الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ إسماعيل المشاجرة: البنية الشعائرية تجلّ لمشروع الإصلاح الحسیني

بسم الله الرحمن الرحيم، ورد عن سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين من وصية له لأخيه ابن الحنفية: "وأسير بسيرة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أبي أمير المؤمنين عليه السلام". صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام.

هذا المقطع اقتطعناه من وصية مطولة للإمام الحسين سلام الله عليه، كتبها لأخيه محمد بن الحنفية، حينما أراد الخروج من المدينة المنورة، وذكر في هذه الوصية التي هي البيان رقم واحد في حركة الإمام الحسين سلام الله عليه، البيان السياسي الأول الذي أصدره الإمام الحسين لبيان أهدافه من الخروج، وليهندس لنا مشروعه الذي يريد أن يدشنه وينطلق إليه من الخطوة الأولى التي خطاها في تلك الليلة التي خرج فيها من المدينة المنورة.

هذا البيان تضمن الأسس والمنطلقات والمبادئ والأهداف والغايات والرؤية والمنهج، وكل ما يرتبط بمشروع الإمام الحسين سلام الله عليه. ومن ضمن الأسس والمبادئ التي بيّنها الإمام سلام الله عليه في هذا البيان، هذا المقطع القصير الذي اقتطعناه والذي لا يتجاوز نصف السطر، فقال: "وأسير بسيرة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أبي أمير المؤمنين عليه السلام".

هذا المقطع يتضمن ثلاث ركائز أساسية في مشروع الإمام الحسين وفي حركته، وهذه الركائز الثلاث هي التي سنجعلها منطلقًا لأطروحتنا وحديثنا خلال هذا الموسم وخلال هذه المحاضرات المعدّة للأيام الأولى من شهر محرم الحرام.

المرتكزات الأساسية التي أشار إليها الإمام الحسين سلام الله عليه في هذا المقطع ثلاثة كما أشرنا:

 

الركيزة الأولى: الهوية

الإمام الحسين سلام الله عليه هنا يؤكد على هويته، يؤكد على انتمائه، يؤكد على شخصيته، "وأسير بسيرة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي أمير المؤمنين". فالإمام هنا يفصح عن هويته، هو الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرسول الله جده، وهو الحسين بن علي بن أبي طالب، إذًا الإمام الحسين هنا يموضع نفسه بين الثقلين الأساسيين في تاريخ الإسلام وحركة الإسلام. الثقل الأول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل المشروع الأول، نبي هذه الأمة والمؤسس لرسالتها. والثقل الثاني الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، الشخصية الثانية في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فيموضع الإمام الحسين شخصيته وهويته بين هذين الانتماءين، الانتماء للنبوة من جهة والانتماء إلى الإمامة والوصاية من جهة أخرى. إذاً الركيزة الأولى هي التأكيد على الهوية، تأكيد على الشخصية.

 

الركيزة الثانية: المرجعية

الإمام الحسين يريد أن يتحرك ونصب عينيه مرجعية أساسية في حركته، سيرة النبي وسيرة أمير المؤمنين. النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين سلام الله عليه يمثلان الانتماء والهوية، سيرة النبي وسيرة أمير المؤمنين تمثلان المرجعية التي يرجع لها الإمام الحسين والتي يحيل إليها مشروعه وحركته. يريد أن يبين للأمة أن حركته ترتكز على مرجعية أساسية، تحمل مرجعية مهمة وهي مرجعية سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أمير المؤمنين سلام الله عليه. إذاً الركيزة الثانية هي المرجعية، مرجعية الحركة، مرجعية المشروع. هذا المشروع له هوية وله مرجعية، له منطلقات ينطلق منها، أساس هذه المنطلقات هي سيرة النبي وسيرة أمير المؤمنين سلام الله عليه. إذاً هذه الركيزة الثانية.

 

الركيزة الثالثة: الإصلاح

الذي يريده الإمام الحسين سلام الله عليه من خلال هذه السيرة، لماذا يريد أن يسير؟ ولماذا يريد أن يحيي سيرة جده وسيرة أبيه؟ لأنه يريد أن يمارس إصلاحًا عميقًا وجوهريًا في هذه الأمة. والإصلاح هو القناة التي تصل بين الهوية والمرجعية. هوية الحسين، شخصية الإمام الحسين سلام الله عليه ومرجعيته، وهي سيرة النبي وسيرة أمير المؤمنين، تحتاج إلى حبل يربط بينهما، تحتاج إلى قناة تصل بينهما، هذه القناة وهذا الحبل الذي يريده الإمام الحسين هو قناة الإصلاح؛ إذاً فالإصلاح هو خط الإنتاج الذي يصل المرجعية التي ينطلق منها الإمام الحسين سلام الله عليه والهوية التي يعرف الحسين بها نفسه. من دون مرجعية تغذي شخصية الإمام الحسين وتغذي هويته، لا يمكن للإصلاح أن يتشكل. إذاً فهنا ثلاثة عناصر أساسية وثلاث ركائز أساسية بينها الإمام الحسين سلام الله عليه من خلال هذا المقطع الذي اقتطعناه من وصيته: "وأسير بسيرة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أبي أمير المؤمنين عليه السلام".

إذاً نحن أمام ثلاث ركائز أساسية: (هوية، مرجعية، إصلاح) إصلاح يصل هذه الهوية ويغذي هذه الهوية من خلال مرجعيتها. من هذه الركائز الثلاث عنونّا أطروحتنا لهذا الموسم بالهوية، نحن كثلّة ننتمي إلى مشروع الحسين وإلى مشروع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "هويتنا والمرجعية المعرفية والقيمية". ما هي مرجعيتنا المعرفية؟ ما هي مرجعيتنا القيمية؟ إذا أردنا أن نحمي هويتنا يجب أن نركز على مرجعيتنا، مرجعيتنا انتماؤنا إلى أي شيء نحن ننتمي. إذاً فكل المحاضرات التي سنطرحها خلال هذا الموسم ستتمحور حول هذا العنوان، هناك هوية لهذه الأمة وهناك مرجعية خاصة لهذه الأمة، من دون التأكيد على المرجعية التي تنتمي إليها هذه الأمة، ومحاولة تنقية هذه المرجعية التي باتت الأمة اليوم تختلط عليها المرجعيات وتستمد مرجعياتها من مرجعيات عديدة، من دون تنقية هذه المرجعية، ومن دون التأصيل لهذه المرجعية، لا يمكن لهوية هذه الأمة أن تحفظ. إذاً فنحن أمام هوية لهذه الأمة وأمام مرجعية لهذه الأمة نريد أن نؤكد عليها من خلال عناوين متعددة ومحاضرات متعددة، نحاول أن نبلور من خلالها مشروعًا ورؤية ومنهجًا، ننقح من خلاله المرجعية التي ينبغي للأمة أن ترتكز عليها لتحافظ على هويتها، كما سعى الإمام الحسين سلام الله عليه من خلال بيان مرجعيته في مشروعه ونهضته وثورته وحركته، أن يؤكد على هويته التي هي تجلٍّ لهوية الأمة. الإمام الحسين سلام الله عليه يقدم هويته على أنها الهوية النموذج التي ينبغي للأمة أن تتأسى بها وأن تعتز وتفتخر بها. الإمام الحسين لما رأى أن هوية الأمة معرضة للاختطاف، تحرك في مشروعه هذا ليحافظ على هوية الأمة. إذاً نحن اخترنا هذا العنوان استيحاءً من هذا النص الذي أصدره الإمام الحسين سلام الله عليه "هويتنا والمرجعية المعرفية والقيمية". فتعالوا لنؤكد على هذه الركائز الثلاث من خلال محاور ثلاثة.

 

المحور الأول: الهوية

ماذا نريد من الهوية؟ نحن استشهدنا بنص الإمام الحسين سلام الله عليه، وبيّنا بشكل مبسط المقصود من الهوية، لكن هناك طرح معمّق لحقيقة الهوية يطرحه العلماء والمفكرون وعلماء الإسلام بشكل عام. علماء المسلمين على مر التاريخ كانوا يؤكدون على الهوية الإسلامية وهوية الانتماء. الهوية إذا أردنا أن نعرفها، فيجب أن ننطلق في تعريفها من جنبتين: جنبة لغوية وجنبة اصطلاحية فكرية فلسفية.

الجنبة اللغوية (الهوية) اللفظ الأصح هو الهوية، لكن أحيانًا يتسامح فيقال (هوية). الهوية يقول علماء اللغة هو مصدر صناعي من لفظ هو، هو ضمير للمفرد الغائب. كلنا درسنا ضمائر الغائب في اللغة العربية في النحو، فهو ضمير للغائب. يشتق علماء اللغة من المفردات اللغوية مصادر يسمونها مصادر صناعية تنتهي عادة بالياء المشددة والتاء المربوطة مثل حرية، مثل ديمقراطية، مثل وطنية، هذه كلها تسمى مصادر صناعية. أيضًا هو كضمير في اللغة العربية يشتق من هذا المصدر الصناعي هوية، ولذلك قلت إن النطق الصحيح هو هُوية وليس هوية لأنه مأخوذ من الضمير (هو). فإذا الهوية في اللغة العربية مصدر صناعي مشتق من لفظة (هو). طيب، لماذا اشتق هذا المصدر الصناعي؟ ليشير إلى الشخصية الفردية، يعني حينما نقول بأن هوية فلان كذا كأنما نقول بأن شخصيته والسمات التي يمتاز بها عن غيره من سائر الناس أنه كذا وكذا، فإذا الهوية في أصل اللغة مأخوذة من الضمير (هو) لتشير إلى هذا المعنى. دعك من الدلالة اللغوية، الدلالة الفكرية الدلالة الاصطلاحية.

اليوم حينما يقال هوية، ماذا يراد بها؟ هنا أيضًا عدة تعريفات، أنا أقتصر على التعريفات المعاصرة، ابن رشد عنده تعريف، الفارابي عنده تعريف، الجرجاني عنده تعريف، لكن كل هذه التعاريف تتمحور حول قضية ما، أن المقصود من الهوية التأكيد على حالة التفرد. شلون يعني حالة التفرد؟ أنت كشخص كفرد بماذا تمتاز بحيث تتفرد وتختلف عن غيرك من الناس؟ هل هناك مائز يجعلك متميزًا عن الآخرين أم لا؟! تشترك مع الآخرين بسمات كثيرة، تشترك معهم بالسمة الإنسانية أنك إنسان وهم أيضًا من صنف الإنسان، تشترك معهم في صفات عامة، أنت ترى هم يرون، أنت تسمع هم يسمعون، الصفات التي تؤكدها حقيقتك الإنسانية لك سمع، لك بصر، لك عقل، لك تفكير. هذه السمات المشتركة لا تميزك عن غيرك، لكن هناك سمات خاصة بها تتفرد عن غيرك. حينما يقال مثلًا فلان كريم، إذا هو يمتاز عن سائر البخلاء. حينما يقال فلان فطن، إذا هو يمتاز عن عامة الناس من غير الفطنين. حينما يقال فلان منفتح على الأفكار المعاصرة، إذا هو يتميز عن غيره من غير المنفتحين. وهكذا تبدأ تتبلور شخصيتك ويتبلور تفردك عن الآخرين من خلال السمات التي تغاير بها الآخرين. إذاً فالهوية في عرف القدماء من الفلاسفة والمفكرين تؤكد على حالة الفرادة، على حالة التميز، لكن علماء الاجتماع المتأخرين يأخذون لفظة الهوية إلى آفاق أبعد فيقولون: كما أن للفرد هوية خاصة، كذلك للمجتمع هوية خاصة، للأمة هوية خاصة. إذاً إذا كان الأفراد يتميزون فيما بينهم بخصائص وسمات يتغايرون بها عن بعضهم البعض، هذا المعنى أيضًا يجب أن نسقطه على الجماعات على المجتمعات الكبرى على الأمم، وبالتالي سنجد أيضًا أن الحالة الجمعية تمتاز بهوية. ولذلك يطرح بعض علماء الاجتماع أن الهوية لها ثلاثة مستويات:

- المستوى الفردي: الهوية الفردية شخصيتك الخاصة التي كما بيّنت، تمتاز بها عن غيرك من أفراد مجتمعك، هذه هوية فردية.

- الهوية المتوسطة: يعني هوية على مستوى مجتمع أكبر قليلًا من الفرد، كالهُوية القبلية مثلًا. أنت تنتمي إلى القبيلة المعينة إذا هويتك القبلية تغاير الهوية القبلية الأخرى أو الهوية الوطنية. أنت تنتمي إلى وطن يغاير أوطان الآخرين. فأحيانًا تعرف عن نفسك من خلال انتمائك القبلي، وأحيانًا تعرف عن نفسك من خلال انتمائك الوطني. تقول أنا من الوطن الفلاني أو البلدة الفلانية، وتريد أن تبين أنك تتمايز عن الآخرين من خلال إما انتمائك القبلي أو من خلال انتمائك الوطني. هذا يسمى هوية متوسطة، هوية أكبر من الهوية الفردية لكنها لا تزال تنتمي إلى فئات اجتماعية ليست كبيرة كبرًا فاحشًا، يعني ليست مجتمعًا كبيرًا جدًّا.

- المستوى الثالث: أحيانًا تصبح الهوية تعرف عن انتماء واسع كالانتماء للدين إذا كانت الأمة الدينية أمة واسعة، أمة لا تقتصر على بقعة جغرافية خاصة، لا تقتصر على وطن خاص. فإذًا هناك مستوى ثالث من الهوية نسميه (هوية الأمة) وأحيانًا يكون هوية هذه الأمة المائز الأساس لها هو عقيدة خاصة، انتماء ديني خاص كما نتحدث عن الأمة الإسلامية فنقول بأن للأمة الإسلامية هويتها الخاصة، هذه الهوية الخاصة التي تميزها عن سائر الأمم قوامها أمران: (الدين) الذي تنتمي إليه أن هذه المجتمعات كلها تنتمي إلى دين واحد وهو الإسلام، وهذا الدين يملي عليها معتقدات خاصة، ممارسات خاصة. فإذًا الهوية الإسلامية تمتاز بالدرجة الأولى بالانتماء الديني. الجانب الآخر الانتماء الذي يعود إلى عادات وتقاليد وثقافة تشترك فيها المجتمعات الإسلامية، يعني كأنما هذا الدين تمازج مع أعراف مختلفة ومتنوعه على مر العصور فشكل ثقافة خاصة تسمى الثقافة الإسلامية. هذه الثقافة الإسلامية أوسع في لونها من الجانب الديني، تتضمن جانبًا دينيًّا وتتضمن أيضًا عادات وتقاليد هي مستقاة في كثير من الأحيان من الدين. فإذًا حينما نقول بأن هناك هوية إسلامية، نريد أن نركز من خلال هذا العنوان على جانبين: الجانب الأول الانتماء للدين ولتعاليم الدين ولقيم الدين ولمبادئ الدين، والأمر الآخر الانتماء إلى العادات والتقاليد التي تستقى من الدين، يعني أيضًا لها ارتباط بالدين لكن أيضًا هي ذات طابع اجتماعي، ذات طابع جغرافي، لها لون من الألوان الجغرافية أو الاجتماعية الخاصة. ولذلك قد تجد أحيانًا اختلافًا بسيطًا في هذا الجانب بين المجتمعات الإسلامية التي يجمعها دين واحد. إذاً إلى هنا اتضح المقصود من الهوية، فنحن إذاً حينما نقول بأن هناك هوية ونريد أن نحافظ على هذه الهوية من خلال بيان مرجعيتها ومن خلال تنقية مرجعيتها، فنحن نريد من هذه الهوية ليس الهوية الفردية ولا الهوية التي عبرنا عنها بالهوية المتوسطة الناشئة عن انتماء قبلي أو انتماء جغرافي خاص، وإنما نتحدث عن هوية بمعناها الأوسع وهي هوية الانتماء لهذا الدين. إلى هنا نكون قد نقحنا المقصود من الهوية حينما نقول هويتنا والمرجعية المعرفية أو القيمية. علماء الاجتماع أيضًا يؤكدون على نقطة مهمة، كل علماء الاجتماع الذين تحدثوا عن الهوية الإسلامية أكدوا على أن هذه الهوية تستمد بقاءها من عنصرين اثنين، التفتوا إلى هذين العنصرين:

العنصر الأول: التاريخ، أمة بلا تاريخ فاقدة للهوية، كما يقول الدكتور نديم بيطار، هذا دكتور وعالم اجتماع تحدث كثيرًا عن مفهوم الهوية، يقول الهوية بلا تاريخ ليست هوية خصوصًا حينما نتحدث عن هوية جمعية، خصوصًا حينما نتحدث عن هوية أمة، خصوصًا حينما نتحدث عن هوية أمة إسلامية. الهوية الإسلامية لا يمكن أن تتشكل من دون تاريخ إسلامي، فإذا حضور التاريخ مهم جدًّا في تأكيد حالة الانتماء لهذه الأمة وحالة الانتماء لهذا الدين، التاريخ عنصر مهم ومغذٍّ أساس لهذه الهوية.

العنصر الثاني: القيم والمبادئ الإسلامية التي تؤمن بها هذه الأمة. من دون هذه القيم ومن دون هذه المبادئ لا يمكن للهوية أن تتشكل. وفي الحقيقة أن القيم والمبادئ الدينية هي الأساس الأول لتشكل هذه الهوية، لكن التاريخ أيضًا عنصر مهم في تعميق هذه المبادئ وهذه القيم. إذًا فهنا عنصران أساسيان يغذيان هذه الهوية.

النقطة التي تعدّ عاملًا مساعدًا لهذين الأمرين هي التنشئة، الأمة التي تنشئ أفرادها على تعزيز هذين العنصرين، تعزيز حالة الانتماء إلى الدين والقيم الدينية، تحافظ على هويتها، أما الأمة التي تتباعد عن قيمها وتتباعد عن المبادئ التي تؤمن بها سرعان ما تتفكك هويتها. إذًا فالتنشئة على المبادئ والقيم الإسلامية أمر مهم للحفاظ على الهوية الإسلامية، وأيضًا التنشئة على الجانب التاريخي، يعني عدم التنصل من التاريخ، عدم رمي التاريخ وراء ظهرك وتقول لا نحن أبناء اليوم، ما قيمة تاريخنا؟ تاريخ حاله رجعية حاله ماضوية. متى ما تشبثنا بتاريخنا فنحن لا نعيش واقعنا المعاصر، لا. علماء الاجتماع يؤكدون على أنك إذا أردت أن تحافظ على هويتك، الحفاظ على الجانب التاريخي أمر مهم. التنشئة المرتبطة بتعزيز القيم التاريخية والمواقف التاريخية والأحداث التاريخية أيضًا أمر مهم في الحفاظ على الهوية. ومن هنا يتشكل لنا من خلال هذا المحور أمران أساسيان:

- الأمر الأول: أننا عرفنا المقصود من الهوية.

- الأمر الثاني: أننا عرفنا أن الرافد الأساس الذي يحافظ على هذه الهوية هو الدين من جهة والتاريخ من جهة أخرى.

وفي الحسين وفي عاشوراء الحسين وفي إحياء أحداث الحسين ومن خلال مأتم الإمام الحسين سلام الله عليه نحن نركز على هذين العنصرين. نركز على القيم الدينية التي آمن بها الإمام الحسين سلام الله عليه وانطلق من خلالها، الإمام الحسين ضحى بنفسه وأراق دمه الطاهر من أجل هذه القيم، الإمام الحسين إنما قُتل من أجل الدين، والدين ليس عنوانًا، الدين عبارة عن قيم، عبارة عن مبادئ، عبارة عن أسس، فالإمام الحسين ضحى من أجل هذا الدين، إذًا فحينما نحتفل بأيام الإمام الحسين سلام الله عليه نحن نحيي القيم والمبادئ التي تحرك الحسين من أجلها. وأيضًا إحياء أيام الحسين إحياء للتاريخ، إحياء للواقعة، إحياء للحدث، إحياء لكل المفاصل والمراحل التأريخية التي عاشها الإمام الحسين سلام الله عليه انطلاقًا من حركته حينما خرج من المدينة المنورة وإلى ما وراء هذا الانطلاق، ما هو التاريخ الذي عاشه الإمام الحسين سلام الله عليه والذي قدم لانطلاقته من المدينة المنورة من أجل مشروع الشهادة، وأيضًا لتاريخ ما بعد الشهادة والآثار التي تركها الإمام الحسين سلام الله عليه بشهادته.

فإذًا بإحياء أيام الإمام الحسين إحياء للتاريخ، تاريخ شهادة الإمام الحسين وتاريخ ما قبل شهادة الإمام الحسين وتاريخ ما بعد شهادة الإمام الحسين سلام الله عليه. إذًا فأيام الإمام الحسين عليه السلام تعزز وتحيي هذين الجانبين، الجانب الديني من جهة والجانب التاريخي من جهة أخرى. وواحدة من الأغراض الأساسية التي تعمقها هذه الإحياءات لحركة الإمام الحسين هي الحفاظ على الهوية، تعميق حالة الهوية، لأننا كما قلنا بأن الهوية تستقي منابعها وروافدها من خلال الدين ومن خلال التاريخ. وأيام الإمام الحسين سلام الله عليه تنشئنا وتغذي عندنا كلا الجانبين. هذا هو المحور الأول.

 

المحور الثاني

يريد أن يتحدث عن الركيزة الثانية: المرجعية. نحن أشرنا إلى أن الإمام الحسين سلام الله عليه في هذا النص أكد على أن له مرجعية ينطلق منها في حركته ومشروعه، ومرجعيته هي سيرة جده رسول الله وسيرة أبيه أمير المؤمنين سلام الله عليه. إذًا فباختصار حتى لا أسهب في هذا المحور لأن أمامي محور أهم وهو المحور الثالث، المقصود من المرجعية التأكيد على حالة الانتماء. المرجعية تتضمن معنى الرجوع، لماذا نقول مرجعية؟ لأن هناك رجوع، ولذلك تشوف مثلًا في الفقه نحن نقول رجع فلان إلى المجتهد الفلاني لأنه يرجع إليه في معرفة أحكامه، فالمرجعية دائمًا تتضمن حالة رجوع، حالة نظر، يعني تتحرك إلى الأمام وعندك عين تنظر إلى الأسس التي تنطلق منها حركتك. ليست حركة عشوائية، حركتك ليست حركة من دون إطار من دون محددات، إذًا فالمقصود من المرجعية يعني الحالة التي تجعل حركتي مؤطرة، مؤطرة بحدود، مؤطرة بأهداف، مؤطرة بغايات؛ إذًا من دون المرجعية تصبح التنشئة غير واضحة المعالم، إذًا فتحديد المرجعية يسهِم بشكل واضح في تحديد منابع التلقي ومنابع التغذية للحفاظ على الهوية. ولا أريد أن أسهب أكثر في هذا المحور حتى لا يأخذني الوقت وأنا عندي محور أهم وهو المحور الثالث. إذًا فالمقصود من الركيزة الثانية وهي ركيزة المرجعية أن الإنسان إذا أراد أن يحافظ على هويته يحتاج إلى التأكيد على مرجعياته في الحفاظ على هذه الهوية.

 

المحور الثالث

قلنا بأن هناك ركائز ثلاث استللناها من قول الإمام الحسين سلام الله عليه:

- الركيزة الأولى: الهوية، وقد تحدثنا عنها في المحور الأول

- الركيزة الثانية: المرجعية، الإمام الحسين تحرك في مشروعه وعنده مرجعية وتحدثنا عنها بشكل مختصر جدًّا في المحور الثاني

- الركيزة الثالثة: الإصلاح. قلنا بأن غرض الإمام الحسين سلام الله عليه من السير بسيرة جده رسول الله وأبيه أمير المؤمنين أن يصلح أحوال هذه الأمة، وأشرنا إلى أن سر حركة الإمام الحسين سلام الله عليه أنه رأى أن هوية الأمة عرضة للاختطاف في أيام يزيد ابن معاوية، أصبحت الأمة الإسلامية انتمائها إلى الدين وانتمائها إلى مشروع الرسول صلى الله عليه وآله انتماء صوري فقط، يرفع شعار الإسلام لكن الممارسات التي أشاعها يزيد بن معاوية لا تمت إلى الإسلام بأي صلة. وهذا ما بيّنه الإمام الحسين سلام الله عليه حينما تحدث عن يزيد قال: "يزيد شارب للخمور معلن بالفسق والفجور، لاعب بالطنبور، قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله". إذًا يزيد بن معاوية كان يمثل رمزًا للحالة التي تعيشها الأمة في عصره، فكان يزيد الذي يقدم نفسه على أنه خليفة للمسلمين يجاهر بهذه الأمور، فرأى الإمام الحسين سلام الله عليه أن هوية هذه الأمة عرضة للاختطاف، وبالتالي بادر بحركته ونهضته والوقوف في وجه يزيد بن معاوية من أجل أن ينطلق في مشروعه الإصلاحي للحفاظ على هوية هذه الأمة. إذًا فالإمام الحسين عنده مشروع إصلاح، غرض هذا المشروع الحفاظ على هوية الأمة التي كانت عرضة للاختطاف في أيام يزيد بن معاوية، وفي الواقع إنّ تعرض هوية الأمة للاختطاف بدأ من السنوات الأخيرة لأيام معاوية، فإذًا مشروع يزيد كان امتدادًا لمشروع معاوية. من هنا الإمام الحسين سلام الله عليه مشروعه الإصلاحي هو الحفاظ على هوية الأمة.

نحن الذين ننتمي إلى الإمام الحسين ونجتمع في كل عام من أجل إحياء مشروع الإمام الحسين سلام الله عليه، لابد أن يكون لنا أيضًا مشروع، مشروع نعزز من خلاله مشروع الإمام الحسين سلام الله عليه. إذا كان الإمام الحسين مشروعه هو مشروع إصلاحي كما صرح هو في وصيته "وإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا ظالـمًا ولا مفسدًا وإنما خرجت لطلب الإصلاح"؛ فإذا كان للإمام الحسين مشروع إصلاح، نحن أتباع الإمام الحسين ومن نجتمع في كل عام من أجل الإمام الحسين يجب أن يكون لدينا مشروع إصلاح، وإلا أصبح حضورنا وإحياؤنا لمآتم الإمام الحسين سلام الله عليه بعيدًا عن الهدف الذي تحرك لأجله الإمام الحسين. حتى يصبح تطابق بين مشروعنا ومشروع الإمام الحسين، يجب أن يكون لدينا أيضًا مشروع إصلاحي يحاكي مشروع الإمام الحسين سلام الله عليه.

ومن هنا نقول ما هو مشروعنا حينما نجتمع في أيام عاشوراء من أجل إحياء ذكرى الإمام الحسين وإحياء شهادة الإمام الحسين سلام الله عليه؟ المشروع الأساس الذي يمثل حالة التجلي لمشروع الإمام الحسين الإصلاحي هو شعائر الإمام الحسين، الشعائر الحسينية هي مشروعنا، الشعائر الحسينية هي وظيفتنا في أيام عاشوراء، فنحن من خلال الشعائر الحسينية نتمثل مشروع الإمام الحسين وبقدر ما تكون الشعائر الحسينية ناجحة في إحياء حالة الإصلاح الحسيني، بقدر ما يحصل التطابق بيننا وبين مشروعنا ومشروع الإمام الحسين سلام الله عليه. وبعبارة واضحة، الشعائر الحسينية هي مرآة لحركة الإمام الحسين سلام الله عليه، فمتى ما كانت هذه الشعائر تؤدي دورًا إصلاحيًّا في هذه الأمة، فمعنى ذلك أن هناك تطابقًا بين مشروعنا ومشروع الإمام الحسين سلام الله عليه. ومتى ما انحرفت هذه الشعائر عن طريقها الإصلاحي وما باتت تؤدي الهدف الإصلاحي الذي لأجله تحرك الإمام الحسين سلام الله عليه، وبدأ يحصل اختلال وافتراق بين مشروعنا ومشروع الإمام الحسين، من هنا يجب أن نؤكد على هذه الحالة وعلى هذا المعنى، أن شعائر الإمام الحسين التي يمارسها الشيعة في كل عام إنما هي تجلٍّ لمشروع الإمام الحسين الإصلاحي.

ومن هنا تعالوا نقيّم هذه الشعائر وندخل قليلًا في البنية الأساسية لهذه الشعائر لنؤكد على كلا الأمرين، أن قضية الشعائر تجلٍّ لمشروع الإمام الحسين الإصلاحي، ولنعطِ أيضًا تقييمًا سريعًا لهذه الشعائر. لا ريب أن هذه الشعائر بشكل عام تحقق في كل عام نجاحًا باهرًا قل نظيره على المستوى الإسلامي العام، بل وعلى المستوى الإنساني العام، قل أن تجد شعائر تجمع ملايين البشر طوال ليالي المناسبة بحماس وبزخم ومن دون ملل ومن دون تكاسل كما يحصل في أيام عاشوراء. فينبغي أن نكون أولًا إيجابيين في تقييمنا للحالة الشعائرية، الحالة الشعائرية لا ريب أن مؤشرات النجاح فيها مؤشرات باهرة. اليوم نحن بعد 1300 ويمكن 80 سنة أو أكثر من شهادة الإمام الحسين سلام الله عليه والشعائر الحسينية لا تزال تمارس دورًا حراريًّا واضحًا، فتجمع ملايين الناس في موسم المحرم في كل عام، وهذا لا ريب أنه نجاح باهر. وأنا هنا لا أتحدث عن صنف خاص من الشعائر، لا، الشعائر لا بعنوانها العام، سواء الشعائر المنصوص عليها الواردة في الروايات كحالة البكاء المروي عن أئمتنا سلام الله عليهم "من بكى على الحسين فخرج من عينه بمقدار جناح الذبابة دمعة على الحسين غفرت ذنوبه"، التأكيد على حالة البكاء، التأكيد على حالة الإبكاء "من بكى على الحسين فله الجنة، من أبكى واحدًا من أبكى خمسين". روايات عديدة تتحدث عن حالة البكاء والإبكاء، حالة الجزع، إظهار الجزع على مصاب سيد الشهداء سلام الله عليه، هذه شعيرة. أيضًا إحياء أمرهم وهذا من أهم الشعائر، الإمام يقول: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا". الإمام الباقر يخاطب بعض أصحابه: "أتجلسون وتتحدثون؟ قالوا بلى يا ابن رسول الله، قال: أما والله إني أحب تلك المجالس، أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا".

هذا أيضًا من الشعائر، الاجتماع في مجالس ذكر الحسين وذكر مصاب الحسين وذكر تراث أهل البيت سلام الله عليهم، هذا من الشعائر الذي نصت الروايات عليه. حالة الندبة، الإمام الصادق سلام الله عليه يسأل بعض الأصحاب، يقول له: "أخبرني عما يحصل عند قبر الحسين سلام الله عليه". قال: إني مضيت إلى قبر الحسين في الزيارة فما رأيت إلا من باكٍ يبكي وينادي ويندب، ولاطم يلطم وقاص يقص، فالإمام سلام الله عليه فرح لهذا المنظر وقال: "الحمد لله الذي جعل الناس يندبون لأمرنا ويبكون لمصابنا". إذًا فكل هذا المزيج العام من المظاهر هي في الحقيقة شعائر الحسين سلام الله عليه، وشعائر الإمام الحسين هي انعكاس كما قلنا لمشروع الحسين الإصلاحي الذي تحرك والذي انتهى فيه بشهادته. التماهي مع مشروع الإمام الحسين الإصلاحي يتمثل في الحالة الشعائرية، ما دامت تحقق زخمًا وحضورًا وحماسًا فلا ريب أن هذا مؤشر نجاح باهر لهذه الشعائر، وبالتالي تعكس أن مشروع الإصلاح للإمام الحسين لا يزال حاضرًا ولا يزال متجليًا في هذه الأمة، أو على الأقل في هذه الثلة التي تؤكد انتماءها لمدرسة الحسين سلام الله عليه.

الأمر الآخر، أن هناك نظريات تبين البنية الحقيقية للشعيرة، يعني الشعائر كيف تتشكل في وجدان الناس. وأنا في الحقيقة كان مرادي أن أمرّ على هذه النظريات بشكل مفصل، لكن يظهر أن الوقت لا يسع لذلك، أمر على نظرية واحدة لتعميق البنية الشعائرية ولبيان أن هذا الحضور لمجالس سيد الشهداء وهذا التفاعل السنوي مع ذكرى الحسين وذكرى أحداث كربلاء، هذا في الحقيقة أمر يتحرك في داخلك، هذا أمر أصبح جزءًا من هويتك، أصبح جزءًا من شخصيتك، أصبح جزءًا من تكوينك، لا يمكنك أن تحيد عنه، هذا أصبح كما يقول علماء الاجتماع وعلماء النفس يرتبط بعقلك الباطن بحيث أنت لا شعوريًّا بمجرد أن يهل هلال شهر المحرم تجد هناك حشد كبير من المشاعر الداخلية تدفعك وتقودك إلى مآتم سيد الشهداء سلام الله عليه.

توجد عدة نظريات لتحليل حقيقة الشعائر، أنا في العام الفائت تعرضت لهذه النظريات، ولكن أقتصر على واحدة لنؤكد من خلالها أن البنية الشعائرية عند شيعة أهل البيت بنية عميقة. هذه النظرية يطرحها أحد المفكرين في كتابه "تراجيديا كربلاء"، دكتور ومفكر عراقي، يتحدث عن أن حقيقة الشعائر هي في الحقيقة ترتبط بما يعبر عن "بسوسيولوجيا الألم والأمل". شلون؟ يقول طبيعة التكوين الاجتماعي لشيعة أهل البيت سلام الله عليهم أصبحت ترتبط بشعائر الحسين سلام الله عليه، ويبين هذا المعنى بنقاط متعددة، أنا أشير إليها باختصار. يقول الشيعة على مر التاريخ عاشوا حالة من الاضطهاد وحالة من محاولة الإقصاء، أيام الأمويين، أيام العباسيين، مورست شتى أنواع الاضطهاد والتنكيل بأهل البيت من جهة وبأتباعهم وشيعتهم من جهة أخرى. اقرأوا تاريخ الأمويين من أيام معاوية وأيام زياد ابن أبيه، كيف صنع مع شيعة علي في الكوفة، وكيف أشيع على المنابر سب أمير المؤمنين سلام الله عليه، وكيف نكل بالشيعة الذين يعلنون ولائهم وانتمائهم لعلي بن أبي طالب سلام الله عليه. إذاً عاشوا حالة من الاضطهاد منذ أيام ومنذ تاريخ الإسلام الأولى، من أيام معاوية إلى الدولة الأموية والدولة المروانية والدولة العباسية، والشيعة على مر التاريخ يعيشون حالة من الاضطهاد والإقصاء. يقول هذا واضح في تاريخ التشيع.

الأمر الآخر، الشيعة عندهم أمل أن هناك مصلحًا يخرج في آخر الزمان ويشيع مشروعه، وبالتالي يشيع الرؤية التي يؤمن أو تؤمن بها هذه المدرسة التي يؤمن بها الشيعة. الإمام المهدي سلام الله عليه هو الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، فإذًا هو يتصل بشكل مباشر بهذه المدرسة، وبالتالي يقول هذا المفكر بأن الشيعة عاشوا تاريخًا عميقًا من الألم، ولكن على مر تاريخ هذا الألم هم يعيشون الأمل. فإذا هم بين ألم وأمل، يقول وقد أثبتت الدراسات الاجتماعية، وهو يؤكد على نظرية لعالم اجتماع ألماني اسمه ماكس فيبر، بأن الفئات الدينية التي عاشت حالة من الاضطهاد لا يمكن أن تتجاهل حالة الاضطهاد التي عاشتها. ولذلك يقول هذا عالم الاجتماع، أنت لاحظ كل الأقليات الدينية التي تنتمي إلى سائر الأديان، دائمًا تعبر من خلال طقوسها ومن خلال الشعائر الجمعية التي يجتمع أتباع هذا الاتجاه أو هذه العقيدة بين فينة وأخرى من أجل إبراز معتقدهم. يقول هذه الطقوس لابد أن تتضمن عند الأقليات التي عاشت حالة اضطهاد تاريخية، لابد يقول أن ترى أن طقوسها وشعائرها تبرز من خلالها حالة هذا الاضطهاد الذي مرت به. ومن هنا يقول صاحب هذه النظرية، إن شعائر الإمام الحسين سلام الله عليه تؤكد على جنبتين مهمتين:

- الجنبة الأولى: التأكيد على حالة الاضطهاد التي عاشها الشيعة والتي تعدّ قضية الإمام الحسين سلام الله عليه أقصى وأعلى درجات الاضطهاد التاريخي التي مورست في حق أهل البيت سلام الله عليهم. عندما قتل الإمام الحسين وأهل بيته وأريق دمه الطاهر على أرض كربلاء، وما أبقى أعداء الحسين من أبناء الحسين صغيرًا ولا كبيرًا. فهذه الممارسة الشنيعة التي مورست في حق الإمام الحسين تمثل أقصى وأعلى مشهد تاريخي لحالة الاضطهاد التي عاشها شيعة أهل البيت وعاشها أئمتهم الذين يتأسون بهم. ومن هنا فالاحتفاء بذكرى عاشوراء في كل عام هو تعزيز لهذا الشعور بالاضطهاد التاريخي الذي عاشه شيعة أهل البيت. يقول وهذا بمثابة تسجيل احتجاج، هكذا يقول هذا المفكر وتؤكده كما قلنا نظريات علماء الاجتماع، أن شيعة أهل البيت حينما يحييون ذكرى عاشوراء على مدى ألف سنة وزيادة، إنما هو تكرار لإظهار مظلومية أهل البيت سلام الله عليهم، ولإظهار مظلومية أتباعهم. هذه المظلومية التاريخية التي عاشها أهل البيت وعاشها أتباعهم.

- الجنبة الثانية: أنه تعزيز لحالة الأمل، أن قتل الإمام الحسين سلام الله عليه لابد أن يتعقبه أخذ بدم الحسين سلام الله عليه، بثار الإمام الحسين. وهذا ما يجعل قضية كربلاء ترتبط بقضية المهدي سلام الله عليه، فبين الحسين وبين المهدي بين الألم وبين الأمل. إذًا عاشوراء الإمام الحسين حينما نجددها في كل عام، هي تريد أن تمازج بين الألم والأمل، تريد أن تقول بأن مشروع الإمام الحسين سيبقى مشروعًا حيًّا إلى أن يتصل بمشروع الإمام المهدي سلام الله عليه، وبالتالي يتحقق الأمل المنشود ويؤخذ بدم الإمام الحسين سلام الله عليه.

لكن خلال الألم والأمل لابد أن نحافظ على حالة الإصلاح، حالة الإصلاح التي أوجدها الإمام الحسين سلام الله عليه بشهادته قوَّمت الأمة، قوَّمت اعوجاج الأمة. فالثلة التي تنتمي إلى مدرسة الإمام الحسين سلام الله عليه يجب أن توظف هذه الشعائر لمعالجة أي عوج وأي ابتعاد عن أهداف الإمام الحسين سلام الله عليه. مجتمع المؤمنين، مجتمع المسلمين بشكل عام فيه الكثير من أمارات الانحراف. شيعة أهل البيت ليست ثلة معصومة، عندها بعض السلوكيات عندها بعض المظاهر التي في بعض الأحيان لا تمثل مدرسة أهل البيت ولا تمثل قيم الحسين سلام الله عليه، مظاهر اجتماعية كثيرة. في عاشوراء يجب أن تمارس شعائر الإمام الحسين حالة إصلاحية على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة. فإذا كان هناك فرد يشعر أنه شطح بعيدًا، غرق في المعصية بهفوة هنا بابتعاد هناك بانحراف هنا بذنب هناك، يجب أن يتخذ من محافل الإمام الحسين سلام الله عليه موردًا عذبًا لإصلاح نفسه. وهكذا أيضًا المجتمع الإيماني، إذا رأى بأن هناك ممارسات تبعده عن الحسين وأهداف الحسين، ينبغي أن يتخذ من عاشوراء موسمًا لإصلاح هذا المجتمع، خصوصًا المجتمع أو الثلة التي تقدم نفسها على أنها أكثر صلة بالحسين سلام الله. هذه الثلة المعبر عنها بخدام الإمام الحسين سلام الله عليه. خادم الإمام الحسين يجب أن يجعل أهداف الإمام الحسين نصب عينيه، هذا الرادود وهذا الخطيب وكل من يمارس دورًا وشعيرة مباشرة باسم الإمام الحسين سلام الله عليه، لابد أن تكون هذه الشعائر التي تمارسها مظهر من مظاهر الحسين سلام الله عليه.

ومن هنا يجب أن تكون هناك رقابة ذاتية لكل شخص يصنف نفسه على أنه خادم للحسين، ولكل شخص يرفع اسم الإمام الحسين على أنه يريد أن يصلح في الأمة باسم الإمام الحسين سلام الله عليه. قصائدك، نوحياتك يجب أن تزنها بميزان الإمام الحسين سلام الله عليه، كتابتك مقالك إذا أردت أن تقدمه في أيام عاشوراء باسم الإمام الحسين يجب أن تزنه بموازين الإمام الحسين، هل هو يقرب الناس إلى الحسين أو يبعدهم عن الإمام الحسين؟ النوحيه والإصدار الذي في كل سنة تصدره في أيام عاشوراء باسم الإمام الحسين، شوف هل يتناسب مع أهداف الحسين أم فقط التركيز فيه على الظاهرة الصوتية، الطور الجميل، والأداء الذي يطرب، والأداء الذي يشوق الناس، والأداء الذي يبهر الناس، لكن المضامين ليست بالضرورة أن تكون مضامين تلتقي مع الإمام الحسين. هذا يكشف عن أن ما تقدمه ليس متماهيًا مع مشروع الإمام الحسين، يجب أن تزن كل ما تطرحه باسم الإمام الحسين. المضامين التي تضمنها لهذه القصيدة، المضامين التي تضمنها لهذه النوحيه، هل هي تلتقي مع أهداف الإمام الحسين؟ هل تحمل رسالة أم أنها مجرد ظاهرة صوتية؟

إذًا مهم جدًّا أن نزن شعائرنا وأن نزن كل صغيرة وكبيرة نقدمها في أيام عاشوراء باسم الإمام الحسين، هل تتماهى مع مشروع الإصلاح الحسيني أم لا، لأن الشعائر الحسينية كما قلنا هي تجلٍّ وانعكاس ومرآة لمشروع الإمام الحسين سلام الله عليه. ولذلك رأينا أهل البيت حريصين حينما يقيمون المأتم على الإمام الحسين سلام الله عليه نجدهم حريصين على هذا المعنى. الإمام الكاظم يتحدث عن أبيه الإمام الصادق سلام الله عليه، يقول: "كان أبي إذا دخل عليه شهر المحرم لا يرى ضاحكًا أبدًا"، يعني يظهر الحزن، يظهر الألم، يذكر بمصيبة جده الحسين، يذكر بظلامة جده الحسين، "لا يرى ضاحكًا أبدًا، فإذا كان يوم العاشر كان يوم حزنه وبكائه على الحسين". كان الشعراء يدخلون على الإمام الصادق سلام الله عليه فيأمرهم بإنشاد الشعر في جده الحسين. يدخل أبو هارون المكفوف، فقال له: يا أبا هارون هل تحفظ شيئًا من الشعر في جدي الحسين؟ قال بلى. قال: إذا أنشدني شعرًا في الحسين، يقول يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه‌ السلام. قال: فأنشدته فبكى، فقال: أنشدني كما تنشدون ـ يعني بالرقة ـ قال: فأنشدته:

امرر على جدث الحسين

فقل لأعظمه الزكية

قال: فبكى، ثم قال: زدني، قال: فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى، وسمعت البكاء من خلف الستر، قال: فلما فرغت قال لي: يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى عشرًا كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى خمسة كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى واحدًا كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين عليه ‌السلام عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله، ولم يرض له بدون الجنة.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد