لقاءات

فريد النّمر: الشّعر نوع من هذيان المخيّلة ومرونة اللّغة

نصوصه الشّعريّة يميّزها المطلع الرّشيق والعتبات الملفتة، دائمًا ما يحاول من خلال كتاباته أن يشحذ الطّاقة الكامنة للسّؤال، عبر هطول غيمة اللّغة كيما نشعر ببردها ودفئها، الشّعر عنده نوع من هذيان المخيّلة، وهو حاجة جماليّة وإنسانيّة. إنّه الشّاعر فريد النّمر، الّذي حاورته: *نسرين نجم*.

 

يقول البعض إنَّ الشّعر هو حالة من التّرف الفكريّ، ويراه البعض الآخر وليد التّجارب الحياتيّة الصّعبة والمؤلمة، إلى أيّ اتجاه يميل الشّاعر فريد النّمر؟

(الشّعر.. هو حاجة جماليّة وإنسانيّة ماسّة، لازمت خلق الإنسان مذ أن وهبه الله عزّ وجلّ  إحساسًا فطريًّا جوّانيًّا، وأردفه بالحواسّ الخمس المادّيّة كعلاقة جسديّة وروحيّة، إلّا أنّ الشّاعر المأخوذ باللّغة، والّذي وهبه الله حكمة الشّعر وبيانها في أبعادها المشرقة، أجاد مسك اللّغة من عمقه الدّاخليّ، لتفجير طاقة اللّغة الجماليّة الكامنة، وصقل موهبته وذاته الشّاعرة بالمعرفة والتّجربة، ليجعل من خلقه الجديد أي - القصيدة - شعرًا تصنعه اللّحظة الجماليّة تارة، أو الموقف أو المعاناة أو التّأمّلات الكونيّة والوجوديّة، أو ما تفرزه الحياة من طبيعة يتفاعل معها... 

وكلّ هذا يأتي على شكل أسئلة كبرى نابعة من الإحساس المتجلّي ذاته، الّذي نسمّيه القصيدة المبدعة، وهذا ما أميل إليه شخصيًّا في رؤيا الشّعر، وملازمته للوجدان البشريّ، منذ أوّل هدهدة إيقاعيّة لأمّ لمهد وليدها، حتّى عظيمات القصائد الخالدة في عمودها الشّعريّ والتّفعيليّ، وليس بآخرها في تصويره النّثريّ الكثيف والعميق لمعنى الشّعر). 

 

 

ما بين الفلسفة والشّعر، هل على القصيدة أن تترنّح بين الوضوح واللّاوضوح، والبغتة واللّابغتة؟

(ليس تمامًا، فالفلسفة هي شرح دائم للأسئلة وأجوبتها (العاقلة) وتفاصيلها تمامًا، والتي تؤدّي لإيضاح المبهم عبر تسلسل المفهوم والمنطق الواعي جدًّا، بينما الشّعر هو نوع من هذيان المخيّلة ومرونة اللّغة، عبر تركيبات لفظيّة وتصويريّة، يطلقها اللّاوعي لتسبر مناطق العتمات في الرّوح البشريّة، لتفتح بها كوّة ضوء تلامس وجدان الشّاعر والمتلقّي (الناس) على السّواء، من خلال دهشتها العالية، التي تصدم لغة المنطق والمفهوم المرتّبة ترتيبًا ذهنيًّا، إلى مجازات المخيال وانزياحاته اللّغوية، لتبذر فيهما ذرة المعنى الجديد، الذي ينمو ويتضاعف ويتجدد من عصر إلى عصر، مرتديًا بذلك معطفه الزّمنيّ الخاصّ، ومن هنا جاءت التّحوّلات الشّعريّة المتجدّدة عبر العصور ومراحلها المتلاحقة، ومستفيدًا من تراثه العريض الذي اتّـخذه الشّعر لنفسه، عبر كائنه الحيّ والمتنوّع في أشكاله الشّعريّة المبدعة، لتكون القصيدة ماتعة في شاعريّتها، وليس في وضوحها أو غموضها، بل بمستوى دفقها الشّعري والشّعوري الرّفيع والمدهش).

 

عناوين القصائد تلفت انتباه القارىء مثال: "بؤبؤ عين الكون، منبع التّجلّي، هسهسة الأحاسيس وغيرها". إلى أي حدّ تتقصد اختيار أسماء قصائد ملفتة؟ وما القصد منها؟ وإلى أي مدًى لها وقع على وجدان القارىء؟

(نعم، أهميّة النّصّ الشّعريّ تأتي من عتباته اللّافتة ومطلعه الرّشيق، وهذه العتبات لا شكّ هي من نسيج النّصّيّة في النّصّ، ولعلّ القصديّة هنا ما ندّعيها نحن الشعراء بمعادل النّصّ الموضوع كمفتاح أوّليّ للنّصّ، والذي يتلقّاه المتلقّي بإحساسه وقلبه، لا بسمعه وقراءته السّطحيّة، ولعلّ هذا الاختيار أيضًا يقع من باب إشراك المتلقّي للمشاركة النّصّيّة بوجدانه، عبر أسئلته النّصّيّة وملء فراغات النّصّ التي لم يقلها الشّاعر، وهذا ما عمدت له في ديواني مثلًا "رعشة تحت الرماد"، وديوان "عطر في زجاجة شعر" و"أطفأ معاطف النّيران"، و"مراسيم لجثّة هامدة" وهكذا..).

 

إلى أيّ درجة يكتظّ قلم فريد النّمر بالأسئلة؟ ولماذا نلاحظ شذرات الحزن وكأنها وشاح لقصائدك؟

(الشّعر سؤال دائم كما نعلم، وصنّفه الأدباء والمفكّرون بالعالم، ولكن في كتاباتي أحاول أن أشحذ الطّاقة الكامنة للسّؤال عبر هطول غيمة اللّغة كي نشعر ببردها ودفئها وانكسارها وحزنها وفرحها، ولينعكس ذلك كلّه على مرايا كلّ من يدنو من جملها التّعبيريّة، صاخبةً كانت أم شفيفة باعثة للحزن أم للفرح..

أما عن الحزن في قصائدي، فهو ناجم عن الخيط الرّفيع الذي يطرق جدران المشاعر المتعلّق بالهوية من جهة، ومن جهة أخرى مدى ما تحتمله كلمة حزن في اللّغة ذاتها واتّساعها البشريّ والآدميّ منذ أن خلق الله الحزن، والّذي عبّر عنه الباري سبحانه (بفراغ فؤاد أم موسى) والّذي هو همّ لما يؤول أو سنكون عليه من المجهول الذي ينتابنا في اللّاوعي، ويتخذفنا في أعماقنا كلّما رحل حبيب أو توارى أمل أو تشظّت الحياة بنا لغير ما نريد، ومع كلّ هذا فلي نصيب مع الفرح، وله نسبة لا بأس بها في حياتي).    

 

 تقول في‏ قصيدة ( تمائم مخمليّة):

‏ أخاف منّي ولا شيئًا يخولّني

‏أن لا أخفّ بماذا حين تسألني

‏ لي وجهةُ الماء يا غيمًا تؤوّله

‏ أم البراءات والأحلام ترصدني

 هل يخاف فريد النّمر على شعره ومن شعره ولماذا؟

(هو خوف مجازيّ من مجهول مجازيّ ومستقبلي، وليس خوفًا بمعناه المفزع، ولكن سأعلّله بالقلق الدّائم حول ما نكتبه وما نقوله من شعر وما مدى أثر الفراشة فيه، وما سيؤول إليه من رسوخ أو محو وعدم، كما هو الكثير ممن محيت قصائدهم وكتاباتهم بعد أمّة من الزمن،كمن يقول لنفسه: "هل ضاع ذرّك بين الفحم". ولكن أسأل الله أن يكون هذا القليل من الشّعر، شجرة طيّبة تؤتي أكلها الشّعريّ، وتضيء جذوتها كلّ حين تلامس القلوب العامرة بالجمال والجلال والمحبّة الصّادقة).

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد