مؤتمر سنويّ يحجّ إليه كلّ المسلمين من مختلف الأعراق والجنسيّات، ليتوحّدوا حول الكعبة الشريفة، محقّقين الألفة والوئام، ويقوموا بشعيرة الحجّ التي تعدّ ركنًا عظيمًا من أركان الإسلام، وليدعوا ربًّا واحدًا، ويولّوا الوجوه والقلوب شطر بيت واحد، فتتوحد الأهداف والغايات، فالحجّ مدرسة تربوية أخلاقية (نفس – اجتماعية) عظيمة، وهي "رحلة المعشوق الطّائف حول مركز العشق". حول أبعاد الحجّ، كان لنا هذا اللّقاء مع سماحة الشيخ محمد آل عمير
حاورته: *نسرين نجم*
لماذا أولى الله سبحانه وتعالى فريضة الحج هذه الأهمية، وعدّها ركنًا من أركان الدّين الإسلاميِّ ومبادئه، وعملاً يتقرّب به المسلم إلى الله عز وجل؟
(إنّ الحجّ مـمّا بني عليه الدّين، كما في الرّوايات الشّريفة، وهذا يعني أنّ البيت العباديّ في الإسلام يتمثّل بهذا الأركان: الصّلاة والصّوم والحجّ والخمس والولاية.. فهي المخّ الذي يغذّي كيان المسلم بالعبادة، وبالتالي بكلّ الحياة. كما أنّه يتميّز بجامعيّته، فالحجّ يختصر كلَّ العبادات: ففيه حركة، وفيه صوم عن محرّمات الإحرام، وفيه شعائر جماعيّة، وفيه التّخلّي عن المشركين، وكلّ مظاهر الشّرك الخفيّ والظّاهر، وفي تجلّي العشق وتحلّي الرّوح بالفضائل، خصوصًا في ساحة البكاء والدّعاء عند تلاوة دعاء الإمام الحسين (ع) في يوم عرفة.
كما أنّه مركز الضّيافة الإلهيّة.. كما جاء عن الإمام الرّضا (عليه السلام) أنّه قال: إنّـما أمروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى الله عزّ وجلّ وطلب الزّيادة. وعنه (صلّى الله عليه وآله): الحُجّاج والعُمّار وَفْدُ الله وزُوّاره، إنْ سَألوه أَعْطاهم وإن اسْتَغْفَروه غَفَرَ لهم، وإنْ دَعَوه اسْتجابَ لهم، وإنْ شَفَعوا إليه شَفّعَهم.
ومن تجلّيات هذه الضّيافة ما روي عن أبي عبد الله الصادق (ع)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الحاجّ إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئًا ولم يضعه إلاّ كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفًّا ولم يضعه إلاّ كتب الله له مثل ذلك، وإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، وإذا سعى بين الصّفا والمروة خرج من ذنوبه، وإذا وقف بالعرفات خرج من ذنوبه، وإذا وقف بالمشعر خرج من ذنوبه، وإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، فعدَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا موطنًا كلّها تخرجه من ذنوبه، ثمّ قال: فأنّى لك أن تبلغ ما بلغ الحاجّ.
كما أنّه فرار إليه تعالى، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الفرار إلى الله، قال: (حجّوا إلى الله عز وجل). فالفرار يطلق فيما إذا واجه الإنسان أمرًا مخيفًا من جهة، ومن جهة أخرى يفزع إلى مكان يلتجئ إليه مسرعًا، فهو مرفأ الرّاحة والأمان. فالحجّ هو موعد اللّقاء مع الله، ومحطّة الانقطاع الكامل، والنّظر لكرامة الله، فالتّعبئة الرّوحيّة في الحجّ تتمثلّ بأعلى درجاتها وأقصاها، في زمن قياسي).
إذا أردنا أن نتحدّث عن أخلاقيّات الحجّ، على أيّ مشهد نحصل لمن يريد أن يمارس هذه الشّعيرة قبل الحجّ وبعده؟
(يتحدّث الإمام الصّادق (ع) عنها، بقوله: الحجّاج يصدرون على ثلاثة أصناف صنف يعتق من رضا، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمّه، وصنف يحفظ في أهله وماله ذلك أدنى ما يرجع به الحاجّ.
إنّها حالة الطّهارة المتوقّعة عند الحاجّ بعد نهاية رحلته المباركة.. هو يبدأ بأخلاقيّة الرّجوع إلى الله، وسؤال المغفرة وبراءة الذّمّة من عباد الله، وينتهي برضوانه عزّ وجل. إنّ الاهتمام بطلب براءة الذّمّة قبل الرّحلة الملكوتيّة هذه في غاية الأهمية، لكن لابدّ أن تستبطن عزمًا على عدم الإساءة للآخرين بعد هذه الرّحلة.. وعدم التّعدّي عليهم من دون وجه حق.. إنّ هذا العزم هو سرّ التّغيير في داخل الإنسان العابد. وهو سرّ الأخلاق الرّائعة المتوقّعة بعد هذه الرّحلة المباركة.
كما أنّه إن كان من الذين كسلوا في طريق الدّعاء والتّضرّع؛ فمن المناسب أن يأخذ معه هذه الرّوحانيّة في الحجّ لما بعده.. فيأخذ قرارًا ألّا يغيّر برنامجه الرّوحيّ مهما أمكن، بهذه الطّريقة يمكنه أن يحافظ على المكتسبات الرّوحيّة.. وإذا كان من الذين كسلوا في النّشاط الرّساليّ العمليّ، فليأخذ درس الجهد والتّعب في مناسك الحجّ نموذجًا.. فالله تعالى يريد للإنسان أن يسعى ويبذل جهدًا استثنائيًّا في الحجّ، ليتحوّل هذا الجهد إلى أسلوب حياة، بعيدة عن الكسل والملل والخمول.. كل ذلك في طريق الله تعالى).
ماذا عن الآثار النّفسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة للحجّ؟ وكيف يمكن استثمارها على مدار السنة؟
(ورد عنه (ص) قوله: "من علامة قبول الحجّ إذا رجع الرّجل رجع عمّا كان عليه من المعاصي، هذا علامة قبول الحجّ، وإن رجع من الحجّ ثمّ انهمك فيما كان عليه من زنا، أو خيانة، أو معصية، فقد ردّ عليه حجّه". فليبحث عن هذه العلامات، ويشدّ العزم على عدم الرّجوع إلى سالف العهد، من: الاعتياد على المعصية، والتّقليل من شأن حرماته عز وجل. وفي الحقيقة هذه من أشقّ مراحل السّالك لله تعالى، لأنّه سيرجع إلى ما اعتاد عليه من ظروف وأجواء وممارسات، مـمّا يعني: أنّ الطّرق المؤدّية إلى المعصية سابقاً ربما تتكرّر، فتتكرّر النّتيجة، والعياذ بالله.
كما أنه من المتوقّع أن ينعكس هذا الجهد العباديّ، وهذه التّجربة الرّوحيّة على شخصيّة الحاجّ، فمن الآثار التي ينبغي أن تكون راسخة عنده:
1: الاشتياق إلى العبادة بعد رجوعه من الحجّ.
2: الاشتياق إلى المناجاة والخضوع بين يدي الله.
3: رفقة الخيّرين الصالحين.
4: التّوبة والاستقامة.
5: البذل والعطاء.
إن الحاجّ حينما يذهب إلى البيت الحرام عليه أن يستحضر مستقبل الأيّام في ذهنه، ما الذي ينبغي أن ينقلب في كيانه بعد هذا السفر المبارك؟! أسوأ ما يمكن أن يحصل هو أنّ الذنوب ترجع كما كانت.. وتزداد نسبة الظلمانيّة في النّفس، والعياذ بالله).
إلى أيّ حدّ تلعب شعيرة الحج دورًا في تربية النّفس وتزكيتها؟
إنّ هذه الشّعيرة بكلّ أبعادها تمثّل دورة مختصرة مكثّفة في تربية النّفس وتزكيتها. ففي الميقات يطرق العبد باب التّوبة والدّخول في عالم الإنابة. لذا يستحبّ له عند دخول الميقات أن يقرأ: (وأتيتُك من الأبواب التي أمرت أن تؤتى منها).. فتأمل معي هذه النقاط:
- إنّ الميقات باب من أبواب الرّحمة الإلهيّة.
- في الميقات يغادر الإنسان منازل الدنيا، ويسكن في منازل الآخرة، فهو بإحرامه قد أعرض عن شواغل عالم الملك بروحانيّة عالم الملكوت.
- في الميقات تبدأ عمليّة التّعبئة الرّوحيّة للانطلاق إلى أداء المناسك، فالحاج يحتاج إلى طاقة يختزلها لتكون حركاته وسكناته بكل إقبال، ويكسر حاجز الكسل في العبادة أو للإعراض عن الملل في ساحة القدس.
هل تجد ألذ من هذه البداية؟
كما أنّ الميقات هو فاصلٌ بين موضعين ما قبل الحرم وما بعده، كذلك التّلبية، هي أول عمل تقوم به للدّخول إلى ساحة الله وإلى أعمال الحجّ مباشرة.
والتّلبية هي نداء التّوحيد واستجابة لندائه:
(لبّيك اللّهمّ لبّيك): اعتراف بالألوهيّة والرّبوبيّة.
(لبّيك لا شريك لك لبّيك): نفيّ الشركاء والأغيار.
فالتّلبية توحيد لله، واستجابة لندائه. فإذا كانت التّلبية هي الفاصلة الواصلة للدّخول إلى عالم الحجّ، فإن التّوحيد هو المحور.
(إنّ الحمد والنّعمة لك والملك) فهي التّجسيد العمليّ لمبدأ التّوحيد.
حينها تبدأ تجربة البعد عن المحظورات، لعلّ الإنسان يذعن خلالها أنّه قوي، يمكنه أن يقول للحرام: لا.
ثمّ يبدأ خطواته نحو البيت العتيق..
ما إن يصل، حتّى يدرك سرّ الابتلاء بهذه الأحجار المعتّقة..
"ألا ترون أنّ الله سبحانه وتعالى اختبر الأوّلين من لدن آدم "صلوات الله عليه" إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضّر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع . فجعلها بيته الحرام الذي جعله للنّاس قيامًا، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرًا، وأقلّ نتائق الأرض مدرًاً، وأضيق بطون الأودية بطنًاً، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى منقطعة. لا يزكو بها خفّ ولا حافر ولا ظلف.
ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزوا مناقبهم ذلالاً، يهلّون لله حوله، ويرملون على أقدامهم شعثًا غبرًا، قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم، وشوهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيمًا، وامتحانًا شديدًا، واختبارًا مبينًا، وتمحيصًا بليغًا".
وهذا سرّ عميق في (العبودية) التي هي أساس التهذيب والتّنقية.
وحين يبدأ طوافه بالبيت، يبدأ قيامه في تهذيب النّفس.. ((إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)).
*إنها رحلة المعشوق الطائف حول مركز العشق* .
أمّا في عرفة.. فهي نقطة الاعتراف بالذّنوب، ومعرفة أهل الولاية الحقّة..
أمّا الجمار.. فهي تجربة عمليّة لرجم شياطين الإنس والجن..
وهكذا.. كلما وضعت يدك على نسك تجده يعمّق في النفس شيئًا.. ويهذّب سلوكا..).
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان