الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ إسماعيل المشاجرة: هل يصمد القرآن كمرجع لبناء فكر وثقافة معاصرة؟

الليلة الخامسة محرم 1446 هـ
الشيخ إسماعيل المشاجرة
هل يصمد القرآن كمرجع لبناء فكر وثقافة معاصرة؟ 
مجمع أهل البيت (ع) - عمان (مسقط) - 

 

ورد عن سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين عليه السلام: "حملة القرآن هم أعراف أهل الجنة يوم القيامة". آمنا بالله، صدق سيدنا ومولانا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله. إن الرواية المروية عن سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين، يؤكد الإمام فيها على أن المائز الأساسي في تفاوت المراتب في الجنة يوم القيامة هو القرآن الكريم. هناك روايات عن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم تؤكد أن أصحاب الأعراف الذين لهم مقام خاص يوم القيامة هم أهل البيت، لكنّ الإمام الحسين في هذه الرواية يقول إنّ هذا المقام الذي يصل إليه أهل البيت يوم القيامة بسبب حملهم للقرآن. حملة القرآن هم أعراف أهل الجنة  يوم القيامة. فالقرآن محور هذا الدين، ومحور هذه الرسالة التي جاء بها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وكل رجالات هذا الدين، تتمحور مقاماتهم بحسب احتفافهم وحملهم لمبادئ وقيم القرآن الكريم.

وما اجتماعنا في هذه الليالي المباركة باسم أبي عبد الله الحسين إلا لأنه كان واحداً من حاملي قيم القرآن ومبادئ القرآن، وأراق دمه الطاهر على مسرح الشهادة في كربلاء لأجل القرآن الكريم. إذاً فالقرآن الكريم هو محور هذا الدين. وإن كنا أشرنا في ليلة البارحة إلى أن الحضارة والمشروع الحضاري لا يمكن أن تقوم له قائمة إلا بدين، وهذا ما يقرره المفكرون والمنظرون الذين تحدثوا ونظّروا لبناء الحضارات والمشاريع الحضارية، فلا يمكن لمشروع حضاري أن تستقيم له قائمة إلا من ورائه دين. والحضارة الإسلامية خير شاهد على هذا المعنى، بل أشرنا إلى أن هذه الفكرة فكرة مبرهنة. ومن هنا ينطرح تساؤل، هو متفرع على التساؤل الذي طرحناه في الليلة الماضية، إذا كان الدين هو وراء كل حضارة، فهذا يعني أن مرجعية الدين أساسية في بناء أي مشروع حضاري.

 القرآن الكريم، القرآن ككتاب مدون وكنص يمثل قيم الإسلام وقيم الدين، هل هو قادر على الصمود أمام بناء المشاريع الحضارية؟ هل القرآن قادر على أن تكون مرجعيته تقيم وتبني مشروعاً حضارياً؟ ومن هنا نطرح هذا التساؤل كعنوان لمحاضرتنا: هل بوسع القرآن أن يكون مرجعاً لبناء ثقافة معاصرة وفكر معاصر؟

 

نتناول هذا التساؤل ضمن ثلاثة محاور:

في المحور الأول نتحدث عن مميزات وخصائص القرآن التي تجعله قادراً على الصمود أمام هذا التساؤل. نعم، القرآن قادر على أن يصمد أمام كل مستجدات الحياة وأمام كل ما يطرح اليوم باسم العصرنة والتحضر، ما دام هذا تطور تنشره البشرية. فالقرآن الكريم قادر على مسيرة هذا التطور وهذا التحضر وهذه العصرنة. إذاً، في المحور الأول نريد أن نذكر الخصائص والسمات التي تجعل القرآن الكريم قادراً على مواكبة المشروع الحضاري المعاصر.

وبعبارة أخرى، هل القرآن الكريم قادر على الصمود أم أنه سيموت كما ماتت الكتب المقدسة السابقة؟ هناك كتب لا زالت تحتفظ بها جملة من الأمم لكنها في الرفوف غير قادرة على أن تبعث الحياة في المجتمع المعاصر. نعم، قد يكون للتحريف الذي طرأ على هذه الكتب المقدسة دور في هذا، لكن بالنتيجة ما عادت هذه الكتب المقدسة قادرة على أن تقدم وتبني من خلاله فكرة معاصرة ورؤية معاصرة ومشروع حضاري. إذاً ما الذي يميز القرآن الكريم بحيث لا يجعله قابلاً للموت كما ماتت الكتب السماوية السابقة؟ هنا عدة خصائص وعدة ميزات يمتاز بها القرآن الكريم.

الأمر الأول، أن هناك وعود إلهية بأن هذا الكتاب سيبقى خالداً أبداً الدهر، وليس معنى خلوده يعني بقاءه بصفحاته وبلفظه وبوجوده المادي، لا، المقصود من الخلود ومن الوعد الإلهي بخلود القرآن يعني خلود مبادئ القرآن، خلود القرآن بمضامينه، خلود القرآن بحياته التي يبثها في الناس. وهناك نصوص كثيرة تؤكد على هذا الوعد الإلهي. لاحظوا مثلاً ما جاء في القرآن الكريم: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، هذا وعد إلهي بالحفظ.

ومن هنا نتساءل ماذا يعني القرآن الكريم أو ماذا يعني هذا الوعد الإلهي الذي يتحدث عن حفظ القرآن؟ حفظ القرآن بكل مراتبه، أولاً حفظ القرآن بنصه بمتنه بلفظه، ولذلك لا يمكن لمسلم أو لغير مسلم أن يدعي أن القرآن الكريم تعرض للتحريف، لأن البراهين قائمة على أن هذا القرآن تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه، والواقع المشاهد يبرهن على أن القرآن محفوظ من أي دنس، محفوظ من أي نقص، محفوظ من أي زيادة. وأشرنا في الليالي الماضية إلى بعض البراهين المادية والحسية التي ثبتت مؤخراً والتي تؤكد على أن القرآن لا يمكن أن يتعرض للتحريف.

 

إذاً، فهذه الآية المباركة تعطي وعداً إلهياً بحفظ القرآن. حفظ القرآن على مستوى متنه ولفظه وأيضاً حفظ القرآن على مستوى وجوده وديمومته ومضامينه ومبادئه وقيمه. فستبقى قيم القرآن ومبادئ القرآن محفوظة في الأمة من الناس تتسع زيادة ونقص بقدر تمسكها بمبادئ القرآن، لكن أصل التمسك بالقرآن سيبقى مستمراً ما بقي الدهر.

إذاً، هذا وعد إلهي. الوعد الإلهي الآخر، أن مشعل الهداية في الوجود لابد أن يبقى وأن يستمر. البشرية ستبقى طوال تواجدها على هذه البسيطة تنشد الهداية وتنشد النور، وكان من الواجب على الله تعالى الذي أوجبه على نفسه أن يبقي مشعلاً للنور يمكن لأي أحد يريد الهداية أن يتشبث بهذا المشعل. وهذا المشعل ليس إلا القرآن والعترة الهادية بنص النبي المصطفى صلى الله عليه وآله. النبي في أكثر من مورد أكد على هذا المعنى، والروايات متواترة بطرق الفريقين: "إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي"، بنص مسلم: "أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي".

إذاً، فهناك وعد إلهي بضرورة التمسك بالقرآن وبالعترة، ويلازم هذا الأمر الإلهي أنه في الضمن يوجد وعد بحفظ هذا القرآن وبحفظ هذه العترة، حتى يصبح لأمر النبي صلى الله عليه وآله، الذي هو أمر من الله، التمسك بالقرآن والتمسك بالعترة، له مصداقية. إذاً لم تنحفظ العترة ولم ينحفظ الكتاب، كيف للبشرية أن تلتزم بهذه الوصية المحمدية الإلهية: "إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم" يعني تمسكوا بالقرآن وبالعترة؟ فلا بد أن ينحفظ القرآن وتنحفظ العترة حتى يصبح لأمر النبي صلى الله عليه وآله معنى.

وبالتالي، هذا النص الذي هو حديث الثقلين يتضمن ويلازمه وعد إلهي بحفظ القرآن وحفظ العترة الطاهرة. ولذلك نحن لا نرى زماناً من الأزمنة يمكن أن تخلو منه الأرض من العترة والكتاب.

إذاً، هذه أهم خصوصية من خصائص القرآن الكريم، أن القرآن الكريم كتاب خالد، معجزة خالدة، كتاب الدين الخاتم. والدين الخاتم والرسالة الخاتمة لأنها ستستمر إلى أبد الدهر، لذلك فالذي يمثل هذا الدين الخاتم وهذه الرسالة الخاتمة لابد أن يكون أيضاً حاضراً وخالداً.

 

الخصوصية الثانية، حينما نخوض في تفاصيل الخصائص القرآنية نقف على ميزات فريدة تميز بها القرآن الكريم لا نجدها في أي كتاب مقدس آخر جاء به نبي من الأنبياء. لاحظوا مثلاً هذه الخصوصية التي يلفت إليها الراغب الأصفهاني. الراغب الأصفهاني عند كتابين مهمين في علوم القرآن، الكتاب الأول: المفردات، والكتاب الثاني: مقدمة لتفسير أراد أن يكتبه لكن لم يمهله القدر أن يكتب هذا التفسير. فاستفاد منه البيضاوي في تفسيره كثيراً في مقدمته لتفسيره. الراغب الأصفهاني يقول مما يمتاز به القرآن الكريم أنه المعجزة العقلية الوحيدة التي جاء بها الأنبياء والمرسلون. شلون يعني معجزة عقلية؟ يقول المعاجز التي جاء بها الأنبياء على صنفين: هناك معاجز حسية، مثل يقول عصا موسى، هذه معجزة حسية ترى يعني بالعين تبصر، مثل نار إبراهيم التي لم تحرق إبراهيم عليه السلام، هذه أيضاً معجزة حسية، مثل ناقة صالح، يقول هذه معاجز حسية يمكن للناس أن يروها بأعينهم. ولكن هناك معاجز عقلية، وهي المعجزة التي لا يمكن أن تبصر بالعين، لكن تدرك بالعقل والبصيرة. يقول عادة المعاجز التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل كلها معاجز حسية، يقول بينما معجزة نبي الإسلام معجزة عقلية. لماذا؟ لأن القرآن الكريم معجزة عقلية من خلال المضامين التي جاء بها، من خلال كل وجوه الإعجاز التي امتاز بها القرآن الكريم في بلاغته في فصاحته، هذه كلها معاجز ترتبط بالجانب العقلي. ويبرر الراغب الأصفهاني ذلك، يقول لأن أمة بني إسرائيل، هذا وصف الراغب الأصفهاني، يقول لأن أمة بني إسرائيل والأمم السابقة كانت عندها بلادة ذهنية، فناسب أن تكون المعاجز التي يأتي بها أنبياؤهم معاجز حسية، يقول لأن المعاجز الحسية تتناسب مع العامة من الناس الذين لا يمتلكون فطنة وذكاء لإدراك المعاجز العقلية. يقول بينما لأن أمة النبي صلى الله عليه وآله أمة ذات فطنة ونباهة وذكاء، لذلك ناسب أن تكون المعجزة التي يأتي بها نبيهم معجزة عقلية. يقول ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وآله: "كادت أمتي أن تكون أنبياء"، إشارة إلى فطنة هذه الأمة. بالنتيجة، ما يشير إليه الراغب الأصفهاني أن من أهم الخصوصيات التي امتاز بها القرآن على سائر الكتب المقدسة الأخرى، أنه معجزة عقلية، يعني معجزة ترتبط بالإدراك، ترتبط بالعقل، وليست معجزة حسية كعصا موسى أو ناقة صالح. هذه خصوصية لا نجدها في القرآن الكريم.

خصوصية أخرى يشير إليها ابن خلدون في مقدمته، يقول: حينما نتفحص معاجز الأنبياء السابقين نجد أن المعاجز التي جاء بها الأنبياء السابقون كانت شواهد صدق على نبوتهم، شواهد صدق على نزول الوحي عليهم. شلون؟ يقول: يجي عيسى عليه السلام يدعي أنه نبي، ينزل الوحي عليه، ينزل عليه ملك الوحي. فكيف يبرهن للناس على صدق دعوته وعلى صدق نزول الوحي عليه؟ بالمعجزة،  يبرئ الأكمه والأبرص، يحيي الموتى. موسى كذلك، يدعي نزول الوحي عليه، فيطالب بمعجزة، يأتي بالعصا. إذاً، يقول سائر الأنبياء يدعون نزول الوحي عليهم، فتأتي المعاجز لتشهد بصدق نزول الوحي عليهم. يقول بينما القرآن الكريم هو الوحي وهو المعجزة، القرآن الكريم تفرد بهذه الخصوصية، أنه هو الوحي الذي نزل على نبي الإسلام وهو في عين الوقت المعجزة التي جاء بها نبي الإسلام. يقول ابن خلدون: ومن هنا أصبح القرآن شاهداً على نفسه بنفسه، واتحد فيه الدال والمدلول عليه. ومن هنا أصبحت معجزة القرآن أوضح المعاجز وأبلغ المعاجز. يقول: ومن هنا تنبأ النبي صلى الله عليه وآله بأنه ببركة هذه المعجزة سيكون أكثر الأنبياء أتباعاً من قبل الناس لوضوح معجزته. إذاً، هذه خصوصية لا نجدها في الكتب السماوية الأخرى، لا نجدها في التوراة، لا نجدها في الإنجيل، فالقرآن هو الوحي وهو المعجزة.

 

 الخصوصية الثالثة، أن إعجاز القرآن مستمراً إلى قيام الساعة، والتحدي بهذه المعجزة قائم إلى قيام الساعة. أولاً، القرآن معجز لأن إعجاز القرآن لا يختص بمن نزل القرآن عليه كالعرب مثلاً لأن لسانه لسان عربي يختص بالعرب، كما يذهب إلى ذلك الباقلاني وكما نسب إلى الشاطبي، لا، الإعجاز القرآني إعجاز عام، كل من يسعه الاطلاع على القرآن ولو بالواسطة، ولو من خلال ترجمة مضامين القرآن، ولو من خلال سؤال أهل اللسان عن مضامين القرآن، سيظهر له إعجاز القرآن. ولذلك وجدنا في العصور المتأخرة مفكرون غربيون لا يتحدثون العربية، بمجرد اطلاعهم على القرآن نبض قلبهم لمضامين القرآن، وعندنا قائمة بأسماء كثيرة لا أريد أن أتعب ذهنك بهذه الأسماء، لكن جملة ممن اطلع على القرآن اقرأوا في تاريخ بعض المستشرقين ممن أسلموا وممن اطلعوا على القرآن كيف يشيدون بعظمة القرآن.

إذاً فالقرآن، أولاً إعجازه إعجاز مستمر لا يختص بعصر نزوله وإنما إعجازه دائم ومستمر إلى قيام الساعة. أيضاً التحدي بالإتيان بمثله، هذا التحدي أيضاً مستمر إلى قيام الساعة، خلافاً إلى ما ذهبت له بنت الشاطئ، قالت التحدي خاص بعصر نزول القرآن، لا، التحدي بالقرآن مستمراً إلى قيام الساعة: "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا"، هذه الآية مطلقة ومستمرة بكل أجيال الإنس والجن.

إذاً، فهذه خصوصية لا نجدها في سائر الكتب السماوية. هذه الخصائص للقرآن الكريم جعلت القرآن كتاباً إلهياً فريداً من نوعه، ولهذا نحن نقول إن القرآن بسبب هذا التفرد الذي امتاز به قادراً على أن يواكب العصر وأن يبقى في كل زمان كتاباً بمضامينه، بقيمه، بمبادئه قادراً على أن يقدم النور والهداية للبشرية. ولذلك القرآن نفسه وصف نفسه بأوصاف كثيرة. الزركشي في القرآن يحصي 55 اسم وصفة وصف القرآن نفسه بها: أنه نور، أنه بشرى، أنه موعظة، أنه رحمة، أنه ذكر، أنه فرقان، أنه كتاب، وهكذا أوصاف عديدة. كل صفة تشير إلى جانب مهم من جوانب القرآن الكريم.

إذاً، إلى هنا وقفنا على السبب الأساسي الذي نعتقد من خلاله أن القرآن يتفرد عن بقية الكتب السماوية. ولذلك إن آل أمر كثير من الكتب السماوية إلى الذبول وإلى الموت فإن القرآن الكريم لا يمكن أن يموت. وهذا ما تنبأ به أهل القرآن وعدل القرآن. أمير المؤمنين سلام الله عليه في خطبه في نهج البلاغة يتحدث عن القرآن، يقول: "ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به".

إذاً، فالقرآن الكريم هو كتاب الإسلام الخالد الذي سيبقى معجزاً إلى قيام الساعة، بل وإلى ما بعد الساعة. الروايات حينما تتحدث عن القرآن الكريم تبين مقام القرآن في يوم القيامة وفي العوالم الأخرى، وكيف ستكون شفاعة القرآن وكيف سيكون القرآن شافعاً لقراءه وحملته. وليس المقصود من القراءة هنا التلفظ بألفاظ القرآن، لا، القراءة يعني أن تجمع ألفاظ القرآن في عقلك وقلبك وتهتدي بمضامين القرآن. هذا هو معنى قراء القرآن وحملة القرآن.

 

إلى هنا وقفنا من خلال المحور الأول على الخصائص التي تميز القرآن الكريم عن سائر الكتب السماوية الأخرى. زين، هنا إشكال يطرح، وهذا ما سنخصص المحور الثاني له. القرآن يبتلى بإشكالات. اليوم توجد يعني عدد كبير من الإشكالات التي تطرح على القرآن الكريم، إشكالات علمية، إشكالات تاريخية، ومنذ نزول القرآن الكريم والمعاندين وغير المؤمنين بالقرآن يوجهون سهامهم إلى القرآن الكريم، يشكلون على القرآن، ويستمر هذا السبيل إلى ازدهار حركة الإشكال على القرآن حينما بدأت حركة الاستشراق من قبل المبشرين المسيحيين في نهايات القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر الميلادي. تحركات المستشرقين قوية، وجدوا أن العمود الفقري للإسلام وللدين الإسلامي هو القرآن، فإذا وجهوا سهامهم إلى القرآن فهو يستطيعون أن يؤثروا ويسقطوا قيمته هذا الدين وهذا الكتاب. ولذلك صارت هناك سيول متصلة من الإشكالات على القرآن الكريم.

فقد يقول قائل: هناك إشكالات عديدة على القرآن، ابتدأها المستشرقون ولا زالت إلى اليوم تتداول، خصوصاً في الفترة المتأخرة صارت هناك منصات وفضائيات ومواقع على التواصل الاجتماعي فقط همها أن توجه سهام النقد للقرآن الكريم. وهذا دليل في الحقيقة على أن القرآن مثمر وأثره عظيم وبليغ، لأن الذي يرمى إنما الشجرة المثمرة لأن القرآن له ثمار عظيمة، لذلك يوجه هؤلاء سهامهم إليه.

تعالوا نجيب عن هذا الإشكال، ما دامت هناك إشكالات عديدة على القرآن الكريم، إشكالات علمية، لماذا القرآن عبر عن الأراضين بأنها أراضين سبع، والحال أن الكشف العلمي اليوم يؤكد على أنه لا توجد إلا أرض واحدة؟ يعني إذا قبلنا أن هناك سماوات سبع، كما يقرر علماء الفلك طبقات الجو الكثيرة من السماء الدنيا ومنها الفضاء الخارجي، فالقول بأن هناك سماوات سبع مقبول، لكن كيف تكون هناك أراضين سبع؟ فكيف يقول القرآن بأن هناك أراضين؟ هذا إشكال علمي اليوم يتداول بكثرة.

 

من الإشكالات أيضاً، الإشكالات التاريخية، شلون يشير القرآن إلى أن هناك رجل في دولة فرعون اسمه هامان، والحال أن التوراة وكل الكتب التاريخية التي كتبت عن سيرة الفراعنة والمصريين لم تشر إلى وجود رجل بهذا الاسم، خصوصاً في العهد الذي عاش فيه موسى عليه السلام. وفرعون موسى بحسب الرواية التوراتية لم يكن من وزرائه رجل اسمه هامان. فإذن هذا خطأ أيضاً تاريخي وقع فيه القرآن الكريم بحسب دعوى هذا المستشكل. فإذاً كيف يصمد القرآن أمام هذا السيل المتواصل من الإشكالات؟ كيف نعالج هذه المسألة؟ هنا يوجد طريقان أو منهجان للمعالجة، التفتوا إليها.

الطريق الأول: ما سلكه جملة من العلماء والمحققين:

وقالوا إن كثرة الإشكالات التي تثار من هنا وهناك تستدعي أن نعالج المنبع لهذه الإشكالات، الأساس الذي تبنى عليه هذه الإشكالات، فإذا عالجنا الأساس الذي تبنى عليه هذه الإشكالات انتفعت كل الإشكالات من دون الخوض في تفاصيلها. وهنا قدمت محاولتان، التفتوا إليهما.

المحاولة الأولى، ما يطرحه بعضهم يقول: من الذي قال لكم بأن القرآن الكريم عرض حقائق هو يراها حقائق واقعية حتى أنت تجي تشكل وتقول إن القرآن أشار إلى أراضين سبع وأشار إلى وجود رجل اسمه هامان، وتجي تحاول تعالج هذا الإشكال. من الذي قال لكم بأن القرآن حينما تحدث عن أراضين سبع إن كان قد تحدث كما سنبين أو حينما تحدث عن وجود شخص اسمه هامان؟ من قال لكم بأن القرآن يتحدث عن حقائق واقعية؟ لا، القرآن إنما قال هذا الكلام مجاراة لثقافة العصر الذي نزل فيه. شلون يعني؟ لأن مجتمع عربي الجاهلية المرتبطين بأهل الكتاب المتصلين بهم في البيئة المحيطة بهم كانت هكذا ثقافتهم، فالقرآن جارى هذه الثقافة العربية الشائعة في ذلك الوقت برغم خطأها، والسبب الذي دعى القرآن لمجاراة هذه الثقافة في ذلك العصر سببين: السبب الأول أنه كان يريد أن يجذب اهتمام هؤلاء ويجعلهم يقبلون عليه ككتاب إلهي، فالأفضل حتى يقبلون عليه أن يقدم أموراً هم يؤمنون بها وهم مقتنعون بها حتى يقولون هذا القرآن يوافق حضارتنا وثقافتنا هذا سبب أول.

 

السبب الثاني: أنه لو عرض حقائق لا يؤمنون بها وتحدث عن أمور هم في ثقاقتهم يرونها خاطئة سيفتح معهم جبهة معارضة جدال ومعركة في معالجة هذه القضايا ورفض أقوالهم وإثبات صحة أقواله وصحة الحقائق التي يتحدث عنها. سيفتح له جبهة مواجهة هو في غنى عنها، جبهة مواجهة مواجهته الأساسية هي قضية التوحيد، ويريد من هؤلاء أن يؤمنوا بوحدانية الله سبحانه وتعالى. فلما يقدم حقائقهم لا يتفقون معه فيها، راح يدخل في جدل وياهم وتنزل آيات فقط من أجل إقناعهم حول هذه القضايا. فحتى يسد على نفسه الباب جاراهم في طرح هذه الأمور. وبالتالي، فهذه القضايا التي تتصورون أن القرآن أخطأ فيها، لا، هذه مجرد مجاراة لثقافة كانت خاطئة في ذلك العصر. وبالتالي، لا يمكن أن تشكل على القرآن وتقولون بأن القرآن جاء بحقائق غير صحيحة، لأن القرآن ملتفت إلى أن هذه الحقائق غير صحيحة ولكن جارى فيها ثقافة العصر الذي نزل فيه.

هذه المحاولة من الواضح أنها محاولة تعيسة، وتعيسة جداً، وذلك لعدة أسباب. السبب الأول، أنه إذا قبلنا بهذا المعنى فمعنى ذلك أننا سلمنا بأن القرآن توجد فيه أخطاء، بأن القرآن فيه حقائق غير صحيحة حتى لو كانت الحجة أنه جارى العصر الذي نزل فيه. بالتالي أنت سلمت بوجود هذا الإشكال في حين أن القرآن يؤكد على أنه "لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"، القرآن يدعي أنه لا يوجد فيه اختلاف ولا توجد فيه حقائق غير صحيحة. وبالتالي، هذه المحاولة أول ما تصطدم به أنها تسلم بهذه الإشكالات وأنها لا تتوافق مع النص القرآني. النص القرآني يؤكد على أنه لا يمكن أن تجد في القرآن خللاً، لا يمكن أن تجد في القرآن حقيقة غير صحيحة، وحجة المجاراة لثقافة العصر هذه لا تبرر أن يجعل القرآن بعض مضامينه غير صحيحة. إذاً، فهذه المحاولة ساقطة لهذا السبب الأول.

السبب الثاني، أن القرآن كيف يساير ثقافة العصر الذي نزل فيه وهو يقدم نفسه أنه كتاب سيبقى إلى أبد الدهر ويساير ثقافة كل العصور؟ فإذا من غير المعقول أن يغلب ثقافة عصر على عصر آخر وينزل متوافق مع حقائق ثقافة ذلك العصر ويتقاطع ويتعارض مع ثقافة العصور القادمة، إذاً هذه المحاولة محاولة غير صحيحة لهذا السبب أيضاً.

 

السبب الثالث، أنه إن كان الغرض من مجاراة ثقافة العصر، أن القرآن، كما يقول صاحب هذه المحاولة، إن القرآن لا يريد أن يفتح جبهة أخرى مع هؤلاء ويريد أن يركز معركته على المعركة التوحيدية، كان بإمكانه أن لا يتعرض من الأساس لهذه الحقائق من دون أن يسايرهم في حقائق خاطئة. إذاً، من هنا نقول إن هذه المحاولة محاولة غير صحيحة وأنها محاولة في الحقيقة تنطوي على التسليم بالإشكالات. فإذاً، القرآن الكريم لا يمكن أن يساير ثقافة العصر الذي نزل فيه من خلال تقديم حقائق غير صحيحة، لا، القرآن يقدم الحقائق الواقعية ويعرضها بلغة يفهمها العصر الذي نزل فيه، يفهمها أصحاب العصر الذي نزل فيه، ويفهمها أصحاب العصور اللاحقة أيضاً بالوعي وبالنحو الذي يتناسب مع وعيهم وفهمهم. إذاً، فالمحاولة الأولى محاولة ساقطة.

المحاولة الثانية، ونعم، هذه المحاولة الثانية محاولة صحيحة. المحاولة الثانية تقول إن جملة من الإشكالات التي يطرحها هؤلاء قائمة على فهمهم للقرآن، لا قائمة على النص القرآني بظهوره. التفتوا إلى هذه الإجابة أو هذا الجواب. صاحب هذا الجواب يقول: بدل ما نروح وناخذ الإشكالات إشكال إشكال، وكل إشكال نقدم له جواب ومعالجة، تعال نعالج الجذر الأساسي الذي تنبع منه هذه الإشكالات. ما هو الجذر الأساسي؟ إن جملة من الإشكالات، كل الإشكالات التي تطرح على القرآن في هذا السياق منشؤها فهم المستشكل، فهم صاحب الإشكال. هو يجي يفهم آيات القرآن بطريقته، ثم يبني على فهمه للقرآن إشكالاً. إذاً، يصبح الإشكال إشكالاً على فهمه وليس إشكالاً على النص القرآني. تجي أنت تفهم الآية القرآنية بحسب ذوقك، ثم تقول عندي إشكال على القرآن، وهذا الإشكال قائم على فهمك. هذا مثل ما يقولون العرب: "رمتني بدائها وانسلت"، يجي يلصق فهمه بالقرآن، ويطرح إشكالاً على فهمه للقرآن، ويقول هذا إشكال على القرآن. أعطيك بعض الأمثلة، الإشكال الذي أشرنا إليه. كثير ممن تحدثوا عن الإشكالات العلمية في القرآن الكريم أشكلوا بهذا: كيف القرآن الكريم يتحدث عن أن هناك سبعة أراضين، والحال أن العلم اليوم أثبت أنه لا توجد إلا أرض واحدة. نقول له: أين أشار القرآن إلى وجود سبع أراضين؟ القرآن الكريم ورد فيه الأرض في  أكثر من ٤٢٠ آية، لا نجدها في آية واحدة بصيغة الجمع. كل الآيات القرآنية التي وردت فيها لفظة الأرض تراها بصيغة المفرد. نعم السماوات تُجمع، لكن الأرض دائماً مفردة: سماوات وأرض، رب السماوات والأرض. فإذاً، لا توجد عندنا آية قرآنية واحدة عبرت عن الأرض بلفظ الجمع. راجع القرآن الكريم، كل الآيات التي وردت فيها لفظة الأرض وردت بلفظة مفردة، والآيات التي قُرن فيها لفظ الأرض بالسماوات تجي السماوات جمع والأرض مفرد، وهذه ٢٠٠ مورد.

 

إذاً، من أين نشأ هذا الإشكال؟ نشأ من آية واحدة: "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن". جاء هذا المستشكل وقال: ما دام القرآن يقول مثلهن، إذاً فالمقصود سبع أراضي. من قال بأن المثلية المقصودة هنا المثلية العددية؟ لا، القرآن هنا يتحدث عن مثلية الإتقان، يعني كما أتقن خلق السماوات السبع، أتقن أيضاً خلق الأرض. فإذا هنا لا يتحدث القرآن عن عدد الأراضي حتى يقال أن القرآن قال أن هناك سبع أراضي إذا كان القرآن يرى بأنه هناك سبع أراضي! لماذا تتكرر ٢٠٠ آية تأتي فيها لفظ السماء بصيغة الجمع ولا تأتي فيها لفظة الأرض بصيغة الجمع، يعني هل من المعقول أن القرآن يرى أن عدد الأراضين سبع وفي كل هذه الآيات دائماً يعبر عن الأرض بلفظ مفرد، إذاً ظاهر هذه الآيات أن القرآن يتحدث عن أرض مفردة وعن سماوات سبع، مضافاً إلى أنه، وهذا ينقلنا إلى المنهج الثالث في الجواب، المحاولة الثالثة التي تجيب على لب الإشكالات.

 المحاولة الثالثة تقول إنه لو ثبت أن القرآن الكريم بظاهره القطعي يقرر حقيقة ما، ولو كانت هذه الحقيقة حقيقة علمية أو حقيقة تاريخية، بحيث أصبح الظهور القرآني يؤكد على هذه الحقيقة، وليس أفهام من فسروا النص القرآني، لا، لو فرضنا أن هناك ظهور وتنصيص واضح من الآيات القرآنية بحيث يجمع كل من طالع القرآن على أن هذا هو مدلول الآية القرآنية. إذا ظهر لنا من القرآن حقيقة علمية أو حقيقة تاريخية بهذه المثابة، فحينئذ نقول ينبغي لنا أن نقدم وضوح هذه الحقيقة القرآنية لأنها إخبار غيبي على ما سيتكشف للبشرية من حقائق علمية، لأن الحقائق العلمية أيضاً أو كشوفات العلمية في حالة تجدد وفي حالة تبدل. فإذا فرضنا أن القرآن الكريم قرر حقيقة علمية بنحو لا يقبل الشك والريب، نقول إذاً نحن لا نتهم ظهور القرآن ولا نتهم القرآن بأنه يخبر عن حقيقة غير صحيحة، لا، وإنما نتهم الكشف العلمي ونقول: أمهلوا الزمان وسيصل الكشف العلمي إلى نتيجة تبرهن على صحة ما طرحه القرآن الكريم.

لاحظوا مثلاً الآيات التي تتحدث عن أن السماء والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، يقف عندها بعض علماء الفلك يقول: لم أجد آية في وضوح إشارتها إلى ما يطرحه الفلكيون اليوم في نظرية الانفجار العظيم من هذه الآية المباركة. نحن نقول بغض النظر عن كون نظرية الانفجار العظيم صحيحة أو غير صحيحة، مع أن البراهين اليوم والفرضية العلمية الثابتة التي لا توجد فرضية بديلة عنها هي نظرية الانفجار العظيم، مع خلاف في تصوير حقيقة الانفجار. الملحدون الطبيعيون يقولون إن الانفجار حصل لوحده، بينما الموحدون يقولون إن الانفجار حصل بفعل فاعل وبوجود قوة ذكية، يعني بوجود إله مدبر هو الذي أنشأ هذا الكون بهذه الطريقة. نحن نقول إن ظهور الآية القرآنية إذا كان واضحاً تجاه كشف علمي، إن كان هذا الكشف العلمي حقيقة علمية مسلمة لا تقبل التغير والتبدل، فحين إذاً نقول إن النص القرآني أشار إليها، ويكون ظهور النص القرآني مؤيداً لصحة هذه الحقيقة، كما هو الحال في الآيات القرآنية التي تتحدث عن حركة الأرض، عن حركة الشمس، عن كروية الأرض، لأن هذه الأمور أصبحت حقائق علمية لا يمكن أن تتبدل في يوم من الأيام. أما إذا كانت الحقيقة العلمية المزعومة تقاطع القرآن معها لا زالت في طور التبدل، بمعنى أنها لا زالت نظرية علمية وليست حقيقة أو مسلمة علمية، فنقول إن الوحي أصدق من هذه النظريات الظنية التي يطرحها الإنسان الذي هو يسير في صراط الاجتهاد لكشف علوم الطبيعة. ولذلك لاحظوا المثال التاريخي الذي تحدثوا عنه أن القرآن أخطأ تاريخياً حينما تحدث عن هامان.

 

القرآن في عدة آيات يتحدث عن فرعون، إنه خاطب هامان، "يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أطلع على أسباب السماوات والأرض"، فهذه الآية التي تصور أن لفرعون وزيراً اسمه هامان، وقعت محل إشكال عند كثير من الباحثين والمؤرخين. قالوا إن الرواية التوراتية لا تشير إلى وجود رجل اسمه هامان في عصر موسى عليه السلام. ومن هنا طرح بعض العلماء، بعض المفسرين المسلمين، أن المقصود منها هامان تعريب لاسم آمون، يعني كما عرب القرآن الكريم اسماء الأنبياء أبراهام صار إبراهيم موشي صار موسى وجيسسس صار عيسى. كما عرب القرآن هذه الأسماء بلغاتها القديمة بلفظ عربي عرب أيضاً لفظ آمون الذي يقرأ في بعض نسخ التوراة آمان عربه باسم هامان، وهذا حل من الحلول يقدم الشيخ محمد علي معرفة في كتابه شبهات وردود حول القرآن الكريم. الرأي الأصوات ما يشير إليه بعض الباحثين، بعض الباحثين في علوم الآثار، يقول في العقود الأخيرة لما كشفت اللغة الهيروغليفية، لغة الفراعنة المصريين، وقفوا على حجر يعني من المخطوطات الهيروغليفية الفرعونية القديمة، فيه إشارة واضحة لوجود رجل في عصر فرعون، فرعون موسى، اسمه هامان. وهذا الحجر لا زال محفوظ في بعض المتاحف العالمية، في متحف فيينا، لا زال هذا الحجر موجود، وينص على، يعني هذه الكتابة تنص على وجود رجل في دولة فرعون اسمه هامان. والملفت للنظر أن هذه المخطوطة تؤكد أن هامان كان المسؤول عن إقامة الأبنية في زمان فرعون، يعني تماماً كما وصف القرآن أن فرعون خاطب الرجل المختص بالبناء ليبني له صرحاً. إذاً، في الكشوفات التاريخية المتأخرة كشفت خطأ تعبير هؤلاء الذين أشكلوا على القرآن الكريم، لأنهم لم يتصبروا، يعني ما انتظروا إلى أن تظهر الكشوفات التي القرآن الكريم سبق إلى الإشارة إليها.

ثم هنا إشكال: لو فرضنا أن هامان غير موجود في ثقافة أهل الكتاب، لكانت هذه فرصة سانحة لليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وآله أن يشكلوا عليه ويعترضوا عليه. يقولون من أين جئت بهذا الاسم؟ خصوصاً أن اليهود يتربصون بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله أي سقطة وأي غلطة، للنيل من القرآن والنيل من رسالة النبي صلى الله عليه وآله، لكن سكوت اليهود وإقرارهم بصحة ما أشار إليه القرآن الكريم يؤكد أن القرآن الكريم يتحدث عن واقع، وأن من أشكل على القرآن بأنه أشار إلى وجود شخصية وهمية هو الذي لم يكن على اطلاع بما اطلع عليه القرآن الكريم وأشار إليه. ومن هنا نقول يبقى القرآن الكريم صامداً أمام هذه الإشكالات الواهية التي تشكل عليه من هنا وهناك.

 

تعالوا إلى المحور الأخير. نحن نقول إن القرآن الكريم اليوم إذا أردنا أن نقدمه للمجتمعات الإنسانية ونقدمه ككتاب رائد لبناء رؤية حضارية تضاهي المشاريع الحضارية القائمة والشاخصة، فنحن لا نقدم القرآن ككتاب علوم وكتاب نظريات، لا، لا. القرآن الكريم وإن كانت فيه حقائق علمية، وإن كانت فيه إشارات إعجازية في هذا السبيل، لكن الوظيفة الأساسية للقرآن أنه كتاب هداية، كتاب نور، كتاب يريد أن ينقذ الإنسان من ظلمات الجهل، من ظلمات النفس الأمارة بالسوء. القرآن الكريم كتاب روحي، القرآن الكريم كتاب نور يريد أن يبعث النور في قلوب الناس. فنحن إذا أردنا أن نقدم القرآن اليوم ككتاب تُبنى من خلاله رؤية حضارية أمام الرؤى الحضارية المعاصرة، فنحن نقدم القرآن ككتاب معنوي، كتاب يحمل مضامين معنوية تخلص المجتمع البشري من حالة الانحدار التي بدأ ينزلق إليها. نحن نقدم القرآن الكريم ككتاب سلام، ككتاب رحمة في قبال هذا التوحش الذي تعيشه المجتمعات الإنسانية اليوم. اليوم المجتمع البشري بتعبير القرآن الكريم يعيش حالة موت الضمير الإنساني اليوم يعيش حالة احتضار. مجاعات في أقطار كثيرة من الأرض، ملايين البشر تموت في كل ساعة، إبادات جماعية، وحرمان لكثير من أفراد المجتمع من الفقراء والمحرومين في سبيل أن يتمتع بثروات الأرض حفنة من الأثرياء. اليوم توغل رأس المال في المجتمع الغربي يؤكد على أن تسعة أعشار ثروة الأرض في يد حفنة من البشر لا يتجاوز عددهم الواحد من عشرة بالمئة. هل هذا تقسيم عادل؟ هل هذه هي الرؤية الحضارية التي يبشر بها المشروع الآخر؟ إذاً، نحن أمام حالة تعيشها المجتمعات الإنسانية فيها جفاف في الجانب الروحي فيها جفاف في جانب الرحمة فيها توحش على المستوى الاقتصادي، فيها توحش على المستوى السياسي، فيها توحش على المستوى الإنساني والغريزي. أصبح هم المجتمع المتحضر اليوم إشباع الغرائز. هم المجتمع المتحضر اليوم كيف يعطي للمثلي حقه. هم المجتمع المتحضر اليوم كيف يعطي للغلمان البيدوفيلي حقه، اللي عنده ميول جنسية شاذة، كيف يُعطى حقه. وفي المقابل تموت ملايين البشر ولا يندى ولا يتحرك ولا يرف للبشرية جفن مقابل هذه الانتهاكات وهذه الحالات المؤلمة التي يعيشها المجتمع الإنساني.

إذاً، نحن نقدم القرآن الكريم، لا نقدمه ككتاب علمي، إنما نقدمه ككتاب ينقذ البشرية من حالة الاحتضار الفطري الذي تعيشه. الضمير الإنساني اليوم يحتضر أمام هذه المآسي التي يعيشها المجتمع الإنساني. وهذا ما يبشر به القرآن حينما يطرح أن هناك مشروع حضاري تقيمه شخصية إلهية تنقذ المجتمع الإنساني من حالة الظلم والغطرسة والجور. وهذا هو معنى مشروع المهدي، سلام الله عليه، الذي تطرحه الرؤية الإسلامية: "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً". ليش شعار الحركة المهدوية العدل والمساواة؟ لأن الظلم والجور هو السائد. فإذاً، حقوق المحرومين والعدل والمساواة بين طبقات المجتمع وشرائح المجتمع هو ما تنشده البشرية اليوم وهو ما ينشده القرآن الكريم. وهو الذي سيحييه صاحب المشروع القرآني الذي يرسله الله سبحانه وتعالى في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا. وهذا تماماً ما أراده الإمام الحسين سلام الله عليه حينما ضحى بنفسه إنما أراد أن ينشر قيم العدل والمساواة، أراد أن يعيد الروح المفقودة للقرآن حينما هجرته الأمة ويرجع القرآن ومضامين القرآن.

 

ولذلك كان سفيره إلى الكوفة مسلم بن عقيل أيضاً يحمل نفس الرسالة. حينما تتحدث المصادر عن سيرة مسلم عليه السلام، كان رجل سلام، مضى إلى الكوفة، لم يثر بلابل، وما كانت حركة مسلم عليه السلام حينما مضى إلى الكوفة حركة جبر وقسر وحركة سيف، أبداً. مسلم جاء إلى الكوفة ونزل في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي وقرأ على المحبين للإمام الحسين الذين كاتبوا الإمام الحسين، قرأ عليهم كتابه، يعني مشروعه مشروع سلم: أنتم طلبتم الحسين، أنا رسول الحسين إليكم. فبايعه، تقول الرواية، 18,000 رجل في أيام معدودة، ثم بدأت دعوة مسلم وحركة مسلم تتزايد في ظل الحركة السلمية. ما كان مسلم رجل سيف، ولكن مسلم رجل سلاح. إذاً، فمشاريع أهل البيت مشاريع السلم. ولذلك بقي مسلم على هذه الحالة من المسالمة إلى أن غدر به أهل الكوفة.

تقول الرواية صلى ليلته الأخيرة وخلفه في المسجد ٥٠٠ رجل، وبعض الروايات تقول ١٠٠ رجل، أنهى صلاته فلم يجد من يدله على الطريق، خرج من المسجد لا يدري إلى أين يمضي. وكيف هذا موقف مؤلم، الإنسان اللي عاش حالة من الغربة، اللي عاش أيام من الغربة يدرك مرارة هذا الموقف حينما يجد نفسه في بلد غريب ليس معه أحد وفي ليل موحش وليل مظلم. وابن زياد بث جواسيسه في كل مكان يتربصون بمسلم، لذلك صار مسلم يتردد في تحركه إلى أين يمضي، يمين شمال، يتهادى. بعضهم يقول سرح جواده، خلى جواده يتحرك في مسار، وهو تحرك في مسار آخر إلى أن قادته الأقدار إلى دار، على بابه امرأة واقفة دار طوعة. وقف مسلم في قبال هذا الباب وأطرق برأسه إلى الأرض، موقف عظيم، خصوصاً إذا كان إنسان صاحب كرامة صاحب عزة مثل مسلم بن عقيل سلام الله عليه. فأطرق برأسه إلى الأرض، التفتت إليه طوعة، قالت له: يا هذا، لا أحل لك الوقوف أمام باب داري. بماذا يجيبها مسلم؟ مسلم يعرف أن العرب في عاداتهم إذا استطرقوا لطلب الماء هذا لا يعد عيباً، أنت عيب تقول لإنسان أنا جوعان، لكن ما عيب أنك تقول له أنا عطشان، لأن الماء يبذل لكل أحد. لذلك رأى مسلم أن يفاتح هذه المرأة بطلب الماء، قال لها: أمة الله، إني عطشان. قالت: حبًّا وكرامة. جاءت إليه بقليل من الماء أعطته إلى مسلم، شرب مسلم وبقي واقفاً حائراً، رجع أطرق برأسه إلى الأرض، التفتت إليه طوعة، قالت: يا هذا شربت الماء، فما وقوفك؟ وهذه  كلمة حقيقة تجرح المشاعر، قالت له: يا هذا، أنت رجل أجنبي، والإنسان العفيف صاحب الشهامة تجرح هذه الكلمات، يا هذا، أنت رجل أجنبي، وأنا لا أحل لك الوقوف على باب داري، أطرق مسلم برأسه إلى الأرض ملياً ثم تحرك خطوات أراد أن ينصرف، بعدين التفت إلى الوراء، بعد وصل مسلم إلى حال لابد له منه، قال لها: أمة الله هلا تضيفيني سواد هذه الليلة. وجزاؤك على رسول الله، موقف عظيم، رجل أجنبي يعرض على امرأة أجنبية أن تضيفه في دارها، وجزاؤك على رسول الله يوم القيامة. هذه امرأة محبة وسمعت اسم رسول الله، قالت له: من أنت يا هذا الذي تعدني بالجزاء على رسول الله في يوم القيامة؟ قال لها: أنا مسلم بن عقيل. ولما سمعت اسم مسلم، انشرح قلبها، ما دمت أنت مسلم، فأنا خادمة بين يديك، تفضل سيدي، تفضل على الرحب والسعة. فرح مسلم بهذا الاستقبال وهذه الحفاوة ودخل إلى دار طوعة، وأفردت له غرفة من غرف الدار. لكن مسلم رجل العبادة، رجل القرآن. قالت له: يا مسلم، هل أتيك بطعام أو شراب؟ قال: لا، إنما ائتني بماء لأجدد وضوئي، فعلاً أسبغ الوضوء ولا زال ليلته تلك قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً يتلو القرآن، إلى أن هومت عيناه بالنوم. رأى عمه أمير المؤمنين وهو يقول له: يا مسلم، العجل، العجل. أجركم الله، رجع ابن طوعة، رآها تكثر من الدخول والخروج على هذه الدار، سألها، أخفت عليه؟ أعطاها العهود والمواثيق، قالت له: إن في الدار مسلم بن عقيل. أصبح الصباح هرول إلى قصر الإمارة: البشرى، البشرى يا ابن زياد. ما الخبر؟ إن أمي تجير الأعداء، إن في الدار مسلم بن عقيل.

 

تقول الرواية طوقه بطوق من ذهب والتفت إلى ابن الأشعث، قال: امضِ إلى دار هذا الشاب واتني بمسلم أسيراً أو قتيلاً. طوعة، جائت إلى مسلم، قالت له: سيدي، ما أراك ذقت طعم الرقاد ليلة البارحة. فقال: نعم يا طوعة، غفوت هنيئة، فرأيت عمي أمير المؤمنين وهو يقول لي: العجل. سيدي، برؤياك؟ قال: إن صدقت رؤياي فإني مقتول اليوم.

النبي صلى الله عليه وآله يقول: مصاب مسلم تدمع عليه عيون المؤمنين، فعلاً، ما أصبح الصباح إلا وصوت قعقعة اللجم وصهيل الخيل قد أحاط بيت طوعة. جاءت طوعة إلى مسلم، قالت له: سيدي، انهض، فقد جاءك القوم. من حيث تحذر قال: لا عليك، ناوليني لامة حربي. جاءت طوعة تشجع تشجع مسلم، هجموا عليه الدار أخرجهم من ببطولته وبصولاته وجولاته، قتل فيهم مقتلة عظيمة وهو يرتجز ويقول: أقسمت أن لا أقتل إلا حراً، وإن رأيت الموت شيئاً نكراً. أخاف أن أخدع أو أغرّا. قال له ابن الأشعث يا مسلم لا تقتل نفسك لن تخدع ولن تغرّ سلم نفسك ولك الأمان، قال: لا أمان لكم يا أهل الكوفة. لكن تدري ما هو المؤلم يا مؤمن المؤلم كما يقول ابن الأثير في الكامل، اشترك في قتاله الرجال والنساء والأطفال، الرجال عرفنا دورهم بالسيف ولكن النساء ما دورهم؟  كن يرمين مشاعل النار من على سطوح الدور على مسلم. الأطفال يرمون مسلم بالحجارة، عز على مسلم هذا الموقف فقال: ويحكم ما لكم ترموني كما ترمون الكفار! أحدث فيهم قتلاً عظيماً، طلب ابن الأشعث المدد من ابن زياد، أمده. بينما مسلم يقاتل، بعضهم، يعني، انهزموا من بين يديه. الطريحي يقول حفروا له حفيرة، كر عليهم، فما انجلت الغبرة إلا ومسلم واقع في الحفيرة، أرادوا أن يأخذوهم مقيداً. دمعت عينا مسلم،  قال له بعضهم: من يملك شجاعتك، لا يبكي إذا نزل به الموت؟ فقال: ويحك، ما لنفسي بكيت، إذاً على من يبكي مسلم؟ أبكي لأهلي القادمين بعدي. يعني يبكي على من؟ يبكي حسيناً وآل حسينا، أخذوه ملبباً  بحمائل سيفه، دخل قصر الإمارة، ولم يسلم على ابن زياد. قال له الحرسي: لما لم تسلم على الأمير؟ قال: ويحك، ما هو لي بأمير. إذاً من هو أمير مسلم؟ أميري حسين ونعم الأمير؟ قال ابن زياد: سلمت أو لم تسلم، فإنك مقتول لا محالة. طلب مسلم شيئاً من الماء، جيء إليه بماء أراد أن يشرب، فنزلت الدماء من شفته، رد الماء، طلب آخر، كذلك سالت دماؤه فيه، فقال: لو كان من الرزق المحتوم لشربته. يعني مكتوب يا مسلم أن تواسي الحسين وأن تموت عطشاناً كما مات الحسين عطشاناً. نادى ابن زياد: أين بكر بن حمران؟ قال: اصعد بمسلم إلى أعلى القصر واضرب عنقه وارمِ بجثته إلى الأرض. صعدوا بمسلم وهو يكثر من التهليل والتسبيح، لما أراد أن يقطع رقبته استمهله ليصلي لله ركعتين، أمهله، صلى مسلم، فلما انفتل من صلاته رفع اللعين السيف وأهوى به على رقبة مسلم، ثم رمى بجثته من أعلى القصر إلى الأرض.

إلهنا وسيدنا ومولانا، بباب الحوائج عندك مسلم بن عقيل، فرج عنا يا الله، شافي مرضانا ومرضى المؤمنين، وعجل لوليك الفرج.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد