علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

وثن التقنية أو عبادة الشيء (1)


محمود حيدر
ليس ثمة ما يدعو الى الاستغراب، حين يُرى إلى حداثة الغرب وهي تنتقل بلا رويَّة من تقديس العقل إلى تقديس الشيء الذي صنعه العقل. هذه الفَرَضية موصولة بالتساؤل عن مآل حضارة استهلت رحلتها بعبادة العقل المحض، ثم هوت إلى عبادة الفرد، كيف لها ألا تنتهي إلى عبادة الآلة؟..
الجواب سيكون مركباً بالضرورة. فالمسألة هنا لا تعود وحسب، إلى السببية التاريخية واستقراءاتها المنطقية، وإنما أيضاً وأساساً إلى البَدْءِ الميتافيزيقي الذي قام عليه عقل الغرب وروحه.
مفكرو الغرب من الذين آلَمَهُم المآل وشرعوا بنقد الذات، راحوا يكشفون عن رابط وطيد بين ثلاث صُوَر للإنسان الحديث: صورة الإنسان المفكر، وصورة الإنسان الصانع، وصورة الإنسان الاقتصادي أو المنتج. فالإنسان المفكر ذو الذهن العقلاني يمكن أن يكون في الوقت نفسه قادراً على الهذيان والحُمق. والإنسان الصانع، الذي يتقن صنع واستعمال الأدوات التقنية، هو الذي كان قادراً منذ بدايات الإنسانية على انتاج أساطير لا تحصى. أما الإنسان الاقتصادي الذي يُعرف انطلاقاً من مصلحته الخاصة، فهو إنسان الاستهلاك، أو إنسان اللعب والإنفاق والتبذير. لكن هذه الخصائص المتناقضة تبدو متداخلة بين بعضها البعض. حسب المفكر الفرنسي إدغار موران. ففي سياق مطالعاته النقدية لما سمَّاه "البربرية الأوروبية" رأى أن ترياق الهذيان و"الحمق" يمكث في أعماق العقل الحديث. يضيف: نظن في غالب الأحيان أننا داخل العقلانية بينما لا نكون في واقع الأمر إلا داخل العقلنة. أي عقلنة ما هو غير منطقي وغير أخلاقي وغير معقول. إذ بإمكان العقلنة أن تخدم الهوى، وتقود إلى الهذيان. فالإنسان الصانع ينتج أساطير هاذية، ويمنح الحياة لأوثان متوحشة قاسية ترتكب أفعالًا بربرية وحروب إبادة لا تبقى ولا تذر. ومع أن هذه الأوثان هي من إنتاج الذهن البشري، كما يلاحظ موران، إلا أنها تتمتع بحياة خاصة، وبسلطة تمكِّنها من السيطرة على الأذهان. وبهذه الكيفية تنجب البربرية الإنسانية معبودات تكنولوجية قاسية تدفع البشر نحو البربرية. ثم ينتهي إلى القول: إننا نحن الأوروبيين نشكل آلهة تشكلنا بدورها. ذلك بأن التقنيات التي أنتجها الإنسان، مثلها في ذلك مثل الأفكار، ترتد ضده، وتنفلت من عقالها لتلتهم الإنسانية المنتجة لها. 


هكذا بدأت الحداثة الغربية كتحول انعطافي انطلق مع هيمنة العقل وطَمَح إلى استيعاب شامل لما يُزعم بأنه "اللاَّمعنى". أي لكل ما يختزنه وعاء الغرب من قيم واعتقادات لا تقع تحت عينه الاستدلالي واختباراته التكنولوجية. حتى إذا جاءت التحولات بدت صورة الحداثة شديدة التداخل والمفارقة: من الناحية النظرية كانت الغاية من مشاريع التحرر أن يكون الإنسان هو غاية تاريخه لا مجرد وسيلة له، أما من الناحية الإجرائية فقد حصل ما يخالف هذا المدَّعى. فقد انعطفت حركة التحديث بلا هوادة نحو زمن مشحون بعنف الهويات الإيديولوجية. الشاهد أن القرن التاسع عشر الذي افتتحته الثورة الفرنسية عام(1789م-1799م) وانختم بمأساة الحرب العالمية الأولى، شكّل تأسيساً لزمن العنف المشار إليه. فلمَّا انفسح التاريخ أمام القرن العشرين، بلغت قيم التنوير نهايتها المحتومة. فلقد تميز هذا القرن باستشراء الشموليات الأيديولوجية التي ستبدِّد جل ما أتى به فلاسفة التنوير، ثم توغلت في أرض الغرب لتحيلها إلى مسرح يشهد على فجائعيتها المرعبة. فالعقل الذي افتتح مساره بإعلان تسيُّده على الكون، ما لبث أن وقع فريسة العنف القهري لكي يسيطر على كل شيء. كان العقل الأوروبي الصناعي في تلك الحقبة مهووساً بمصنوعه حد التطيُّر. الأمر الذي حدا باللاهوتي الإنجيلي ديتريش بونهوفر الذي قضى ضحية النازية عام 1945، إلى القول: لقد صار سيد الآلة عبداً لها، وأمست الآلة عدواً للإنسان، وحرية الجماهير انتهت إلى رعب المقصلة، والتحرير المطلق للإنسان سيختم مساره بالدمار الذاتي.
لا تبدو مآلات الحداثة التقنية في هذا السياق إلا كمحصول لعقل استبد به الغلو، فانزاح عن غايته وانحدر صوب التشييئ المرِّوع للإنسانية المعاصرة. هذا هو بالضبط الأمر الذي أوْقَدَ حماسة هايدغر إلى نقد ما جَنَتْهُ التقنية على الإنسان الحديث. لكن القضية عنده تتعدى السخط على مظاهر التقنية وأعراضها لتطاول طبقاتها الخفية والعميقة.
 

لقد اتخذت التقنية في تفكير هايدغر أفقاً يجاوز ما درجت عليه التيارات النقدية ولا سيما مدرسة فرانكفورت باعتبارها ظاهرة من ظواهر الاستلاب الرأسمالي. طفق يقيمُها على أرض التأويل من أجل أن يكشف عن أبعادها القصِيَّة في ميتافيزيقا الحداثة. ولمّا وصفها بـ "الاصطناع المفروض" أراد أن يبيِّن كيف أن الإنسان يفقد بسببها كل طابع ميتافيزيقي. ولأنه "فيلسوف الحنين إلى الكائن" كما يصفه عدد من قرائه، فقد عكف على كشف ما ينحجُب فيها من آثار مفجعة. جوهر التقنية بالنسبة إليه ليس بشيء تقني، وإنما هو عامل مكوِّن للتفكير الميتافيزيقي في الغرب. من أجل ذلك راح يدعو إلى الاحتراس من هذا "الجوهر" الذي تأسست ملحمته الأولى مع بارمنيدس وأفلاطون وأرسطو وجرى تكميله مع فلاسفة ومفكري عصر التنوير. وعلى هذا التأسيس الغائر في التاريخ، تظهر التقنية كطغيان لا رادّ له على الحضارة الإنسانية الحديثة. لذلك سعى هايدغر إلى متاخمتها بوصفها تعبيراً عن مأزق النزعة الإنسية التي تطلعت إلى تتويج الإنسان كسيِّد للكون. ومعها بلغت الميتافيزيقا أوجها ونهايتها. 
من أظهر السمات التي يمكن استخلاصها من اختبارات العقل الغربي، أنه صنع مدائن الحداثة وما لبث إلا قليلاً حتى وقع في أسرها. كما لو أنه آنَسَ إلى صنعته لتصير له أدنى إلى كهوف ميتافيزيقية مغلقة. ومع أن مساءلة الذات في التجربة التاريخية للحداثة أنتجت تقليداً نقدياً طاول مجمل مواريثها الفكرية وأنماط حياتها، إلا أن هذه المساءلة- على وزنها في تنشيط الفكر وبث الحيوية في أوصاله- لم تتعدَ الخطوط الكبرى التي وضعها لها نظامها الصارم.
بسبب من هيمنة العقل التقني، سنلاحظ أن جلَّ المنعطفات التي حدثت في حقل المفاهيم والنظريات والأفكار جاءت مطابقة لمعايير ومقتضيات الثورة العلمية. بيد أن الذي حصل ما كان ليأتي على سبيل المصادفة. فالمعاثر التي عصفت بالعقل الغربي في طوره المعاصر لم تكن حديثة العهد، بل كانت موصولة بأصلها اليوناني ولم تفارقه قط. 
لقد بذلت الميتافيزيقا مذ ولدت في أرض الإغريق وإلى يومنا الحاضر ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته) والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع العيني) لكنها ستنتهي إلى معضلة استحالة الوصل بينهما. كانت ذريعتها أن العقل قاصرٌ عن مجاوزة دنيا المقولات ولا ينبغي له العلم بما وراء عالم الحس. على هذا النحو انعطفت الميتافيزيقا الأولى نحو مفارقة سؤال الوجود كسؤال مؤسِّس، لتستغرق في بحر خضم يمتلئ بأسئلة الممكنات الفانية وأعراضها الزائلة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد