الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ إسماعيل المشاجرة: عاشوراء ومرجعية التاریخ

المرجع لله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ورد في زيارة الناحية المنسوبة للإمام المهدي عليه السلام في زيارة جده الحسين: "السلام على المنحور في الورى، السلام على من دفنه أهل القرى، السلام على المقطوع الوتين، السلام على المحامي بلا معين". صدق سيدنا ومولانا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله.

هذا المقطع من هذه الزيارة يتضمن تفصيلاً يمكن من خلاله إعطاء بعض المعلومات التاريخية المرتبطة بواقعة كربلاء ومقتل الإمام الحسين سلام الله عليه. هنا يبين الإمام أن الذي دفن الإمام الحسين سلام الله عليه بمعونة الإمام السجاد هم أهل القرى، هذه معلومة "معلومة تاريخية". أيضًا يبين الإمام سلام الله عليه طريقة القتل الشنيعة التي تعرض لها الإمام الحسين. "السلام على المنحور" يعني نحر الإمام الحسين سلام الله عليه نحرًا. "السلام على مقطوع الوتين" تأكيد على شناعة وفداحة الجريمة التي ارتكبت في حق الإمام الحسين سلام الله عليه. "السلام على المحامي بلا معين" كانت عند الإمام الحسين سلام الله عليه مهمة المحاماة عن نسائه وعن أهل بيته وكان المعين له قليل. ومن هنا يمكن أن نعبر من خلال هذه اللفتة الواردة في هذه الزيارة المنسوبة للإمام المهدي سلام الله عليه، يمكن أن نعتبر أن الزيارات التي يزار بها الإمام مصدر تاريخي مهم لمعرفة بعض الأحداث وبعض الملابسات. وهذا في الحقيقة يوقفنا على تنوع المصادر التاريخية التي يمكن من خلالها استقاء المعلومات والمعارف حول ما جرى يوم عاشوراء.

 

انطلاقًا من هذا التنويه ومن هذه التهيئة، تعالوا نتحدث عن عاشوراء ومرجعية التأريخ. كيف يشكل التاريخ مرجعية ثرية ومصدرًا مهمًّا لرفد معرفتنا بالأحداث التاريخية التي جرت في كربلاء وفي يوم عاشوراء على وجه التحديد. إذًا فحديثنا حول عاشوراء ومرجعية التاريخ، وسينشق هذا الحديث إلى ثلاثة شقوق أو ثلاثة محاور:

- في المحور الأول: نتحدث فيه عن تنوع المصادر التاريخية التي يمكن من خلالها استقاء المعلومات والأحداث التاريخية.

- في المحور الثاني: نتحدث ضمن إطلالة على أهم المصادر التي يمكن الاعتماد عليها حينما نريد أن نستقي معارف تاريخية ومعلومات تاريخية حول واقعة كربلاء.

- وفي المحور الثالث: نقف مع بعض المحاولات والمناهج التي مورست من أجل غربلة الروايات والنقولات التاريخية الكثيرة والوافرة حول واقعة كربلاء.

فتعالوا إلى المحور الأول. مصدرية التاريخ أو كيف يمكن الاستعانة بالتاريخ وما هي أهم المصادر والمنابع التي يمكن من خلالها استقاء المعلومات التاريخية. في العصر القديم كان العلم الوحيد الذي يمكن من خلاله استقاء المعارف التاريخية هو علم التاريخ نفسه، لكن في العصور المتأخرة ظهرت علوم مرادفة كثيرة يمكن اعتبارها مصادر ثرية ومهمة لمعرفة الأحداث التاريخية. فبمعية علم التاريخ ظهر مؤخرًا ما يعرف بعلم الأنثروبولوجيا، علوم الأناسة أو علم الإنسان. يعنى هذا العلم بدراسة حياة الإنسان البدائي والمتطور إلى الإنسان الحديث، فيدرس كل الحقب والأحوال والشؤون التي مر بها الإنسان منذ أن وجد على هذه البسيطة. وهذا علم واسع في العصور المتأخرة تفرع إلى فروع عديدة، أنثروبولوجيا طبيعية، أنثروبولوجيا ثقافية وحضارية، أنثروبولوجيا حضارية وكلها فروع تهتم بدراسة حياة الإنسان. علم التاريخ اليوم أصبح يستقي من العلوم الأنثروبولوجية، يعني ما دام هناك متخصصون يبحثون حياة الإنسان وتطور النوع الإنساني فلا ريب أن هذا يعتبر رافدًا مهمًّا لفهم كثير من الأحداث التاريخية التي تمر بها أي أمة من الأمم. إذًا علم الأنثروبولوجيا يرفدنا كثيرًا في معرفة الوقائع التاريخية.

علم آخر يعرف بعلم الآثار أو بالاصطلاح اللاتيني (الأركيولوجيا) أيضًا هذا علم يدرس الآثار التي ترتبط بحياة البشر بمختلف مجتمعاتهم وأممهم وانتماءاتهم. أي مركز أثري، حاضرة أثرية يهتم بها علم الآثار، يعمل على التنقيب، يعمل على الدراسة، يعمل على التحليل. إذًا هذا علم مختلف عن علم الأنثروبولوجيا، علم الأنثروبولوجيا يتابع شؤون تطور حياة الإنسان، بينما علم الآثار يختص بخصوص الآثار.

 

أيضًا هناك علم المخطوطات، هذا علم أيضًا ازدهر مؤخرًا وكل ما يرتبط بالمخطوطة والمدونات وأصبحت أيضًا هذه العلوم، علم المخطوطات، يمد علم التاريخ بكثير من الأحداث والوقائع. وأيضًا عندنا تطور كبير طرأ على علم التاريخ في العصور المتأخرة. التفتوا إلى هذه النقطة المهمة جدًّا: علم التاريخ كان إلى منتصف القرن التاسع عشر يهتم فقط بالمدونات. يعني أي عالم تاريخ إذا أراد أن يبحث قضية تاريخية يبحث عن الكتب المدونة حول هذه الأحداث التاريخية. تريد تدرس التاريخ الإسلامي تبحث عن المصادر والكتابات التاريخية، كتب السير، كتب التاريخ التي كتبت ودونت حول تاريخ المسلمين. لكن منذ منتصف القرن التاسع عشر ظهرت مدارس تاريخية جديدة أثرت البحث التاريخي بإضافات مهمة. ظهرت أولاً المدرسة الوضعية أو المدرسة الوضعانية في فرنسا وأطراف ألمانيا، ثم في الثلث الثاني من القرن العشرين ظهرت مدرسة تعرف بمدرسة الحوليات الفرنسية أيضًا مدرسة تاريخية مهمة. ما الذي أضافته هاتان المدرستان وبالتحديد مدرسة الحوليات الفرنسية؟ أضافت نقطة جدًّا مهمة وأثرت تأثير بالغ على الدراسات التاريخية.

ما هي هذه الإضافة؟ إنها وسعت من مفهوم الوثيقة، فقالت لا يمكن اعتبار الوثائق هي خصوص المدونات الورقية التي نعثر بها، مخطوطة من هنا مخطوطة من هناك، فنقول هذه وثيقة تاريخية يمكن الاعتماد عليها لمعرفة وقائع وأحداث تاريخية. نعم، هذا أهم أصناف الوثائق، لكن هناك صنف آخر مهم من الوثائق وهو كل الآثار التي تركها الأقدمون. يعني مثلاً إذا أردنا أن ندرس تاريخ المسلمين لا ينبغي أن نكتفي فقط بالمخطوطات والمدونات التي نعثر عليها كوثائق مكتوبة، لا، بل ينبغي أن نبحث عن كل شيء، آثار البيوت، المقابر، طريقة العيش، المنطقة التي يعيش فيها هذا المجتمع أو هذه البقعة الإسلامية التي هي منطقة جغرافية، منطقة جبلية. نعتني بكل صغيرة وكبيرة ترتبط بطبيعة العيش، بل ندرس حتى كيفية البناء، اللبنات والأحجار التي تستعمل في بناء البيوت الإسلامية. إذا رجعنا إلى العصر العباسي أو رجعنا إلى العصر الأموي، وقفنا على آثار في العراق، في الشام، في جزيرة العرب لمباني بُنيت أيام الحضارة الإسلامية أيام العصر العباسي أو العصر الأموي، ينبغي أن نعتبر هذه المباني وثائق. وهنا بدأ يتزاوج علم الآثار مع علم التاريخ ويوظف علم التاريخ الوثائق وكل الآثار يعتبرها وثائق تاريخية ينبغي دراستها. وبالتالي ستصبح الدراسة المرتبطة بالآثار وبالوثائق دراسة ثرية.

 

أعطيك بعض الأمثلة: كيف تؤثر الوثائق التي يعثر عليها في معرفة أحداث تاريخية مهمة؟ أعطيك مثالًا إسلاميًّا عامًّا، ثم أعطيك مثالًا يرتبط بمدرسة أهل البيت سلام الله عليهم. كلنا سمع قبل عدة سنوات، عام 2015م، عن مخطوطة مصحف جامعة برمنغهام. هذه مخطوطة تتكون من أربع أوراق. جزء من هذه الأوراق يتضمن سورة الكهف، وجزء منها يتضمن آيات من سورة طه، وجزء يتضمن آيات من سورة مريم. هذه المخطوطة كانت موجودة في متحف مكتبة برمنغهام منذ أكثر من 100 سنة. أهداها لهذه الجامعة قس عراقي كلداني كان مولود في الموصل وعثر على مجموعة من الوثائق، ثلاثة آلاف، أعطاها للإنجليز، وشوفوا كيف أحيانًا نكون سخيين بالتضحية بتراثنا. أعطاهم ثلاثة آلاف وثيقة، فاحتفظ بها البريطانيون في متاحفهم وفي جامعاتهم. من ضمن هذه الوثائق وثيقة بقيت مغفول عنها أكثر من 100 سنة إلى أن في عام 2015م تصدت باحثة إيطالية بمعية أيضًا فريق من جامعة برمنغهام إلى دراسة هذه المخطوطة واستعملوا تقنيات تعرف بتقنية الكربون المشع، تحدد تاريخ وعمر هذه الوثيقة، يعني هذه الورقة وهذا الحبر المكتوب على هذه الورقة يمكن معرفة عمره، يعني كم سنة مرت عليه منذ حين أن كتب على هذه الوثيقة. فوجدوا أن عمر هذه الوثيقة يزيد على 1370 سنة، ولك أن تتصور، نحن في عام 1446، قبل عشر سنوات أو قبل تسع سنوات، ونحن الآن 1446، شيل تسع سنوات يعني 1437، حينما نرفع منها 1370 سنة، فنعود إلى فترة متاخمة لعصر النبوة، يعني قريبين من عصر النبي صلى الله عليه وآله أو عصر الخلفاء من بعده. إذًا أصبحت هذه الوثيقة وثيقة مهمة جدًّا في كشف تفاصيل تاريخية وعقائدية بالغة الحساسية والأهمية، لأن هذا النص المدون مادام يعود إلى عصر النبي أو العصر الذي بعده في فترة قريبة جدًّا وبالتحديد بعضهم حصرها في عهد أمير المؤمنين سلام الله عليه، يعني سنة 35 أو 36 للهجرة.

فهذا يعني أن هذا المصحف كتب في أيام أمير المؤمنين سلام الله عليه أو في عصر قريب منه. وبالتالي لاحظوا الأهمية البالغة لهذا الكشف حينما نجد أن هناك تطابق تام بين النص القرآني الموجود في هذه الوثيقة. صحيح هي أربع أوراق، لكن أربع أوراق أخذت بشكل عشوائي، ورقة من سورة الكهف، جزء من سورة مريم، جزء من سورة طه. فحينما نجد أن نص الآيات القرآنية متطابق تمامًا مع نص القرآن الذي وصل إلينا، هذا يبرهن على ماذا؟ يبرهن على أن القرآن لم يتعرض لأي تحريف، لم يتعرض لأي زيادة أو نقص، بل النص المكتوب والمدون في عصر الخلفاء وصل إلينا. وهذا الدليل جدًّا مهم ويضاف إلى الأدلة التي نقيمها من أجل إثبات عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف. إذًا لاحظوا المخطوطات والوثائق تلعب دورًا مهمًّا جدًّا في كشف تفاصيل تاريخية بل وأحيانًا تكشف تفاصيل عقدية. هذا مثال أول.

 

المثال الثاني نأخذه من مدرسة أهل البيت من سيرة الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. هناك خلاف بين المؤرخين علماء الإمامية حينما يكتبون عن سيرة الإمام الرضا سلام الله عليه وبالتحديد عن شهادة الإمام الرضا، سنة وفاة الإمام الرضا، يختلفون كثيرًا في تحديد سنة الوفاة. دعك من اليوم الذي توفي فيه الإمام، هل هو 17 صفر أو آخر صفر، لكن هناك خلاف أيضًا في سنة الوفاة، هل الإمام الرضا توفي سنة 202 للهجرة أو سنة 203 للهجرة كما يذهب الشيخ المفيد في الإرشاد فيردد وفاة الإمام الرضا بين سنة 202 وثلاثة أم أن الإمام الرضا استشهد سنة 206 للهجرة كما ذكر الشيخ الكليني في ترديد بين 202 و203 و206. إذًا هناك حيرة تاريخية عند علمائنا من أجل تحديد سنة وفاة الإمام الرضا سلام الله عليه بدقة. قبل سنوات عُثر على مسكوكة لعملة ذهبية، عملة معدنية من الذهب، تعود إلى أيام خلافة المأمون العباسي وسكّ عليها اسم الإمام الرضا سلام الله عليه وأرخت هذه العملة بسنة 205 للهجرة. من هنا اعتبر بعض المحققين أن هذه السكة، هذه العملة، هذه الوثيقة التاريخية تعتبر وثيقة تعين جدًّا على الرأي الذي ذكره الشيخ الكليني من أن وفاة الإمام الرضا قد تمتد إلى سنة 206 للهجرة. إذًا لاحظوا الوثائق التاريخية تلعب دورًا كبيرًا في كشف الأحداث وفي كشف تفاصيل مهمة في التاريخ الإسلامي بل وفي تاريخ سائر الأمم.

من بعد هذه الإطلالة للمحور الأول، تعالوا إلى المحور الثاني لنطل على المصادر المرتبطة بواقعة كربلاء. هنا أيضًا مصادر متنوعة ونستقيها من خلال أصناف المصادر التي أشرنا إليها في المحور الأول. حينما نأتي إلى مصادر واقعة كربلاء، يعني أي باحث، أي خطيب، أي مؤلف، أي كاتب يريد أن يكتب ويريد أن يطلع على ما جرى من أحداث للإمام الحسين سلام الله عليه من حين خروجه من المدينة المنورة إلى حين شهادته في كربلاء سنة 61 للهجرة، ما هي المصادر التي يمكن أن يعتمد عليها؟ هنا مصادر متنوعة:

 

المصدر الأول: المصدر التقليدي، المدونات المكتوبة حول مقتل الإمام الحسين سلام الله عليه. وتصوروا أن هذه المدونات من الكثرة بحيث أن بعض الباحثين وصف كتب السيرة التي كتبت حول مقتل الإمام الحسين بأنها أكثر الكتب في تاريخ الإسلام التي كتبت حول واقعة وحادثة بعد السيرة النبوية. يعني إذا كانت السيرة النبوية هي أكبر حدث إسلامي اعتنى به المؤرخون وكتبوا حوله، فإن واقعة كربلاء ومقتل الإمام الحسين يعتبر الحدث الثاني مباشرة بعد السيرة النبوية التي كتبت وألفت حولها العديد من الكتب. وبالغ بعض الباحثين وقال إننا إذا التزمنا بالعنوان عنوان مقتل الإمام الحسين، فربما تصبح الكتب التي حملت هذا العنوان تفوق الكتب التي حملت عنوان السيرة النبوية. وهذا ماذا يكشف؟ هذا يكشف عن ثراء كبير في المدونات المكتوبة حول مقتل الإمام الحسين سلام الله عليه. ويصنف أحد المحققين الشيخ الريشهري رحمه الله عليه المصادر التي كتبت حول مقتل الإمام الحسين، يصنفها إلى عدة أصناف. يقول هناك مصادر معروفة ومشهورة ويسرد منها عدد كبير يوصلها إلى أكثر من 30 مصدرًا، يقول مثلًا من أهمها كتب التاريخ: تاريخ اليعقوبي، تاريخ المسعودي، تاريخ الطبري، تاريخ ابن الأثير، الكامل لابن الأثير، تاريخ ابن عساكر، البداية والنهاية وكتب كثيرة يسردها من كتب الفريقين. يقول هذه كتب تاريخية مشهورة كلها تعرضت لمقتل الإمام الحسين سلام الله عليه وللأحداث التي جرت على الإمام الحسين. يقول هذا صنف من المصادر متوفر ويمكن الوصول إليه بسهولة.

صنف آخر من المصادر هي المصادر المتأخرة التي كتبت من بعد القرنين التاسع والعاشر الهجري إلى يومنا هذا. يقول هذه المصادر يصعب إحصاؤها، عشرات بل مئات الكتب كتبت حول مقتل الإمام الحسين سلام الله عليه، وحول الأحداث التي جرت للإمام الحسين سلام الله عليه، وحول المراثي المرتبطة بواقعة كربلاء وبإقامة المآتم وإحياء ذكر الإمام الحسين سلام الله عليه. لكن يقول هناك صنف ثالث من المصادر التاريخية، هذا جدًّا مهم، وهو الصنف الذي ضاع ولم يصل إلينا. يقول هناك مجموعة كبيرة من المقاتل التي كتبت حول الإمام الحسين لكنها للأسف لم تصل إلينا. ويعددها باختلاف تاريخها، يقول مثلًا أول مقتل كتب حول شهادة الإمام الحسين كتب في القرن الأول الهجري، يعني قبل سنة 100 هجرية، كتبه الأصبغ بن نباته. هذه الشخصية المعروفة من أصحاب أمير المؤمنين سلام الله عليه، بل من أجلاء الأصحاب رضوان الله عليه. كتب مقتله الأصبغ بن نباته، كتب مقتل يحكي الأحداث التي جرت على الإمام الحسين. الأصبغ بن نباته ينتمي إلى القرن الأول الهجري توفي سنة 64 للهجرة، هذا أول مقتل دوّن. وهذا يكشف عن أن هناك ثقافة عند أئمة أهل البيت سلام الله عليهم أكدت على قضية الكتابة والتدوين لما جرى للإمام الحسين سلام الله عليه.

 

بعدين نجي إلى القرن الثاني الهجري، يعني 100 وفوق، نجد أيضًا هنا عدة مقاتل كتبت، من أهمها مقتل جابر بن يزيد الجعفي، هذا من أصحاب الإمام الباقر سلام الله عليه، توفي سنة 122 للهجرة، هذا له مقتل للإمام الحسين. أيضًا من أهم المقاتل التي كتبت في القرن الثاني الهجري، مقتل عمار بن إسحاق الدهني، هذا أيضًا من أصحاب الإمامين الباقر والصادق توفي سنة 128، وأيضًا من ضمن المقاتل التي كتبت مراثي جعفر بن عفان الطائي، هذا كان ناعية، هذا كان خطيب في أيام الإمام الصادق سلام الله عليه، يدخل على الإمام الصادق فيطلب منه أن ينعى الإمام الحسين بأبيات. هذا له كتاب حول مقتل الإمام الحسين وجعفر بن عفان الطائي توفي سنة 150 للهجرة، إذًا هو من أعلام القرن الثاني الهجري.

وهكذا مجموعة من المقاتل كتبت في القرن الثاني الهجري، مقتل ابن حماد الكلبي الذي لا يعرف بالتحديد سنة وفاته، لكنه عاش في القرن الثاني الهجري وعاصر الدولتين الأموية وبداية الدولة العباسية. إذًا هناك أكثر من ستة مقاتل وثقت في كتب الرجال، يعني في الفهارس التي تناولت تعداد الكتب التي كتبها أصحاب أهل البيت، هذه المدونات أشير إليها في كتب علم الرجال وفي الفهارس التي تفهرس الكتب التي ألفت لكن للأسف لم يعثر عليها. ننتقل إلى القرن الثالث الهجري، نجد هناك أيضًا كم هائل من المقاتل، أكثر من 11 مقتلًا أحصاها الشيخ الريشهري، يعدد فيها من كتب حول الإمام الحسين سلام الله عليه في هذا القرن. منها مثلًا مقتل ابن مزاحم المنقري، صاحب كتاب واقعة صفين، مقتل الواقدي، المؤرخ المعروف المتوفي سنة 207 للهجرة، مقتل ابن سائب الكلبي، أيضًا هذا من المقاتل المعروفة، مقتل أبي مخنف لوط بن يحيى الغامدي، أيضًا عاش في هذه الفترة. فهناك جملة كبيرة من المقاتل كتبت أيضًا في القرن الثالث الهجري. ثم إذا انتقلنا إلى القرن الرابع الهجري، تزداد عدد المقاتل التي كتبت حول الإمام الحسين شيئًا فشيئًا إلى أن نصل إلى القرن الخامس والسادس والسابع والثامن، فيحصي لنا هذا المحقق أكثر من 33 مقتل كتبت حول شهادة الإمام الحسين وكلها ضاعت ولم تصل إلينا.

 

هذا عن ماذا يكشف؟ هذا يكشف عن أمرين مهمين: الأمر الأول: هناك اهتمام وثقافة سائدة عند أتباع مدرسة أهل البيت وحتى عند غيرهم. يعني لا تتصور أن هذه المقاتل كلها مقاتل للشيعة، لا، مقاتل كتبها جمهور علماء المسلمين، بل بعض المقاتل مثل مقتل ابن خلدون مثلًا. ابن خلدون هذا صاحب المقدمة المعروف من أعلام القرن التاسع الهجري، له مقتل، أيضًا مقتل ابن خلدون يعلق عليه بعض الباحثين، يقول هذا كتب كيدًا وردًّا على المقاتل التي كتبها مؤرخو وعلماء الإمامية، لماذا؟ لأنه عنده ميل إلى الثقافة الأموية ويريد أن يبرئ الأمويين من كثير مما جرى ذكره في مقاتل الإمامية، لذلك كتب هذا المقتل وركز على الجوانب التي فيها تبرئة لبني أمية.

إذاً لاحظوا هناك ثقافة سائدة، ثقافة عند أتباع مدرسة أهل البيت من أجل تدوين ما جرى على الإمام الحسين. وهذا من الواضح بتدبير من الأئمة سلام الله عليهم من أجل توثيق الأحداث وتأكيد ما جرى على الحسين في كربلاء. وفي المقابل، سرت هذه الثقافة إلى أطياف واسعة من الأمة الإسلامية، بعضهم كتب هذه المقاتل رغبة في إظهار حبه لأهل البيت ورفضه للظلامة التي جرت على الإمام الحسين سلام الله عليه، وبعضهم ممن له هوى أموي مبالغ فيه كتبها من أجل رد بعض ما جاء في مقاتل الإمامية. إذاً هذا يكشف عن أننا أمام طيف واسع من المصادر والمدونات التاريخية، هذا مصدر ثري جدًّا. فإذًا من يريد أن يكتب أو يتناول سيرة الإمام الحسين سلام الله عليه لا يعدم المصادر الكثيرة التي أوصلها بعض الباحثين ما بين ما هو موجود وما هو مفقود إلى أكثر من 110 مقتل وكتاب يمكن الاعتماد عليه في الكتابة حول سيرة الإمام الحسين. ونحن نتحدث هنا عن المصادر الأولية، المصادر الأصيلة، لا نتحدث عن المصادر المتأخرة التي يعلق عليها الشيخ الريشهري بأن المصادر المتأخرة تقيم اعتمادًا على المصادر التي استقت منها، فإذا الكتب المتأخرة حول واقعة كربلاء استقت من مصادر معتبرة تصبح هذه الكتب المتأخرة كتب معتبرة، إذا استقت من مصادر غير معتبرة تفقد أهميتها من حيث التدوين والكتابة.

 

إلى هنا اطلعنا على الصنف الأول من مصادر السيرة الحسينية وهي المدونات المكتوبة حول سيرة الإمام الحسين سلام الله عليه. طبعًا كما تلاحظون هذه المحاضرة محاضرة تثقيفية، محاضرة تعطينا ثقافة مهمة ترتبط بواقعة عاشوراء. ليس بالضرورة أن تكون المحاضرة وعظية أو توجيهية، لا، المحاضرات في موسم عاشوراء يجب أن تتنوع، منها المحاضرات الوعظية التوجيهية، منها المحاضرات التي تتناول قضايا اجتماعية، منها المحاضرات التي تتناول قضية عقائدية، منها المحاضرات التي تتناول قضية تثقيفية ترتبط بواقعة كربلاء. من غير المعقول أن لنا عشرات السنوات نحضر منبر الإمام الحسين سلام الله عليه وما عندنا فكرة واسعة حول الكتابات التي كتبت ودونت حول واقعة كربلاء. إذًا إلى هنا وقفنا على الصنف الأول من مصادر واقعة كربلاء.

تعالوا إلى الصنف الثاني وهو سبق الإشارة إليه: الصنف الثاني الوثائق التي يمكن الاعتماد عليها. ونحن وسعنا مفهوم الوثيقة بناء للمدارس التاريخية المعاصرة، فقلنا كل ما يرتبط بحركة معينة تتصل بالحدث التاريخي هو في الحقيقة وثيقة من الوثائق. حينما نأتي إلى الوثائق المرتبطة بواقعة كربلاء نجد أنها متوفرة بكثرة وتمثل أيضًا مصدر مهم لضخ معلومات تاريخية كثيرة حول واقعة كربلاء. أعطيك نموذجًا واحدًا فقط: الشيخ محمد صادق الكرباسي، هذا محقق كتب عشرات بل مئات الكتب حول الإمام الحسين سلام الله عليه وعنده رغبة أن يوصل مؤلفاته وكتاباته حول الإمام الحسين إلى قريب الألف كتاب. عنده كتاب اسمه أطلس السيرة الحسينية، التفتوا إلى هذا الكتاب المهم الذي وظف فيه الكاتب الوثائق التاريخية توظيفًا ذكيًّا في استلال معلومات تاريخية مهمة. أطلس السيرة الحسينية يركز على ماذا؟ يركز على جغرافيا الواقعة، يعني أين وقعت واقعة عاشوراء في كربلاء. إذًا تعالوا ندرس جغرافيا كربلاء، ندرس الأماكن والمناطق التي ذكرت في السيرة الحسينية أن الإمام الحسين مر بها في طريقه من مكة إلى كربلاء، فندرس هذه الوقائع وهذه المناطق الجغرافية ونستل منها بعض الأحداث، هذا هو فكرة أطلس السيرة الحسينية. الرجل ركز فقط على مسيرة موكب السبايا بعد قتل الإمام الحسين سلام الله عليه. أخذ السبايا من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام، فاستطاع أن يرصد قرابة 27 موضعًا جغرافيًّا كلها مر بها الإمام الحسين سلام الله عليه. يقول الموجود في كتب السيرة 34 موقعًا جغرافيًا مر بها الإمام الحسين، لكن بعض هذه المواقع لا تمثل نقطة مركزية جغرافية، مر على صومعة، مر على جبل، لكن البقع الجغرافية التي تمثل مدنًا وقرى وأرياف مرّ بها موكب سبايا الإمام الحسين يصل إلى 27 موطنًا. ومن خلال التحقيق والتدقيق الجغرافي من أجل حساب المسافة، كم تبعد هذه النقطة عن النقطة السابقة، كم تحتاج موكب النوق والجمال أن يقطع هذه المسافة، استطاع أن يستكشف معلومات تاريخية مهمة.

 

إذاً هذا مصدر ثانٍ من مصادر المعرفة التاريخية المرتبطة بحركة الإمام الحسين وبأحداث الإمام الحسين، الوثائق التي نتوسع فيها بحيث نتحدث حتى عن البقع الجغرافية. يعني مثلًا كربلاء اليوم كربلاء زاخرة بالأماكن الأثرية المرتبطة بواقعة كربلاء. من المهم جدًا أن نقوم بدراسات ميدانية نستند فيها إلى هذه الآثار. إذا كان هنا محل دفن الإمام الحسين سلام الله عليه وهنا يمر نهر الفرات، إذًا يمكن أن نحدد المسافة التي كان يتحرك فيها. فإذا حدثتنا رواية بأن الإمام الحسين قطع مسافة طويلة جدًّا للوصول مثلًا إلى شهيد من الشهداء، نقول هنا علامة استفهام، لأن الوقائع التاريخية لا تعين على مسافة، والعكس بالعكس. أنت مثلًا تشوف في كربلاء هناك موثق مكان خيم الإمام الحسين سلام الله عليه، موثق التل الذي وقفت عليه زينب سلام الله عليها حينما خاطبت الإمام الحسين. كل هذه الوقائع والبقع الجغرافية تمثل مصادر ثرية وثمينة جدًّا في استكشاف الوقائع والأحداث لما جرى في يوم عاشوراء. إذًا هذا النموذج الثاني أو المصدر الثاني من مصادر معرفة الأحداث وسيرة الإمام الحسين سلام الله عليه.

تعالوا إلى المصدر الثالث، المصدر الثالث الحقائق التاريخية، التفتوا إلى هذا المصدر لأنه قلما يُشار إليه في كلمات المحققين والباحثين. الحقائق التاريخية تمثل أيضًا مصدرًا معلوماتيًّا لمعرفة الأحداث. أعطيك مثالين يرتبطان بواقعة كربلاء. نص بعض الكتاب من المتأخرين، نحن لا نتكلم هنا عن المصادر الرئيسية الموثوقة التي تحدثت عما جرى في يوم عاشوراء، بعض المتأخرين أشار إلى أن معسكر عمر بن سعد الذي وصل إلى كربلاء من أجل ملاقاة الإمام الحسين يصل عدده إلى 180,000. هل يمكن قبول هذا النقل؟ كل المصادر التاريخية التي تحدثت عن عدد سكان أهل الكوفة، التفتوا كيف الحقيقة التاريخية أحيانًا تكشف لنا واقعة تاريخية مهمة. كل المصادر التي تحدثت عن عدد سكان أهل الكوفة سنة 60 للهجرة والسنوات المتاخمة لهذه السنة لا توصلها إلى أكثر من 100,000 نسمة، يعني أكثر مصدر تاريخي تحدث عن عدد سكان أهل الكوفة في تلك المرحلة أوصل عدد السكان إلى 100,000. من هنا تصبح هناك علامة استفهام واضحة، كيف يمكن لعمر بن سعد أن يجلب من الكوفة 180,000؟ ولذلك إذا نرجع إلى المصادر المعتبرة، الروايات التاريخية الكثيرة تنص على أن هناك آلاف وصلوا إلى قتال الإمام الحسين. أكثر الروايات أوصلتها إلى 30,000، لكن 180,000 لا، لا يمكن قبولها بحالة من الأحوال.

 

بعض الكتب المتأخرة مثلًا تتحدث عن أن الإمام الحسين سلام الله عليه قتل في يوم عاشوراء 300,000 شخص. إذا قلنا بأن عدد معسكر عمر بن سعد لا يزيد عن 30,000، من أين يأتي بـ 300,000؟ فإذا بعض النقولات التاريخية تصطدم مع بعض الحقائق التاريخية، وبالتالي نرجع ونقول إن الحقائق التاريخية تمثل مصدرًا مهمًّا لمعرفة الوقائع والأحداث التي جرت في يوم كربلاء. إلى هنا أطلينا إطلالة سريعة حول المصادر التي يمكن أن نستقي منها الأحداث التي وقعت في كربلاء وفي عاشوراء.

تعالوا إلى المحور الثالث وربما أيضًا نكتفي بإطلالة سريعة على هذا المحور: المحاولات التي حاولت أن تستفيد من هذا الكم الهائل من المصادر التاريخية حول واقعة كربلاء من أجل الوصول إلى أحداث واضحة ومفصلة حول مقتل الإمام الحسين سلام الله عليه. هنا محاولتان أشير إليهما، المحاولة الأولى أخذت منهجًا معينًا، المحاولة الثانية أخذت منهجًا آخر مختلفًا. المحاولة الأولى هي محاولة التحقيق بهذه المصادر ومعرفة ما يمكن الاستناد إليه مما لا يمكن الاستناد إليه. وهنا محاولات عديدة اطلع بها جملة من العلماء والمحققين، وبدأت هذه المحاولات منذ القرن الماضي، يعني القرن الرابع عشر الهجري. بدأت هذه المحاولة بتجربة الميرزا النوري رحمه الله عليه، ميرزا حسين النوري صاحب كتاب المستدرك على وسائل الشيعة، وهذا من العلماء الأعلام، محقق ومحدث كبير. كتب كتابًا تحت عنوان "اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر"، تحدث هناك عن نقد واسع لكيفية أخذ المعلومات والروايات المرتبطة بواقعة كربلاء. وهذا من آخر ما كتبه المحدث النوري، كتبه سنة 1319 وتوفي سنة 1320.

 

هذه المحاولة حاولت غربلة الروايات وتسجيل ملاحظات على الروايات التي تنقل خصوصًا على المنبر الشفاهي، باعتبار أن المنابر والخطباء كانوا كثر في تلك المرحلة، فالميرزا حسين النوري تعرض لهؤلاء ووجه وقفة نقدية مع ما يتناوله المنبر في تلك المرحلة. بعد الميرزا حسين النوري جاءت أيضًا تجارب لتلامذته، من أهمهم مثلًا السيد محسن الأمين. السيد محسن الأمين رحمه الله كتب عدة كتب أيضًا ترتبط بمحاولة غربلة وطرح الروايات المعتبرة والروايات المأخوذة من مصادر موثوقة حول واقعة كربلاء. فكتب السيد الأمين عدة كتب في هذا السياق، كتب الدر النضيد وكتب لواعج الأشجان وكتب المجالس السنية في خمسة مجلدات، كلها ترتبط بهذه القضية. أيضًا من ضمن من قام بعملية الغربلة المحدث القمي الشيخ عباس القمي صاحب كتاب مفاتيح الجنان، وهو أيضًا من تلامذة الميرزا النوري، فكتب نفس المهموم وكتب نفثة المصدور وكتب أيضًا منتهى الآمال، وكلها تتحرك في نفس السياق، محاولة غربلة وتدقيق من أجل إعداد مادة تاريخية جاهزة للخطباء ولرواد المنبر الحسيني.

إذاً فهذه تجارب مهمة قام بها مجموعة من الأعلام. أيضًا مع بدايات القرن الخامس عشر ظهرت تجارب كثيرة لا يسع المجال لتعدادها. هذا منهج من المناهج الذي حاول أن يدقق، والتفتوا: المنهج هنا منهج تضييق، يعني محاولة وضع ضوابط من أجل أن يكون الخطيب أو المتحدث دقيقًا فيضيق الخناق على الخطيب، على المتحدث، على الراوي الذي يريد أن ينقل أحداث كربلاء من خلال وضع ضوابط دقيقة ومن خلال غربلة المصادر وتصنيف المصادر. في المقابل هناك محاولات توسعة، ونحن نحترم كلا المنهجين ما دام المنهج الأول يقوم على أساس علمي والمنهج الثاني يقوم على أساس علمي أيضًا، فلا مانع من كلا المنهجين. فهناك محاولات أيضًا في الطرف الآخر كمنهجية توسعة. ويجب أن يكون عندنا جميعًا خصوصًا النخب المثقفة تقبل لاختلاف المنهجيات. إذا كنت تؤمن بالمنهج الأول، منهج التضييق، لا يصح أن تضيق الخناق على من يتبع المنهج الآخر إن كان قد آمن به، لأنه كما ذكرنا أيضًا المنهج الآخر يستند إلى أساس علمي كما سنبين. ومن هنا المنهج الثاني، المنهج الذي يذهب إلى حالة التوسعة، يطرح عدة مقاربات، كان بنائي أن أتعرض إلى ثلاث مقاربات لكن يظهر أن المجال لا يسع إلا للتعرض لمقاربتين:

 

المقاربة الأولى: المقاربة الفنية الخطابية. التفت إلى هذه القضية، هذا يحتاج أن نبينهم ضمن عدة نقاط أطرحها بشكل سريع.

النقطة الأولى: أن من الأساليب المعروفة في البلاغة وفي الآداب العربية أسلوب القصة، أسلوب الرواية، وهذا من الأساليب المهمة جدًّا التي يمكن من خلالها نقل الأحداث، ولذلك اهتم به القرآن الكريم. القرآن اهتم بالأسلوب القصصي، ونجد أن القرآن من الأحداث التي جرت في الأمم السابقة، قصة موسى، قصة عيسى، قصة يوسف، قصة سليمان، كل الأنبياء صاغها لنا القرآن الكريم بالأسلوب القصصي. إذًا الأسلوب القصصي أسلوب قرآني وأسلوب عربي إبداعي، هذه نقطة أولى.

النقطة الثانية: في العصور المتأخرة تطور فن القصة وفن أساليب القصص، وأدخل ضمن هذا الفن ما يعرف بأسلوب تحريك الخيال. كيف؟ يعني القصة حتى تأخذ تأثيرًا وتشويقًا كبيرًا عند المتلقي يجب أن تحرك فيها خيال المتلقي، لا تجعل الأحداث كلها أحداث سردية واقعية، بل تحتاج إلى إضفاء حالة من الخيال حتى يتحرك ذهن المتلقي ويتشوق لقراءة القصة. ولذلك أصبحت القصص في الفترة الأخيرة محل اهتمام عند شريحة واسعة من المثقفين، وأصبحت كتب القصص والروايات من أكثر الكتب مبيعًا في العصور المتأخرة، مما يعني أن الأسلوب القصصي بدأ يأخذ شعبية كبيرة جدًّا، والسر في أخذ الأسلوب القصصي هذه الشعبية هو إدخال الجانب الخيالي، التفتوا إلى هذه النقطة.

النقطة الثالثة: أنه في الفترة المتأخرة بدأ كتاب الروايات وكتاب القصص ينقلون هذه الحالة الخيالية إلى القصص التاريخية. كيف يعني؟ قد يكون المؤلف أو الراوي يروي قصة تاريخية واقعية فيضفي عليها عنصرًا خياليًّا حتى يجعل القصة التاريخية أكثر تشويقًا، وبالتالي تصبح القصة التاريخية أكثر تأثيرًا، لأن القصة إنما يؤتى بها من أجل تحقيق غايات وأغراض وأهداف منها مثلًا أسلوب العبرة، منها غاية الموعظة، فإذا صيغت القصة بطريقة مشوقة تحرك العواطف أكثر، فيصبح التأثير لها أكثر. ومن هنا في المرحلة الأخيرة، في العصور الأخيرة، بدأت حتى القصص التاريخية يُضفى عليها طابع خيالي ولو بقدر ما من أجل إعطاء الأحداث تشويقًا وتأثيرًا أكثر. أعطيك مثالًا ربما كلنا يعرفه، كثير منا شاهد قصة يوسف الصديق، هذه القصة الجميلة المؤثرة التي أنتجتها الجمهورية الإسلامية قبل عدة سنوات وعُرضت بشكل واسع، ولاقت اهتمامًا واستحسانًا عند كل أطياف الأمة الإسلامية. هذه القصة برغم أنها قصة تاريخية واقعية، إلا أن الكاتب الذي ألف هذه القصة والسيناريست الذي كتب سيناريو هذه القصة والمخرج ابتكروا أساليب مهمة منها اللعب على جانب الخيال من أجل جعل المشاهد أكثر تأثيرًا.

 

ربما بعض المواقف والأحداث التي جرت، لو أنك شاهدتها بحقيقتها في ذلك التاريخ، لا تجدها مؤثرة كتأثير الذي تراه حينما ترى هذا المشهد مصورًا سينمائيًّا من خلال هذا المنهج ومن خلال هذه الطريقة المبتكرة. هنا يقول أصحاب الاختصاص إن هذا النوع من الخيال الإبداعي ما دام لا يؤثر على وقائع الأحداث ولا يؤثر على صياغة الأحداث الكبرى للواقعة، فهذا لا مانع منه. نحن نتكلم الآن بلغة فنية، بلغة تخصصية، بلغة أدبية، بلغة بلاغية. من شاهد مثلًا مسلسل يوسف الصديق أو شاهد مثلًا مسلسل المختار الثقفي، هو يقطع تمامًا أنه رأى أحداثًا واقعية، لأن المحطات الكبرى لهذا المسلسل ولهذه القضية حوفظ عليها بدقة، لكن أُضفي على تفاصيل جزئية ضمن هذه الأحداث، أُضفي عليها عنصر خيالي إبداعي من أجل جعل القصة مؤثرة ومشوقة أكثر. هنا يقول أصحاب الفن الخطابي، التفتوا إلى هذه النقطة، لأننا نتكلم عن مقاربة نريد إسقاطها على كيفية نقل الأحداث في كربلاء. هذه الطريقة التي يعتبرها أهل الفن، أهل الاختصاص الأدبي البلاغي، ما دامت تعتبر طريقة مقبولة في عرف أهل الاختصاص، فلا مانع من ممارستها حين نقل قضية ترتبط بالأحداث العاشورائية.

يعني إذا مارس الخطيب إضفاء نوع من الخيال والإبداع الفني من أجل تصوير واقعة مأساوية حتى يشوق الناس ويحرك عواطفهم، فهذا لا يتنافى مع فن الخطابة. الخطابة كما يعرفها علماء المنطق وعلماء الاختصاص هي الخطاب الذي يحاكي مشاعر الجماهير. فإذا مارس الخطيب حالة من هذا النوع من أجل تحريك المشاعر، لا مانع من الناحية التخصصية الأدبية البلاغية، لكن مع ضرورة أن يحافظ على الضوابط الشرعية. وهذا ما سنشير إليه في المقاربة الثانية. لكن هنا تعليقة سريعة على هذه المقاربة التي عبرنا عنها بالمقاربة الخطابية، نقول: هذا الطرح الذي طرحه صاحب هذه المقاربة لا بأس به، لكن عندنا تحفّظ عليه لأن فسح المجال للخيال، وإن كان ضمن صبغة أدبية بلاغية تخصصية، قد يأخذنا إلى خيالات بعيدة. وبالتالي الصحيح أن نصنع ماذا؟ أن نصنع كما صنع القرآن الكريم. التفتوا، القرآن الكريم مارس أسلوب القصص بطريقة إبداعية لم يسبق إليها على الإطلاق.

 

اذهب واقرأ فن القرآن في صياغة القصص. القرآن الكريم حينما يذكر لنا أي قصة من قصص الأنبياء، لا ينقل التفاصيل الجزئية البالغة الدقة في التفاصيل، لا، ينقل مشاهد، ينقل أحداث كبرى ويترك بين الأحداث الكبرى ما يعبر عنه البلغاء والأدباء بالفراغ السردي. أنت تقرأ قصة يوسف وتشوف هذه القصة مترابطة في سورة يوسف، لكن هناك فراغات سردية واسعة، ينقل حدثًا ثم ينتقل إلى حدث بعيد آخر. هذا الأسلوب الذي مارسه القرآن الكريم حافظ فيه على دقة النقل وأيضًا ترك للمتلقي فرصة الخيال المؤثر في تحريك عواطفه ومشاعره من دون أن يتحمل مسؤولية الخيال. عكس هذا الذي يضفي خيالا تبرعيًّا، هو يتحمل مسؤولية الخيال، بينما القرآن الكريم حينما ينقل حدثًا ويترك مشهدًا فارغًا، يعني بتعبير فراغ سردي، ثم ينتقل إلى المشهد الآخر، يترك المجال للمتلقي أن يحرك خياله ويتفاعل بمشاعره، ومع ذلك يحافظ على نقل الأحداث الواقعية. فجميل جدًّا لو يحاكي الخطيب هذه الطريقة في نقل الأحداث المتعلقة بسيرة الإمام الحسين سلام الله عليه.

 

المقاربة الثانية والأخيرة: المقاربة الفقهية. وهذا ما يسلكه كل الخطباء، كل الخطباء يسلكون هذه الطريقة، يقول أنا لست بالضرورة أن أنقل تفاصيل تستقى من مصادر دقيقة ومعتبرة 100%. لماذا؟ لأن في كثير من المصادر قد لا تعين على نقل أحداث تفصيلية، لكن المهم أنني أراعي الموازين الشرعية. فحينما أنقل قضية ترتبط بواقعة كربلاء، لا أحيد عن التكليف الشرعي، وهذا يفتح أبوابًا عديدة. ضمن الإطار الشرعي، يصح للخطيب وللمتحدث عن وقائع كربلاء أن ينقل قضية تحت عنوان روي، أخذها من كتاب من الكتب، فحينما يقول روي إن أخذها من كتاب معتبر، فهذا من أعلى درجات الرواية، إن أخذها من كتاب درجة اعتباره ليست بتلك القوة، حينما يقول روي، هذا الأمر فيه صدق، يعني هو صادق من أن هذه القضية رويت. نعم، لو كان سياق الحديث يشير إلى أن قوله روي يعني أخذ من كتب معتبرة، فلا يصح له أن يعبر بهذا التعبير، لكن إذا أخذ التعبير الحرفي بحيث يريد أن يقول بأن هذه القضية مروية، كفى ذلك في أن يخلص نفسه من المسؤولية. لأن ما دامت هذه القضية مروية في بعض الكتب، فيصح له أن يقول بأنها رويت، ولو لم يتكفل طريقة التحقيق والتدقيق.

نعم، إذا وسعه المجال أن يحقق ويدقق في كل التفاصيل، فذاك شأن أفضل، لكن لو أراد أن يسلك منهج التوسع وينقل بهذه الطريقة، هذا أيضًا لا مانع منه من الناحية الفقهية. أيضًا باب آخر أن يتحدث المتحدث عن واقعة كربلاء اعتمادًا على القرائن القطعية. عندما يأتي شخص ويقول وصل الإمام الحسين سلام الله عليه إلى كربلاء في بدايات محرم، عندما نرجع إلى كتب التاريخ، نرى هناك أشبه بالتواتر بأن الإمام الحسين سلام الله عليه وصل إلى كربلاء في هذه الفترة من دون أن يحدد التاريخ الدقيق، هذا نقول صحيح. وهكذا جملة من الأحداث التي وقعت في كربلاء هي أحداث قطعية، فيمكن إذا الباب الثاني الذي يعتمد عليه المتحدث والخطيب أن يعتمد على القطعيات التاريخية. الباب الثالث: أن يعتمد على الأساليب البلاغية والأدبية. عندما يستخدم معنى كنائي تعين عليه أساليب اللغة، هذا لا مانع منه، إذا قال: كأني بزينب سلام الله عليها حينما رجع إليها الإمام الحسين بعد مصرع أبي الفضل العباس، كأني بها وقد أظلمت الدنيا في عينيها، هذا لا مانع منه ما دام أسلوبًا عربيًّا بلاغيًّا، أسلوب الكناية، هذا لا مانع منه.

 

إذاً فهناك عدة أبواب يمكن سلوكها ضمن منهج ما عبرنا عنه بمنهج التوسعة. ومن هنا نحن نرى أن واقعة كربلاء لا زالت تمتلك الحيوية وتمتلك الطاقة الكبيرة حينما نريد أن ننقلها ونصورها. وينبغي أن نكون نحن منفتحين على كل هذه الأساليب كما أشرت، ما دامت تستند إلى أسس ومناهج علمية مقبولة. أحدهم يميل إلى المنهج الأول، آخر يميل إلى المنهج الثاني، لا مانع من ذلك. يجب أن نقبل هذا التنوع، يجب أن نقبل أنفسنا بتنوعنا وباختلاف مرئياتنا وباختلاف مشاربنا وقناعاتنا. ولذلك حينما نأتي مثلًا إلى ما جرى من أحداث، حينما أراد الإمام الحسين سلام الله عليه أن يودع جده المصطفى، حينما أراد الخروج من المدينة، تذكر بعض المصادر بأن الإمام الحسين مضى إلى قبر جده المصطفى وبات تلك الليلة ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد، إلى أن هومت عيناه بالنوم. يريد أن يخرج من المدينة، لابد أن يودع قبر جده رسول الله، قبر أمه الزهراء. فوصل إلى الروضة المباركة، ولا زال مصليًّا ساجدًا، أخذته سنة من النوم، فرأى رسول الله في عالم الرؤيا، رآه في كتيبة من الملائكة عن يمينه وأخرى عن شماله وثالثة من خلفه، فأخذ الإمام الحسين يدنو من رسول الله هنيئة هنيئة إلى أن وصل إلى جده المصطفى فاحتضنه، قال: جد يا رسول الله خذني إليك فلا حاجة لي بالرجوع إلى الدنيا، فقال له: بني حسين لابد لك من الرجوع، إن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة، وكأني أراك عن قريب مرملًا بدمائك بين عصابة من أمتي، لا ينالهم الله شفاعتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى، وضمان لا تروى.

تقول الرواية لا زال الإمام يقترب من جده رسول الله وهو يقول: ضمني إليك، خذني إليك يا رسول الله، يا جدي أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك، فاشهد على هذه الأمة أنها ضيعتني وخذلتني، ولم تحفظ حرمتي ولا قرابتي منك. رحم الله الشيخ الدمستاني يصور لنا هذه الحالة بأبيات محفوظة، هذه أنشودتنا بعد في كل سنة نقراها في عشرة المحرم، فمعًا معًا نردد هذه الأبيات:

ضمني عندك يا جداه في هذا الضريح 

علني ياجد من بلوى زماني أستريح 

ضاق بي يا جد من فرط الأسى كل فسيح 

فعسى طود الأسى يندك بين الدكتين 

جد صفو العيش من بعدك بالأقدار شيب 

وأشاب الهم رأسي قبل إقبال المشيب 

فعلا من داخل القبر بكاء ونحيب 

ونداء بارتجاع يا حبيبي يا حسين

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد