مقالات

التشيع الروحي والتشيع السياسي

 

السيد محمد باقر الصدر .. 
أود أن أشير هنا الى نقطة أعتبر توضيحها على درجة كبيرة من الأهمية ، وهي أن بعض الباحثين يحاول التمييز بين نحوين من التشيع ، أحدهما ( التشيع الروحي ) ، والآخر ( التشيع السياسي ) ويعتقد أن التشيع الروحي أقدم عهدا من التشيع السياسي ، وأن أئمة الشيعة الإمامية - من أبناء الحسين ( عليه السلام ) قد اعتزلوا بعد مذبحة كربلاء السياسة ، وانصرفوا إلى الإرشاد والعبادة ، والانقطاع عن الدنيا .
والحقيقة أن ( التشيع ) لم يكن في يوم من الأيام منذ ولادته مجرد اتجاه روحي بحت ، وإنما ولد التشيع في أحضان الإسلام بوصفه إطروحة مواصلة الإمام علي ( عليه السلام ) للقيادة بعد النبي فكريًّا واجتماعيًّا وسياسيَّا على السواء ....
فالتشيع إذن لا يمكن أن يتجزأ إلا إذا فقد معناه كأطروحة لحماية مستقبل الدعوة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهو مستقبل بحاجة إلى المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة الإسلامية معًا .
وقد كان هناك ولاء واسع النطاق للإمام علي ( عليه السلام ) في صفوف المسلمين باعتباره الشخص الجدير بمواصلة دور الخلفاء الثلاثة في الحكم، وهذا الولاء هو الذي جاء به إلى السلطة عقيب مقتل الخليفة عثمان، ولكن هذا الولاء ليس تشيعًا روحيًّا ولا سياسيًّا ، لأن التشيع يؤمن بعلي كبديل عن الخلفاء الثلاثة وخليفة مباشر للرسول (صلى الله عليه وآله) فالولاء الواسع للإمام في صفوف المسلمين أوسع نطاقًا من التشيع الحقيقي الكامل ، وإن نما التشيع الروحي والسياسي داخل إطار هذا الولاء فلا يمكن أن نعتبره مثالاً على التشيع المجزأ . كما أن الإمام علي (عليه السلام) يتمتع بولاء روحي وفكري من عدد من كبار الصحابة في عهد أبي بكر وعمر من قبيل سلمان وأبي ذر وعمار وغيرهم ، ولكن هذا لا يعني أيضا تشيعًا روحيًّا منفصلاً عن الجانب السياسي بل إنه تعبير عن إيمان أولئك الصحابة بقيادة الإمام علي للدعوة بعد وفاة النبي فكريًّا وسياسيًّا، وقد انعكس إيمانهم بالجانب الفكري من هذه القيادة بالولاء الروحي المتقدم، وانعكس إيمانهم بالجانب السياسي منها بمعارضتهم لخلافة أبي بكر، وللاتجاه الذي أدى إلى صرف السلطة عن الإمام إلى غيره .
ولم تنشأ في الواقع النظرة التجزيئية إلى التشيع الروحي بصورة منفصلة عن التشيع السياسي، ولم تولد في ذهن الإنسان الشيعي ، إلا بعد أن استسلم إلى الواقع ، وانطفات جذوة التشيع في نفسه كصيغة محددة لمواصلة القيادة الإسلامية في بناء الأمة ، وإنجاز عملية التغيير الكبيرة التي بدأها الرسول الكبير ، وتحولت إلى مجرد عقيدة يطوي الإنسان عليها قلبه ، ويستمد منها سلوته وأمله .
وهنا نصل إلى ما يقال من أن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) من أبناء الحسين ( عليه السلام ) اعتزلوا السياسية وانقطعوا عن الدنيا ، فتلاحظ أن التشيع بعد أن فهمناه كصيغة لمواصلة القيادة الإسلامية ، والقيادة الإسلامية لا تعني إلا ممارسة عملية التغيير التي بدأها الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) بناء الأمة على أساس الإسلام ، فليس من الممكن أن نتصور تنازل الأئمة عن الجانب السياسي إلا إذا تنازلوا عن التشيع .
غير أن الذي ساعد على تصور اعتزال الأئمة وتخليهم من الجانب السياسي من قيادتهم ، ما بدا من عدم إقدامهم على عمل مسلح ضد الوضع الحاكم، مع إعطاء الجانب السياسي من القيادة معنى ضيقًا لا ينطبق إلا على عمل مسلح من هذا القبيل .
ولدينا نصوص عديدة عن الأئمة ( عليهم السلام ) توضح أن إمام الوقت دائمًا كان مستعدًا لخوض عمل مسلح إذا وجدت لديه القناعة بوجود الأنصار، والقدرة على تحقيق الأهداف الإسلامية من وراء ذلك العمل المسلح، ونحن إذا تتبعنا سير الحركة الشيعية ، نلاحظ أن القيادة الشيعية المتمثلة في أئمة أهل البيت ، كانت تؤمن بأن تسلم السلطة وحده لا يكفي ، ولا يمكن من تحقيق عملية التغيير إسلاميًّا ، ما لم تكن هذه السلطة مدعمة بقواعد شعبية واعية تعي أهداف تلك السلطة وتؤمن بنظريتها في الحكم ، وتعمل في سبيل حمايتها ، وتفسير مواقفها للجماهير ، وتصمد في وجه الأعاصير : وفي نصف القرن الأول بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) كانت القيادة الشيعية بعد إقصائها عن الحكم ، تحاول باستمرار استعادة الحكم بالطرق التي تؤمن بها ، لأنها كانت تؤمن بوجود قواعد شعبيه واعية ، أو في طريق التوعية من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، ولكن بعد نصف قرن وبعد أن لم يبق من هذه القواعد الشعبية شيء مذكور ونشأت أجبال مائعة في ظل الانحراف ، لم يعد تسلم الحركة الشيعية للسلطة محققًا للهدف الكبير لعدم وجود القواعد الشعبية المساندة بوعي وتضحية وأمام هذا الواقع كان لابد من عملين :
أحدهما : العمل من أجل بناء هذه القواعد الشعبية الواعية التي تهيىء أرضية صالحة لتسلم السلطة .

وثانيهما : تحريك ضمير الأمة الإسلامية وإرادتها والاحتفاظ للضمير الإسلامي والإرادة الإسلامية بدرجة من الحياة والصلابة، تحصن الأمة ضد التنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام المنحرفين .
والعمل الأول هو الذي مارسه الأئمة ( عليهم السلام ) بأنفسهم ، والعمل الثاني ، هو الذي مارسه ثائرون علويون كانوا يحاولون بتضحياتهم الباسلة أن يحافظوا على الضمير الإسلامي والإرادة الإسلامية، وكان الأئمة (عليهم السلام) يسندون المخلصين منهم .
قال الإمام علي بن موسى الرضا للمأمون وهو يحدثه عن زيد بن علي الشهيد : ( أنه كان من علماء آل محمد ، غضب لله تعالى فجاهد أعداءه ، حتى قتل في سبيله ، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنه سمع أباه جعفر بن محمد يقول : رحم الله عمي زيدا ، إنه دعا إلى الرضا من آل محمد ، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه . . . إن زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق ، وإنه كان أتقى لله من ذلك ، إنه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ).
وفي رواية أنه ذكر بين يدي الإمام الصادق من خرج من آل محمد ، فقال : ( لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ، ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعلي نفقة عياله ).
فترك الأئمة إذن العمل المسلح بصورة مباشرة ضد الحكام المنحرفين، لم يكن يعني تخليهم عن الجانب السياسي من قيادتهم وانصرفهم إلى العبادة ، وإنما يعبر عن اختلاف صيغة العمل الاجتماعي التي تحددها الظروف الموضوعية ، وعن إدراك معمق لطبيعة العمل التغييري وأسلوب تحقيقه .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد