«اللّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّكَ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ العَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَشَدُّ الـمُعاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ، وَأَعْظَمُ الـمُتَجَبِّرِينَ فِي مَوْضِعِ الكِبْرِياءِ وَالعَظَمَةِ...».
دعاء الافتتاح عمليّة بناء وتوجيه
لقد حَظي هذا الدعاء الشريف، المنسوب إلى الإمام المهديّ (عج)، باهتمام في المصادر الشيعيّة الإماميّة؛ وذلك أنّه ليس المأمول منه أن يُقرأ كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك لتحصيل البركة ولمناجاة الله سبحانه فحسب، بل للتدبُّر في مادّته المعرفيّة والروحيّة وفَهمها، والاستفادة منها في بناء علاقة سليمة مع الله، وتصحيح أخطائنا وتوجيه سلوكنا، واستثمار ذلك في عمليّة «تربية المنتظرين» وتكوينهم الإيمانيّ والعقيديّ والمعرفيّ والنفسيّ في مرحلة الغيبة الصغرى، والإعداد الذاتيّ لظهوره المبارك.
وقد توسّل الإمام المهديّ (عج)، الدعاءَ في عمليّة التوجيه الاجتماعيّ والنفسيّ، وسبيلاً لعلاج النفس من عيوبها وموبقاتها، تمهيداً لتزويدها بالسمات الأخلاقيّة السويَّة، وإمداد الفرد المنتظر بالمفاهيم العقائديّة والاجتماعيّة التي تعينه على مواجهة حركة الحياة مدّة غيبته.
الجانب الوجدانيّ في الدعاء
يتجلّى الجانب الوجدانيّ في دعاء الافتتاح الشريف بوضوح، وهذه فقراتٌ منه:
1. «وَأَقِلْ يا غَفُورُ عَثْرَتي»
في بداية الدعاء، يخاطب الإمام المهديّ (عج)، ربّه بصفة «الغفور»: «وَأَقِلْ يا غَفُورُ عَثْرَتي»؛ ليمكِّن عباد الله، من جموع المنتظرين، من إقالة عثراتهم، والسيطرة على أنفسهم.
2. «فَكَمْ يا إِلهِي مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَها»
ثمّ يخاطب (عج) ربّه عزّ وجلّ بلغة تعزّز علاقته وعلاقتنا به، فيذكر عمليّة تفريج همومنا، وكشف الكربات التي تواجه المنتظرين، ورفع زلّات أخطائهم، ونشر الرحمة، «فَكَمْ يا إِلهِي مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَها، وَهُمُومٍ قَدْ كَشَفْتَها، وَعَثْرَةٍ قَدْ أَقَلْتَها، وَرَحْمَةٍ قَدْ نَشَرْتَها، وَحَلْقَةِ بَلاٍ قَدْ فَكَكْتَها»؛ ليوجد توجّهاً إيجابيّاً في نفوس المنتظرين، وهو أنّه مهما مررنا بكُرب أو هموم أو بلاءات؛ فإنّ الله سبحانه سيفرّجها، ويكشفها ويفكّها؛ وهذا يجعلنا نتخطّى اليأس والإحباط، ونرى الأمل أمامنا؛ الأمر الذي يتيح لنا بناء علاقة أفضل مع الله متى وقعت هذه الأمور في حياتنا.
3. «فَصِرْتُ أَدْعُوكَ آمِناً»
ومن ألفاظ الدعاء التي تنحو إلى بناء علاقة إيجابيّة صادرة عن العبد تجاه ربّه، قوله(عج): «رَزَقْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَأَرَيْتَنِي مِنْ قَدْرَتِكَ، وَعَرَّفْتَنِي مِنْ إِجابَتِكَ»؛ فيحدُث تحوّل إيجابيّ في نفسيّة الداعي وسلوكه، ويعكس علامة على صلة وثيقة بينه وربّه سبحانه، «فَصِرْتُ أَدْعُوكَ آمِناً، وَأَسْأَلُكَ مُسْتَأْنِساً، لاخائِفاً وَلا وَجِلاً... فَلَمْ أَرَ مَوْلىً كَرِيماً أَصْبَرَ عَلى عبْدٍ لَئِيمٍ مِنْكَ عَلَيَّ يا رَبِّ».
4. «الحَمْدُ للهِ عَلى طُولِ أَناتِهِ فِي غَضَبِهِ»
ومن النماذج التي تعبّر عن الرحمة الإلهيّة؛ قوله (عج): «الحَمْدُ للهِ عَلى طُولِ أَناتِهِ فِي غَضَبِهِ... وَحِلْمَكَ عَنْ كَثِيرِ جُرْمِي... فَكَمْ مِنْ مَوْهِبَةٍ هَنِيئَةٍ قَدْ أَعْطانِي، وَعَظِيمَةٍ مَخُوفَة قَدْ كَفانِي، وَبَهْجَةٍ مونِقَةٍ قَدْ أَرانِي»؛ فإنّ هذه الحالات من الرحمة، والحلم عن قبيح العمل، والبهجة، ناتجها كفّ النفس عن الوقوع في الخوف، ومنح فرص البهجة في حياة المنتظرين، وهي تشهد على حكمة الله ورحمته ورعايته لنا؛ لنعيد تصحيح العلاقة بالله تعالى التي يرسمها لنا الإمام (عج).
مبادئ من دعاء الافتتاح
1. مبدأ الستر الأخلاقيّ
تنبع أهمّيّة مبدأ «الستر الأخلاقيّ» في تحقيق الأمن النفسيّ للفرد، وتربيته على ستر عيوب الآخرين؛ وهذا يوفّر ركيزةً من ركائز الأمن المجتمعيّ بين أفراد المجتمع.
وفي هذا الدعاء، يلفت الإمام المهديّ (عج) نظرنا إلى الإجراء الإلهيّ الحكيم بـ«ستْر عيوبنا»، وإخفاء قبائح أعمالنا عن الأنظار، فيقول (عج): «اللّهُمَّ إِنَّ عَفْوَكَ عَنْ ذَنْبِي، وَتَجاوُزَكَ عَنْ خَطِيئَتِي، وَصَفْحَكَ عَنْ ظُلْمِي، وَستْرَكَ عَلَى قَبِيحِ عَمَلِي، وَحِلْمَكَ عَنْ كَثِيرِ جُرْمِي عِنْدَما كانَ مِنْ خَطَأي وَعَمْدِي... الحَمْدُ للهِ الَّذِي يُجِيبُنِي حِينَ أُنادِيهِ، وَيَسْتُرُ عَلَيَّ كُلَّ عَوْرَةٍ وأَنا أَعْصِيهِ».
وإنّ عمليّة الستر هذه تستوجب من الناس أن يردّوا الجميل لله تعالى؛ بطاعته وعبادته على أتمّ وجه؛ لأنّ عمليّة الستر وفّرت لهم حمايةً وأمناً، «وَعَرَّفْتَنِي مِنْ إِجابَتِكَ، فَصِرْتُ أَدْعُوكَ آمِناً، وَأَسْأَلُكَ مُسْتَأْنِساً، لاخائِفاً وَلا وَجِلاً»؛ وهذا يعزّز العلاقة بالله تعالى، وينمّيها.
2. مبدأ تدعيم السلوك الإيجابيّ
إنّ تدعيم السلوك بإثابة مُجزية هو من أقوى العناصر اللازمة لبناء العادة، فلا يكفي تكرار السلوك من قبل الأفراد لتكوين العادة الحسنة إذا لم يتبع كلّ استجابة سلوكية صادرة عنهم تدعيمٌ إيجابيّ، فالمكافأة تؤدّي إلى تكوين السلوك المرغوب فيه.
وقد عرض دعاء الافتتاح نماذج من التدعيم الإيجابيّ:
أ. «الحَمْدُ للهِ خالِقِ الخَلْقِ، باسِطِ الرِّزْقِ»
كبسط الرزق والنعم، وما تفضّل به الله من خيرات وحاجات ماديّة ومعنويّة على جموع عباده، طائعين كانوا أم عاصين مسيئين؛ فاشتمل الدعاء على وصف الله سبحانه بـ«بالرازق، وباسط الرزق، وكثير العطاء، والباسط بالجود، والوهَّاب، وصاحب الجود، والتفضّل والمنّ»، وكلّها تعبّر عن توفير مختلف حاجات الإنسان وتأمينها من الله عزَّ وجلّ، وتدخل ضمن «التدعيم الإيجابيّ».
ب. «فأُثْنِي عَلَيْهِ حامِداً»
الصيغة الثانية للتدعيم الإيجابيّ هي تكرار الثناء على الله وحمده، «الثَّناءَ بِحَمْدِكَ، الحَمْدُ للهِ، فأُثْنِي عَلَيْهِ حامِداً، وَأَذْكُرُهُ مُسَبِّحاً»، وهو تعبير عن شكر الإنسان لربّه على ما أنعم ورزق.
وقد كرَّر الإمام المهديّ (عج) هذا الأمر على امتداد دعائه؛ فلا يمرّ بنعمة أو رفع نائبة أو سَتر قبيحة إلّا وذكر الثناء والحمد؛ بغرض تحقيق هدف تربويّ، وترسيخ مفهوم عقائديّ يخصّ توحيد الله، أو لإقرار اعتراف أخلاقيّ بنعمةٍ، أو لشكره تعالى على تجاوز محنةٍ، يوصل إلى تعزيز علاقة الإنسان بربّه؛ وتحقيق أهداف تربويّة تعكس آثارها على المنتظرين؛ إذ «أهمّيّة التكرار في بناء العادة الحسنة أنّه يؤصِّل السلوك الطيّب بالنفس، فيجعلها ميَّالة إليه لا بالتعوُّد، بل بالتفاتة واعية من القلب».
ومن الملاحظ، أنّ هاتين الصيغتين تعبّران عن حركتَين؛ أولاهما هابطة من الله تجاه الناس، وهي ما توافَرَ من رزقه تعالى لهم، والأخرى حركة شكر من الناس المؤمنين والمنتظرين للإمام المهديّ ولظهوره لله تعالى.
ج. «أَشَدُّ الـمُعَاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ وَالنَّقِمَةِ»
ولكن في مقابل ذلك، تتحرّك النفس المنتظرة الراغبة في علاقة طيّبة بالله مع هذا المعتقد بوعي آخر، يرى أنّ الله سبحانه «أَشَدُّ الـمُعَاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النِّكالِ (العقوبة) وَالنَّقِمَةِ»؛ ما يدفعه إلى التفكير الجدّيّ بالتوبة، وطلب العفو وطلب رضا الله سبحانه، ويؤدّي به إحساسُه بالتقصير إلى العمل على تصحيح السلوك، فلا يطمئنّ العبد إلى الرحمة الإلهيّة وحدها، بل يخشى كذلك غضبه تعالى. وهذا التذكّر بأنّ الله سبحانه وتعالى «أَشَدُّ الـمُعَاقِبِينَ» يجعل الفرد المسلم المنتظِر يستثمر ما تبقّى من حياته، ويستعدّ لبُعْدِ السفر، ولجلسة يوم الحساب التي قد تكون طويلة.
بعد هذه الجولة مع دعاء الافتتاح، ندرك مدى أهمّيّته في بناء الشخصيّة المؤمنة؛ فبمجرّد أن يكون الدعاء مؤقّتاً بوقت معيّن، يعني أنّه يمكن أن يحقّق -في بناء الشخصيّة- ما لا يحقّقه أيّ دعاء آخر، فشهر رمضان أفضل الشهور، واختيار هذا الدعاء ليُقرَأ كلّ ليلة، يعني أنّه من أفضل الأدعية؛ ومعنى ذلك أنّ من يحرم نفسه من التفاعل معه ليليّاً، يحرم نفسه من خير كثير؛ لأنّ دعاء الافتتاح في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان بمجموعه، له نتيجة لا تحصَّل إذا لم يواظب المؤمن على قراءته.
(زاد المتهجّدين في شهر الله - جمعيّة المعارف الإسلاميّة)
الفيض الكاشاني
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ محمد صنقور
السيد عباس نور الدين
السيد علي عباس الموسوي
عدنان الحاجي
د. سيد جاسم العلوي
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد جعفر مرتضى
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
غربال العمر، جديد الكاتبة نازك الخنيزي
صناعة الله تعالى
اختتام حملة (ومن أحياها)، بنسختها الثّانية والعشرين
مجاز القرآن عند الرّوّاد الأوائل
واضع التّجويد وشرعيّته
دور اليقظة في السفر إلى الله
وتفتّحت أزهار الخريف، كتاب جديد لسوزان آل حمود
الإمام المهديّ (عج) فرجه في الكوفة
لماذا لا نتذكر أحداث مرحلة طفولتنا المبكرة؟
من أين تنشأ الشجاعة؟