مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عادل العلوي
عن الكاتب :
السيد عادل العلوي، عالم فاضل وخطيب وشاعر، ولد في السادس من شهر رمضان 1375ﻫ في الكاظمية المقدّسة بالعراق. درس أوّلاً في مسقط رأسه، قبل أن يسافر مع أفراد عائلته إلى قمّ المقدّسة عام 1391ﻫـ ويستقرّ فيها مكبًّا على الدّرس والتّدريس والتأليف، له كثير من المؤلّفات منها: دروس اليقين في معرفة أصول الدين، التقية بين الأعلام، التوبة والتائبون على ضوء القرآن والسنّة، تربية الأُسرة على ضوء القرآن والعترة، عقائد المؤمنين، وغير ذلك. تُوفّي في السابع والعشرين من ذي الحجّة 1442ﻫ في قمّ المقدّسة، ودفن في صحن حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).

ما هو سرّ الخليقة وفلسفة الحياة (2)

سر الخلق: الرحمة، العلم، العبادة:

 

فلما كان سبحانه وتعالى هو الوجود المطلق المستجمع لجميع الصفات الجمالية والكمالية على نحو الإطلاق وبلا نهاية، فهو العالم القادر الحي المطلق في علمه وقدرته وحياته، كما تدل على ذلك البراهين الواضحة والأدلة الساطعة، فهو الكمال المطلق والمطلق في الكمال.

 

والمطلق في صفاته الثبوتية الذاتية والفعلية من كماله المطلق: أن تتجلّى صفاته في مصنوعاته ومخلوقاته فإنّ يُجيد هندسة الطائرة النفّاثة، إنما تظهر جودته وكماله في هندسته، لو صنع لنا الطائرة، وفاق أقرانه في إيجادها وإتقانها وطيرانها، فلولا الصنع لما عرفنا كماله، ومن الوجدانيات ـ والوجداني من البديهيات ـ أن من يملك الصوت الجميل مثلاً، فإنّه يحاول بين الأقران والأخلاّء أن يُغرّد ويظهر صوته، فيتغنّى ويترنم، بل حتى لو كان وحده فإنه يصدح ويعلو صوته، وذلك من كمال الصوت الجميل، فمقتضى الكمال وطبيعته الذاتية أن يظهر نفسه، فهو الظاهر بنفسه والمظهر لغيره كالنور.

 

ولما كان الله سبحانه مطلق الكمال والكمال المطلق فمقتضى ذاته ـ ولا يعلمها إلاّ هو ـ أن يتجلّى في صفاته وجماله وجلاله،  فيظهر في علمه وقدرته وحياته وأسمائه الحسنى.

 

ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه: (كنتُ كنزاً مخفياً فخلقت الخلق لكي أعرف)، خلق الخلق ليظهر قدرته كما في الحديث الشريف، والخلق مظهر لأسماء الله وصفاته.

 

وإنّما يقف على كُنه هذه الحقيقة وسرّها الأنبياء والأوصياء والأولياء الأمثل فالأمثل، كما جاء في الزيارة الجامعة في زيارة الأئمة المعصومين (عليهم السلام): (السلام على حملة سرّ الله) فأهل البيت (عليهم السلام) حملة الأسرار وأدرى بما في البيت، فلا نطرق باب سر الخالق أكثر من أن نقول ـ إن صحّ التعبير والقول ـ إن الله سبحانه هو الكمال المطلق ومن كمال كماله أن يتجلّى في كل شيء ـ كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام ): (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وبعده) وقد ورد في دعاء سحر شهر رمضان (اللهم إني أسألك من كمالك بأكمله وكل كمالك كامل، اللهم إني أسألك بكمالك كلّه) وإن الله جميل ويحب الجمال ومن جماله أن يظهر جماله (اللهم إني أسألك من جمالك بأجمله، وكل جمالك جميل، اللهم إني أسألك بجمالك كلّه).

 

هذا وإنما نطلق العنان في سر المخلوق، فإن الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما من أجل الإنسان كما في قوله تعالى: ( وَسَخّرَ لَكُم مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)  الجاثية /13 . وجاء في الحديث القدسي: (خلقتُ الأشياء من أجلك وخلقتُك من أجلي). فإن الله جلّ جلاله خلق الكائنات وما في الطبيعة وما وراءها من أجل الإنسان، وخلق الإنسان ذلك الكائن الذي لا يزال مجهولاً من أجل الله، فهو خليفة الله في الأرض (إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة / 30. والقرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم يُلخّص لنا سرّ الخلق وفلسفة الحياة في حقائق ثلاثة: الرّحمة والعلم والعبادة. قال تعال: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلّا مَن رَحِمَ رَبّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) هود / 118و 119. وقال سبحانه: (اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنّ يَتَنَزّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنّ لِتَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ عَلَى‏ كُلّ شَي‏ءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَي‏ءٍ عِلْمَاً) الطلاق  / 12. وقال جلّ جلاله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات / 56.

 

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله (إِلّا لِيَعْبُدُونِ) أي (إلاّ ليعرفون)، فإن العبادة لا تتم ولا تصح إلاّ بعد المعرفة، فما خلقَ الجن والإنس إلاّ ليعرفوه وإذا عرفوه عبدوه، فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.

 

في كتاب تحف العقول عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (لا يقبل عمل إلاّ بمعرفة، ولا معرفة إلاّ بعمل، ومن عرف دلّته معرفته على العمل...).

 

وجاء في علل الشرائع (ص9) بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (خرج الحسين بن عليّ (عليه السلام) على أصحابه فقال: أيّها الناس إن الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال (عليه السلام): معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي عليهم طاعته).

 

قال مصنف الكتاب الشيخ الصدوق (عليه الرحمة ): يعني بذلك أن يعلم أهل كل زمان أن الله هو الذي لا يُخلّيهم في كل زمان عن إمام معصوم، فمن عبد رباً لم يقم لهم الحجة، فإنما عبد غير الله عزّ وجل. وإن الأئمة الأطهار ـ كما هو ثابت في محله ـ هم باب الله الذي منه يؤتى، ولولاهم لما عُرف الله سبحانه.

 

عن ابن عمارة عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فقلت له: لِمَ خلق الله الخلق؟ فقال: (إن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً، ولم يتركهم سُدىً، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويُوصلهم إلى نعيم الأبد).

 

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (يقول الله تعالى: يا ابن آدم لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ، فاتخذني بدلاً من كل شيء فإني ناصر لك من كل شيء).

 

عن أبي بصير قال سألت الإمام أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ:  (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ)  قال: (خلقهم ليأمرهم بالعبادة)، قال وسألته عن قول الله عزّ وجل: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلّا مَن رَحِمَ رَبّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ)  قال (خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم).

 

عن جميل بن درّاج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك ما معنى قول الله عزّ وجلّ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ) فقال: (خلقهم للعبادة)، فقلت: خاصّة أم عامة؟ قال: (بل عامّة).

 

وجاء في تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي (قدس سره): قوله تعالى: (إِلّا لِيَعْبُدُونِ) اللاّم فيه للغرض، إذ إنه استثناء من النّفي، ولا ريب في ظهوره في أن للخلقة غرضاً، وأن الغرض العبادة، بمعنى كونهم عابدين لله، لا كونه معبوداً، فقد قال (لِيَعْبُدُونِ) ولم يقل (لأعبد ) أو (لأكون معبوداً لهم) فالعبادة غرض لخلقة الإنسان، وكمال عائد إليه، ولو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها والخلوص لله، كان هو الغرض الأقصى والعبادة غرضاً متوسطاً ـ وربما هذا معنى قول الإمام (عليه السلام): ((ليعرفون)) ـ.

 

لا يقال كون اللاّم في (لِيَعْبُدُونِ) للغرض يعارضه قوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلّا مَن رَحِمَ رَبّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) فإن الظاهر كون الغرض من الخلقة الاختلاف.

 

كما يعارض قوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ) الأعراف / 179 . فظاهره كون الغرض من خلق كثير من الجن والإنس دخول جهنم.

 

لأنه يقال: أما الآية الأولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، وأما الثانية فاللاّم للغرض لكنّه غرض تبعي وبالقصد الثاني، لا كما في (لِيَعْبُدُونِ).

 

فإن قلت: مراد الله لا يتخلّف عن إرادته، فإذا أراد الله شيئاً أن يقول له كن فيكون، فلو كانت اللاّم للغرض لما تخلّف الناس عن العبادة، ومن المعلوم المشاهَد أن كثيراً من الناس لا يعبدونه تعالى، فاللاّم ليست للغرض.

 

فالجواب: إنما يرد الإشكال لو كانت اللاّم من الجن والإنس للاستغراق، فيكون تخلّف الغرض في بعض الأفراد منافياً له وتخلّفاً عن الغرض، والظاهر ـ والظواهر حجة ـ أن اللاّم فيهما للجنس دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقق للغرض، ولا يضرّه تخلّفه في بعض الأفراد. نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلاناً للغرض، ولله سبحانه في النوع غرض، كما أن له في الفرد غرضاً.

 

وإن قيل: اللاّم للغرض ولكن المراد من العبادة العبادة التكوينية وليس التشريعية ـ التي هي عبارة عن التكاليف الشرعية التي فيها الثواب والعقاب ـ فيكون كما في قوله تعالى: (وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ إِلّا يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ) الإسراء / 44 . فالعبادة تكوينية للجن والإنس كالتسبيح التكويني لكل شيء.

 

فالجواب: لو كانت تكوينيّة، فلماذا خصص الله الجن والإنس بهما؟ كما أن سياقها سياق توبيخ الكفار على ترك عبادة الله التشريعية، وتهديدهم على إنكار المعاد، وذلك يتعلق بالعبادة التشريعية دون التكوينية.

 

فاللاّم في (لِيَعْبُدُونِ)، للغرض، وفي (الْجِنّ وَالْإِنسَ) للجنس، والمراد من العبادة العبادة التشريعية، بمعنى أن ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام وركوع ونحوهما، غرض مطلوب لأجل غرض آخر، هو المثول بين يدي الله سبحانه.

 

فحقيقة العبادة نصْبُ العبد نفسه في مقام الذلّة والعبودية، وتوجيه وجهه إلى مقام ربّه، وهذا هو مراد من فسّر العبادة بالمعرفة، يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.

 

فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة، وهي أن ينقطع العبد عن نفسه وعن كل شيء ويذكر ربّه الغني المحض والعزيز المطلق، فيرى نفسه فقيراً مملوكاً لربّ العالمين، فيسلّم أمره إليه، فإنه هو الضار وهو النافع. والإنسان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا نشوراً.

 

وأوّل العلم معرفة الجبار، وآخر العلم تفويض الأمر إليه، والإنسان الكامل بين المعرفة والتفويض: (قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ) الفرقان / 77 . وعبادتكم، فإن (الدعاء مخّ العبادة) ـ كما ورد في الخبر الشريف ـ والعبادة هي غرض الفعل، أي كمال عائد إليه لا إلى الفاعل.

 

ويظهر من النفي والاستثناء في الآية الشريفة، الذي هو من القصر ـ كما في علم البلاغة ـ أن لا عناية لله بمن لا يعبده ـ كما يفيده قوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ) وهذا يدل على أهمية الدعاء والعبادة. ولعل تقديم الجن على الإنس في آية (لِيَعْبُدُونِ) لسبق خلقهم على خلق الإنس قال تعالى: (وَالْجَانّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ السّمُومِ) الحجر / 27.

 

ثم قد وقع نزاع بين الأعلام في علم الكلام في معرفة الله سبحانه، بأنها اكتسابية ونظرية، أو أنها بديهية وضرورية، والحق أنها من النظريات كما عند محققي المتكلمين في قولهم: إن النظر أوّل الواجبات على المكلّفين.

 

وإن الآيات القرآنية والروايات الشريفة تحث الإنسان على النظر والاستدلال والتعقّل والتفكّر والتدبّر في المعرفة بالله تعالى وتوحيده وكمال قدرته وعلمه وغاية حكمته. قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْ‏ءٍ) الأعراف /185.

 

وقال سبحانه وتعالى: ( الّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )  الملك / 2. فخلقنا برحمة الله للعبادة بعلم ومعرفة، وإنما الدنيا دار امتحان، والغاية منه تكميل النفوس وتقرّبها إلى بارئها فإلى الله المنتهى، وإن الإنسان كادح إلى ربّه كدحاً فملاقيه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد