مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

مفهوم الموت

﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ... ﴾ (1) :

هناك أناس ينظرون إلى هذه الحياة الدنيا على أنها هي كل شيء بالنسبة إليهم ، وليس قبلها ولا بعدها شيء ، ويتعاملون مع كل ما ومن يحيط بهم على أساس هذه النظرة ، ومن خلالها .

ومعنى ذلك : أن تصبح معاييرهم التي يقيسون بها الأمور معايير دنيوية ، وعلى أساس الربح والخسارة فيها ، وليس ثمة شيء وراء ذلك .

فلا غرو إذا كان الموت يمثل لهؤلاء الناس ـ حسب نظرتهم تلك ـ ضياعاً وخسراناً ، وخيبة مُرّةً وقاسية ، لأنهم يرون فيه نهاية سعادة وحياة ، وبداية عدم وفناء ، وربما بداية شقاء وبلاء ، لا تحده حدود ، ولا تقيده قيود .

إذن فلماذا لا يجنّبون أنفسهم كارثة الموت هذه ، والتي ليس فوقها كارثة ، ويحرصون على البقاء في هذه الدنيا ، ليعيشوا فيها حياتهم حتى لو كانت أحقر ، وأتفه ، وأخسّ حياة . قال تعالى حكاية عن اليهود : ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ... ﴾ (1) . علماً بأنهم لا يجدون في توراتهم المحرفة التي يتداولونها اهتماماً بأمر الآخرة . . بالمستوى الذي يصبح هاجسهم الأول والأخير . . بل قد تجد فيهم فرقاً لا تعترف بالآخرة أو لا تعتقد بها إلا بدرجة ضعيفة وغائمة .

 

نظرة المؤمنين للموت

أما الذين يؤمنون بالله ، وبأنبيائه ورسله ، وبالآخرة ، فإنهم ـ بحسب ما علمهم إياه القرآن ، ونبي الإسلام ( صلى الله عليه وآله ) ـ ينظرون إلى الموت نظرة تختلف كثيراً عن نظرة غيرهم . ويمكن تلخيص ذلك في ما يلي من نقاط :

 

خلق الموت و الحياة

قال تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ... ﴾ (2) .

فالآية الكريمة قد ذكرت الموت ، قبل أن تذكر الحياة . ثم صرحت بأن الموت مخلوق له تعالى ، تماماً كما هي الحياة .

ثم ذكرت : أن السر في خلق الموت والحياة هو وضع الإنسان على المحك ، بهدف دفعه لمواصلة تحركه نحو الأفضل والأحسن في مسيرته التكاملية ، في نطاق جوٍ مثير يهيمن عليه تنافس إيجابي ، باتجاه تكوين وصنع الحياة ، والتأثير فيها وإثارتها لتتجسد عملاً ذا ميزات جمالية تنمو وتتكامل في جماليتها من حسن إلى أحسن بصورة مطردة .

فالموت والحياة معاً لهما دورهما الإيجابي في بناء الحياة ، وفي تكامل الإنسان في إنسانيته ، من حيث إنهما ينتجان عملاً حسناً ، بل ومتميزاً في حسنه وجماليته ، يكون هو الرصيد الذي يؤهل الإنسان للمشاركة في الحياة الحقيقية التي لا تصلح إلا للإنسان الذي استوفى باختياره ، وبجهده وعمله الدؤوب خصائصه ، وميزاته الإنسانية ، ﴿ ... لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ... ﴾ (3) .

وفي حياته الحقيقية تلك ـ أعني في الآخرة ـ يصبح أكثر وأعمق إحساساً بالأمور ، حيث تتساقط الحجب التي تؤثر على مستوى إحساسه وإدراكه ، ولأجل ذلك كانت هذه الحياة « حياة دنيا » ، لتدني مستوى الشعور ، والإدراك والإحساس فيها ، لأنه محجوب بالوسائط ، ومستند في الأكثر (4) إلى التخيل استناداً إلى صور ذهنية عن الحقائق الراهنة ، ساهمت الحواس بإيصالها إليه . بالإضافة إلى حاجز الشهوات والهوى ، وإلى الآثام والمعاصي التي تزيد من طغيان الجسد ، وتضعف القدرات الروحية لديه ، فيتضاءل إحساسه بالحقائق ، ويتقاصر فهمه عنها .

أما الآخرة فقد قال الله عنها : ﴿ ... وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ (5) .

وقال تعالى : ﴿ ... فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ (6) .

وخلاصة الأمر : أن الإنسان يجتاز مرحلة الموت ، ليصل إلى عالم البرزخ ومعه رصيده العتيد ، من عمل حسن وأحسن ، ويتخلص من كل ما يحجزه عن مواصلة مسيرته التكاملية نحو الله سبحانه ليفوز بقربه كما قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ (7) ، فيصل إلى البرزخ الذي هو بمثابة بوتقة يتم فيها تأهيل من يحتاج إلى التأهيل لاستقبال الحياة الحقيقية ، التي هي حياة الآخرة ، بكل حيوية ونقاء وصفاء ، ويكون هو بداية الفوز والنجاح ، وهو باب الخير والفلج والفلاح ، وأول طريق الأمن والسلامة والنجاة من المخاطر ، التي تنشأ من طغيان الشهوات ، ودواعي الغرائز والأهواء .

فبالموت يملك الإنسان المؤمن نفسه ، ويتحرر من شهواته ، ويستفيد من كل جهات وجوده ، ومن طاقاته بصورة كاملة ، وبه يخرج من سجن قاس ومرهق أيضاً . . وما أحلى أن يحصل الإنسان على حريته وأن يكون هو سيد نفسه ، ويواصل انطلاقته نحو الله في رحاب ملكوته . ليحيا هناك الحياة التامة بكل وجوده وطاقاته وأحاسيسه ، قال تعالى : ﴿ ... وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ (5) .

ولا غرو أن يكون هذا الموت حبيباً ولذيذاً ، كما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه » (8) .

وقد وصف الإمام الحسين ( عليه السلام ) أصحابه فقال : « يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب أمه » (9) .

وسأل الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، القاسم بن الحسن ( عليهما السلام ) : يا بني كيف الموت عندك؟!

قال : يا عم أحلى من العسل (10) .

وحين قال ابن زياد لعنه الله للعقيلة زينب سلام الله عليها : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك ؟ قالت : ما رأيت إلا جميلاً (11) .

وحين ضرب ابن ملجم لعنه الله ، أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قال صلوات الله وسلامه عليه : فزت ورب الكعبة (12).

إلى غير ذلك من نصوص كثيرة تدخل في هذا المجال .

هذا بالإضافة إلى ما يشير إليه قوله تعالى : ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴾ (13) .

 

وبكلمة

إن الموت هو سر الحياة ، وهو يعطيها معناها ومغزاها ، وقيمتها . وهو غاية زينتها وبهجتها ، وهو سر الطموح ، وسر الحركة الدائبة باتجاه الأفضل فيها ، وسر سعي الإنسان إلى كماله ، وكدحه إلى ربّه ، وسرّ ملاحقته لأسرار الكون وخفاياه ، ليستفيد منها في ترسيخ حالة الأمن والسلامة القصوى في حاضره وفي مستقبله على حدٍّ سواء .

هذا . . بالنسبة للمؤمن . .

أما غير المؤمن فيرى في الموت خسراناً لنفسه ، وبواراً لأهدافه وطموحاته ، ولن يكون قادراً في الآخرة على نيل درجات القرب ، ولا على الانطلاق في رحاب ملكوت الله سبحانه ، أو الإحساس بجلاله وجماله ، إحساساً حقيقياً وعميقاً ، لا يقتصر على مجرد المعرفة الذهنية ، بل هو سيكون منشغلاً بنفسه ، وبآلامه في ظلمات الجحيم ، حيث ﴿ ... وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ... ﴾ (14) ; وهو في الآخرة . كما في الدنيا أعمى ، بل هو أضلُّ وأشقى قال تعالى : ﴿ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ (15) .

 

الموت قلادة على جيد الفتاة

وما أروع ما روي عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) في هذا المجال ، حيث قال في مكة وهو متوجه إلى كربلاء : « خُطّ الموت على ولد آدم مَخَطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف إلخ . . » (16) .

فقد بين ( عليه السلام ) حتمية الموت وأنه هو زينة الحياة ، يزيدها جمالاً ، وبهاءً ورونقاً ، ويعطيها المزيد من البهجة واللذة ، تماماً كما هو الحال بالنسبة للقلادة إذا كانت على جيد الفتاة ، فإنها تكون زينة لها ، تشدُّ الأنظار إليها ، وتزيد من تعلق القلوب بها .

ويستوقفنا هنا التعبير بكلمة : « جيد » التي توحي بالجودة ، وهو تعبير مريح للنفس ، مثير للكثير من المعاني اللذيذة في أعماقها .

كما ويلفت نظرنا أيضاً اختيار خصوص الزينة التي في هذا الموقع الحساس من جسد المرأة ، بما يثيره من إيحاءات تنبعث من صميم الإغراء الأنثوي ، وفي النقطة المركزية والأساس فيه .

ثم إنه ( عليه السلام ) يختار التعبير بكلمة « الفتاة » بدلاً من كلمة « المرأة » ونحوها . لأن الفتاة وليس سواها ، هي التي تمثل القمة في الحيوية ، والطموح ، والجمال ، وما إلى ذلك .

فهذا موقع الموت ، وهذه هي حساسيته ، وبذلك تظهر أهميته .

ــــــــــــــــــــــــــ

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

1. a. b. القرآن الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 96 ، الصفحة : 15 .

2. القرآن الكريم : سورة الملك ( 67 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 562 .

3. القرآن الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 7 ، الصفحة : 222 .

4. إذ إن بعض المدركات تكون عبر الإحساس الحقيقي بها ، من قبيل الإحساس بالجوع والعطش ، وكذا بعض الحقائق النفسية أيضاً .

5. a. b. القرآن الكريم : سورة العنكبوت ( 29 ) ، الآية : 64 ، الصفحة : 404 .

6. القرآن الكريم : سورة ق ( 50 ) ، الآية : 22 ، الصفحة : 519 .

7. القرآن الكريم : سورة الانشقاق ( 84 ) ، الآية : 6 ، الصفحة : 589 .

8. نهج البلاغة [ بشرح عبده ] : 1 / 41 ط دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان .

9. مقتل الحسين للمقرم : 262 .

10. اللهوف : 82 و83 و نفس المهموم : 208 .

11. اللهوف : 67 ونفس المهموم : 371 .

12. ترجمة الإمام علي ( عليه السلام ) من تاريخ دمشق : 3 / 303 وينابيع المودة : 65 ومقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لابن أبي الدنيا [ مطبوع في مجلة تراثنا ] سنة 3 عدد 3 ص 96 .

13. القرآن الكريم : سورة الفجر ( 89 ) ، الآية : 27 و 28 ، الصفحة : 594 .

14. القرآن الكريم : سورة إبراهيم ( 14 ) ، الآية : 17 ، الصفحة : 257 .

15. القرآن الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 72 ، الصفحة : 289 .

16. اللهوف على قتلى الطفوف ، لابن طاووس : 25 ومقتل الحسين للمقرم : 190 عنه وعن ابن نما : 20 .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد