزَيْناهُمْ‏ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازي إِلاَّ الْكَفُورَ}.[4]

يتصور بعض الناس أن العدو طالما أنه كافر وظالم ومجرم، فإن الله سينصرنا عليه. ينسى هؤلاء أنّ هذا العدو قد يتحول إلى أداة ووسيلة بيد الجلال الإلهي لمعاقبة الجماعة الطيبة المظلومة (الظالمة أيضًا). رغم أنّ هذا العدو سينال نصيبه في النهاية من العقاب.

الظلم أنواع. بعضه ظلم الناس لبعضهم بعضًا. وبعضه ظلم الناس للأرض. ربما لم يُطرح هذا البحث الأخير في أدبياتنا الإسلامية كما ينبغي، فظنّ الكثير منّا أنّهم إن ظلموا الأرض لن يصيبهم شيء من عقاب الله لأنّهم من أهل الإسلام والإيمان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. سورة البقرة، الآيات 204-205.

[2]. سورة نوح، الآية 17.

[3]. سورة النحل، الآية 112.

[4]. سورة سبأ، الآيات 15-17.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد