مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

لماذا يحتاج القادة إلى اكتشاف أساليب جديدة؟

يظهر دور القائد في التأثير المميز على الأتباع، من أجل تفعيل طاقاتهم وتوجيهها نحو تحقيق الأهداف التي يؤمن بها. وغالبًا ما يتجلى هذا التأثير في المواقف المصيرية حيث الأخطار الداهمة والمواقف الحماسية؛ ففي مثل هذه المحطات، يمكن لخطاب واحد أن يجترح المعجزات.. ولطالما سمعنا عن قادة استطاعوا أن يقلبوا نتائج المعركة لصالحهم من خلال إلهام الجند وإلهاب مشاعرهم، بعد أن كانت معطيات الأرض تشير إلى الهزيمة الحتمية.

 

أجل، يمكن لخطاب واحد أن يكون عاملًا مصيريًّا؛ وقد يكون هذا الخطاب هو الشيء الذي نراه بعد مرور التاريخ معتقدين بأنّه أهم ما قام به هذا القائد، حتى حاز هذه المرتبة الرفيعة ضمن فريق القادة العالميين.. وغالبًا ما نشاهد الأفلام السينمائية تُظهر مثل هذا الأمر وكأنه الشيء الوحيد الذي يقوم به القائد. فبطلنا كان شخصًا مغمورًا ـ وربما جبانًا أو مترددًا ـ ولم يشارك في أي من المعارك السابقة، ولم يكن له أي تاريخ من التضحيات والعطاءات، لكنه بسبب خطابه الحاسم استطاع أن يقلب الميمنة على الميسرة، وإذا بالقلوب تشتعل حماسًا وتتقدم بكل شجاعة وبطولة غير عابئة بالمخاطر الكبرى!!.

 

يتفنن صانعو أفلام هوليوود بإخراج هذا المشهد الذي يتكرر ويتكرر دائمًا ليصبح كليشيه لا يُمل منها؛ ولعل ذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى نظرتهم التسطيحية التبسيطية للقيادة؛ دون أن ننسى حاجتهم الماسة لتقديم المشهد العاطفي المؤثر والاختزالي (فماذا يمكن أن يقدموا في مئة دقيقة!).. لكن المشكلة تكمن فينا نحن حين نتصور أن التأثير الكبير على الناس وتحريكهم ليقوموا بأعمال عظيمة، تقلب المعادلات الراسخة، إنما يتحقق من خلال الخطابات (رغم أهميتها). خصوصًا إذا كنّا بصدد قيادة مجتمع معقد ومتشعب في مشاكله وأزماته وتطلعاته. وبالتأكيد كل مجتمعات اليوم هي من هذا القبيل.

 

بعض القادة قد يرون أن أفضل طريقة لمعالجة المشكلات أو توجيه الأتباع هي بجمعهم وإلقاء خطاب مؤثر فيهم؛ وحين تتعالى أصوات التكبير أو التهليل والتصفيق ويترك الخطاب صدى كبيرًا على مستوى مواقف بعض السياسيين والزعماء (الذين هم في الغالب من المتملقين) وكذلك بعض النخب والإعلاميين (ولا ينبغي أن ننسى هذه الجوقة التي غالبًا ما تظهر أكبر من حجمها بأضعاف المرات)، فإن القائد هنا ربما يتصور أنه قد أدى ما عليه، وأن الباقي على الناس (أو على الله إذا كان موحدًا)!

 

لكن التأمّل الدقيق في تأثير الخطابات الحماسية التي شكلت منعطفات مصيرية في المعارك والحروب يدلنا على أن الأمر لم يكن يومًا في الخطاب نفسه، وإنما فيما كان يحمله الجند والناس في أنفسهم عن هذا القائد الخطيب من مصداقية تراكمت على مدى سنين متمادية، من مواقف بطولية وشجاعة ملفتة وصدق قل نظيره وتضحيات ومواساة ومبادرات..

 

صحيح أن للبلاغة والفصاحة دورها المميز هاهنا، لكن الأصل يرجع إلى عامل الصدق الذي ينطلق منه الخطاب؛ وإنما يكون الصدق بحسب المواقف من حيث الشدة والنوعية.. فمن غير الصحيح أن نتوقع الأثر الكبير لخطابنا ـ مهما كانت نوايانا سليمة ـ إن لم نكن قد أثبتنا حضورًا تاريخيًّا بالمواقف والأعمال والمشاريع والخبرات المرتبطة بمضمون الخطاب ونقاطه. فرجل الدين ـ مهما كان مؤمنًا بالجهاد والشهادة ـ إن لم يكن في لباس العسكر، لن يؤثّر كما يؤثّر القائد العسكري الذي قاتل مع جنده وواساهم في الشدائد وضحى بأكثر مما يضحون؛ كما أنّ لابس رداء العسكر إن لم تكن بدلته العسكرية تشهد بهيئتها وحالاتها ومواقفها على نضاله المديد، فمن الصعب أن يؤثّر في المقاتلين والمجاهدين كما ينبغي.

 

ولأجل ذلك، فإنّ ما يحتاج إليه القائد لتوجيه شعب بأسره ـ فيما يتعلق بقضاياه المعيشية وعلاقته بحكومته ومشاركته في تقرير مصيره ـ يختلف كثيرًا عن إلقاء الخطب والتصريحات والمقابلات. لأن طبيعة القضايا التي يعالجها هنا لا تشبه أبدًا الموقف الذي يواجهه قائد الجند في معركة مصيرية تتسم بطابع اللحظة التاريخية.

 

إن شعوب العالم اليوم باتت عرضة للكثير من العوامل التي تسهم في تشكيل وعيها ونظرتها للأمور على مدى أزمنة طويلة وعبر الأجيال. فلا يمكن لخطاب أو عشرة خطب رنانة أن تتغلب على سنوات المدرسة والإعلام والثقافة التي يتلقاها الناس من مصادر نافذة ـ تختلف في رؤيتها الكونية وأيديولوجيتها وحتى برامجها وخططها عن تلك التي يؤمن بها هذا القائد أو ذاك.

 

وما لم يعمل قادة اليوم على تشكيل هذا الوعي منذ الطفولة، وبالأساليب التي تندرج في إطار التعليم والإعلام الثقافي الذي يخاطب الفكر والروح والقلب والذهن والمشاعر ويحفر عميقًا فيها، فإنّهم سيجدون خطاباتهم الحماسية الملهبة، وقد خبت وطارت شعلتها المتوهجة أمام عواصف الأفكار المتلاطمة التي تتشكل في قلوب الناس بسرعة أكبر مما يتصورون.

 

وقد اشتهر عن الإمام الخميني (قدس سره) أنه حين سُئل عن أنصاره الذين يعتقد بأنهم سوف يقفون معه في نضاله ضد النظام الملكي المستبد، قال: إنّ أنصار هذه الثورة هم الآن في بطون أمهاتهم. وقد كان هذا الكلام قبل انتصار الثورة الإسلامية بحوالي عشرين سنة. وبالفعل حين خرج الناس في المظاهرات المليونية، وشاهدت بعثات التقصي الأمريكية والأوروبية كيف أنّ الغالبية الساحقة منهم هي من الشباب الجامعيين والثانويين، ذُهلوا كيف أن كل البرامج الإفسادية والإلهائية التي طبقتها حكومة الشاه وزوجته لم تجدِ نفعًا. وحين بحثوا عن سبب ذلك وتتبعوا الشواهد، وجدوا أن تلميذي الإمام النجيبين الشهيدين البهشتي وباهُنر كانا قد تسللا بطريقة ذكية إلى المناهج المدرسية واستطاعا أن يدرجا بعض المفاهيم الأساسية التي تجعل الشباب قادرين على التفاعل مع أطروحة الإمام ورؤيته لقيادة المجتمع وحكومته. وقد عوتب الشاه بقسوة حينئذٍ وقال له بعض أعضاء البعثة الأمريكية "ها إن جماعتك يعربدون في قصورهم، والخميني يدرّس شعبك ويلقنه ما يريد".

 

في الماضي السحيق، كان القائد الملهِم يحث الجماهير ويلهب مشاعرها استنادًا إلى أمجاده العسكرية، لأن طبيعة الحياة كانت تُختصر في الحروب والمعارك والقتال بين القبائل على الموارد الطبيعية والثروات. وكانت الندوب وآثار الجروح التي تخطط وجهه وجسده أفضل مؤثر فني يمتزج مع خطبته النارية في وقت المواجهة الحاسمة. أما اليوم، فإن لم يعمل القائد على بناء الوعي العميق والإحساس المرهف تجاه مقدمات مشروعه وأبعاده، فإنّه لن يؤثر إلا قليلًا.

 

هذا ما يستدعي أن يتقن قادة اليوم فنون التخطيط الاستراتيجي المرتبط بالوعي والفكر والإحساس وهم عارفون بأهم أساليب التأثير على الفكر والقلب وكيفية إنتاجه؛ وعلى رأس هذه الأساليب: التعليم المدرسي والدراما السينمائية والروائية.

 

القائد المعاصر لا يكتفي بإلهام من يمكن أن يستقبل فكره ومشروعه من الأدباء والشعراء والكتّاب، بل يعمل على إيجاد كل مقومات صناعة السينما والتعليم المدرسي والجامعي الذي يمكن أن يتلقف المواقف المصيرية في لحظاتها الحساسة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد