علمٌ وفكر

ما هي نظرية "الانفجار العظيم"؟

 

تمثّلُ نظريّة الإنفجار العظيم التفسير الأساسيّ لكيفيّة بدء الكون؛ إذ تعطينا هذه النظرية، في أبسط صورها، تصوّرًا عن نشأةِ الكون الذي بدأ من نقطةٍ مفردة شديدة الكثافة أخذت تتضخّمُ خلال الـ 13,8 مليار سنة التالية، لتصبحَ الكونَ الذي نعرفه اليوم. ولأنّ أدواتنا الحاليّة لا تسمحُ للفلكيّين بالنظر إلى الماضي، أي إلى بداية الكون، فإنّ كثيرًا ممّا نفهمه عن نظريّة الانفجار العظيم يأتينا من نماذج ونظريّات رياضيّة.

 وعلى ايّ حال، فإنّ باستطاعةِ الفلكيّبن أن يروا "صدى" هذا التمدّد من خلال ظاهرة تُعرف بإشعاع الخلفيّة الكونيّة.

  انتشر مصطلح "الانفجار العظيم" بين المختصّين بعلم الفيزياء الفلكيّة لعقود، ولكنّ شهرته ازدادت عام 2007 عندما عُرض مسلسل كوميديّ على قناة سي بي إس "CBS" الأمريكيّة يحمل الاسم نفسه، حيث يعرض المسلسل للحياة الجامعيّة لعدّة باحثين من ضمنهم مختصّ بالفيزياء الفلكيّة.

   اللحظة الأولى وولادةُ الضّوء:

 تبعًا لمعلومات ناسا فقد كانت درجة حرارة الكون في اللحظة الأولى بعد بدايته حوالي 10 مليارات درجة فهرنهايت (5.5 مليار درجة سيليسيوس). وقد احتوى الكونُ على مجموعة ضخمة من الجسيمات الأساسيّة كالنترونات والإلكترونات والبروتونات التي اضّمحلّت أو اتحدت أثناء برودة الكون. ولم يكن بالإمكان النظر إلى هذا الخليط الساخن؛ إذ لم يكن الضوء قادرًا على اجتيازه.

 وقد وضّحت ناسا: "كانت الإلكترونات الحرّة ستتسبّب ببعثرة الضوء (الفوتونات) تمامًا كما يتبعثر الضوء من قطرات الماء في الغيوم." ولكن، وعلى مرّ الزمن، التقت تلك الإلكترونات الحرّة بنوى، وشكّلت ذرّات متعادلة، ما سمح للضوء أن يشعّ بعد حوالي  380000 سنة من الإنفجار العظيم. هذا الضوء البدائيّ – الذي يُدعى أحيانًا بـغسق الانفجار العظيم – يُعرَفُ بإشعاع الخلفيّة الكونيّة (CMB)، وكان أوّل من تنبّأ به هو العالم رالف ألفر Ralph Alpher وعلماء آخرون عام 1948، ولكنه لم يُكتشفْ إلا صُدْفةً، بعد عشرين سنة تقريباً.  

 وحسب ما أفادت به وكالة ناسا فقد كان كلّ من آرنو بينزياس Arno Penzias وروبرت ويلسون Robert Wilson، يعملان لحساب مختبرات بيل للهواتف Bell Telephone Laboratories في موري هيل Murray Hill، عندما كانا يبنيان مُستقبِلَ راديو عام 1965 حيث التقطا  درجاتِ حرارة تفوق التوقّعات،  فظنّا أنّ سبب ذلك هو روث الحمام، ولكنّ التقاط درجات الحرارة تلك استمرّ حتّى بعد تنظيف المكان، وقتل الحمام الذي حاولَ أن يجثم فوق الهوائي.

   في الوقت نفسه كان فريق من جامعة برينستون Princeton University بقيادة روبرت ديك Robert Dicke يبحث عن دليل على وجود إشعاع الخلفيّة الكونيّة، وقد أدرك هذا الفريق أنّ بينزياس وويلسون قد عثرا عليه حقّا، وما لبث أن نشر الفريقان أبحاثًا في مجلّة الأبحاث الفلكيّة عام 1965.

   تحديدُ عمرِ الكون:

 رُصد إشعاعُ الخلفيّة الكونيّة في عدّة مهمّات. ولعلّ أكثر مهمّات الفضاء شهرةً في هذا المجال هو قمر ناسا الصناعيّ المسمّى مستكشف الخلفيّة الكونيّة (Cosmic Background Explorer) أو أختصاراً (COBE) الذي رسم خريطة للسماء في تسعينيات القرن الماضي. وقد سارتْ عدة مهمّات على خُطى مستكشف الخلفيّة الكونيّة "COBE" كتجربة بومرانج "BOOMERanG" (ملاحظات المناطيد للإشعاع الميليميتريّ خارج المجرّي وعلم الفيزياء الأرضية) "Balloon Observations of Millimetric Extragalactic Radiation and Geophysics"، ومسبار ويلكينسون لمقاربة الموجات الميكرويّة "Wilkinson Microwave Anisotropy Probe) أو أختصراً (WMAP) التابع لناسا والقمر الصناعيّ بلانك "Planck" التابع لوكالة الفضاء الأوروبيّة.

   وقد خطّت مراقبات القمر الصناعيّ بلانك، التي نُشرت عام 2013، خريطة للخلفيّة بتفاصيل غير مسبوقة، وأظهرت أنّ الكون أقدم ممّا كان يُعتقد سابقاً، أي أنّ عمره 13,82  مليار عام، بدلا من 13,7 مليار عام.  

 ولكنّ الخريطة تفسحُ المجالَ لتساؤلات جديدة، منها على سبيل المثال: لمَ يبدو  نصفُ الكرة الجنوبيّ أشدّ احمراراً بقليل (أي أشدّ حرارة) من نصف الكرة الشماليّ؟ إذ تفيد نظريّة الانفجار العظيم بأنّ إشعاع الخلفيّة الكونيّة سيبدو على الأغلب متشابهاً، بصرفِ النظر عن  المكان الذي تنظر إليه. ويعطي تفحّص إشعاع الخلفيّة الكونيّة مفاتيحَ جديدة عن ماهيّة تركيب الكون. فلدى الباحثين اعتقاد بأنّ الكون يتكوّن بمعظمه من مادّة وطاقة لا يمكننا استشعارهما بأدواتنا التقليديّة، ما ساقنا لتسميتهما بالمادة المظلمة والطاقة المظلمة؛ إذ إنّ خمسةً بالمئة من الكون فقط مكوّن من المادّة، كالكواكب والنجوم والمجرّات.  


 بينما يستطيع الفلكيّون رؤية بدايات الكون، فإنّهم ما انفكّوا  يبحثون عن دليلٍ لتضخّمه المستمر. فحسب النظريّة، بدأ كوننا بالانتفاخ كالبالون بسرعة أكبر من سرعة الضوء بعد الثانية الأولى من ولادته. وبالمناسبة، فإنّ هذا لا ينتهك قوانين ألبرت أينشتاين لمحدوديّة السرعة، إذ إنّه قال إنّ سرعة الضوء هي السرعة القصوى التي قد يسافر بها أيّ جسم في الكون، ولكنّ هذا الكلامَ لا ينطوي على تضخّم الكون نفسه.   وقد قال الفلكيّون في عام 2014 إنّهم وجدوا دليلاً في إشعاع الخلفيّة الكونيّة يخصّ ما يُسمّى بالـ "B-modes"، وهو نوعٌ من الاستقطاب الذي يتولّد من توسّع الكون، وتَشكًّلِ أمواجٍ للجاذبيّة.

 وقد وجد الفريق دليلاً على هذا باستخدام تليسكوب موجود في القطب الجنوبيّ يسمى بـ "مصوّر الخلفيّة الكونيّة الاستقطابي للمجرّات الخارجيّة "Background Imaging of Cosmic Extragalactic Polarization) أو أختصارا (BICEP).

 صرّح جون كوفاك John Kovac، الباحث الرائد من مركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكيّة Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics، لموقع Space.com  في آذار/ مارس من عام  2014 قائلا: "إنّنا متأكّدون من أنّ الإشارة التي رأيناها في السماء حقيقيّة." ولكن بحلول شهر يونيو قال نفس الفريق إن نتائجهم التي توصلوا إليها يمكن أن تكون قد  شُوِهت بفعل الغبار المجرّي في حقل نظرهم.   وقال كوفاك في مؤتمر صحفي لصالح صحيفة نيويورك تايمز: "لم تتغير القواعد الأساسية حيث أن لدينا ثقة عالية في نتائجنا. المعلومات الجديدة من تلسكوب بلانك تجعل الأمر كما لو أنه  توقعاتٌ مسبقة  للغبار." وقد نُشرت نتائج بلانك على الإنترنت في سبتمبر.

 نشرت صحيفة نيويورك تايمز في مقالٍ آخر بحلول يناير/ كانون الثاني عام 2015 ما مفاده أنّ: "كلا الفريقين أكّدا أن إشارة BICEP كانت في معظمها، إن لم يكن كلها، غبارًا نجميًا ".

   تسارعٌ في التضخّم، أكوانٌ متعددة، ووضعُ خريطة للنجوم:

 إنّ الكونَ لا يتوسّعُ فحسب، بل يتسارع بالتضخّم. وهذا يعني أنّه، مع مرور الوقت، لن يتسنّى لأحد أن يرصد أيّ مجرّات من الأرض، أومن أيّ نقطة رصد أخرى ضمن مجرّتنا. وقد أشار إلى ذلك الفلكيّ أفي لوب Avi Loeb من جامعة هارفارد في مقال في موقع Space.com في آذار/ مارس من عام 2014 حيث قال: "إنّنا نرى مجرّات بعيدة تبتعد عنّا، ولكنّ سرعاتها تتزايد مع مرور الوقت." "لذا، إن انتظرت لمدّة كافية، فإنّ مجرّة ما بعيدة عنّا، ستصل في النهايةِ إلى سرعة الضوء. ويعني هذا أنّ الضّوء نفسه، لن يتمكّن من ردم الهوّة التي بيننا. ولن يتمكّن الفضائيّون على تلك المجرّة من أن يتواصلوا معنا، أو يرسلوا أيّ إشارة قد تصلنا عندما تصبح سرعة حركة مجرّتهم أكبر من سرعة الضوء بالنسبة لنا."   ويشير بعض الفيزيائيّين إلى أنّ كوننا الذي نعيش فيه ليس إلّا واحدًا من عدّة أكوان؛ ففي نموذج "الأكوان المتعددة" قد تتواجدُ أكوان مختلفة مع بعضها البعض مثلما تتواجدُ الفقاعات مع بعضها جنبًا إلى جنب. كما تشير النظريّة إلى أنّه خلال بداية التضخّم نشأت أجزاء مختلفة من الزمكان بنسب متفاوتة، ولربّما تسبّبت هذه العمليّة باقتطاع أجزاء مختلفة – أي أكوان مختلفة – وربّما بقوانينها الفيزيائيّة المختلفة.   يضيف آلان جوث Alan Guth، المختصّ بالفيزياء النظريّة في مؤسّسة ماساشوسيتس للتكنولوجيا "Massachusetts Institute of Technology"، أثناء اجتماع صحفيّ في آذار/ مارس من عام 2014 بخصوص اكتشاف أمواج الجاذبيّة: "إنّه لمن الصعب أن نبني نماذج للتضخّم لا تؤدّي بنا إلى أكوان متعددة". (جوث ليس عضوًا في تلك الدراسة.)   "ليس الأمر مستحيلًا، لذا أظنّ أنّه من المؤكّد أنّ هناك مزيدًا من البحوث التي يجب أن نقوم بها. ولكنّ معظم نماذج التضخّم تقودنا إلى أكوانٍ متعددة، والدليل على التضخّم سيدفع بنا للأخذ بفكرة الأكوان المتعددة على محمل الجدّ."   وبينما يمكننا أن نفهم كيف أمكن للكون الذي نراه أن يأتيَ للوجود، فإنّه لمن الممكن أن لا يكونَ الانفجارُ العظيم هو أوّل فترة تضخّم حدثت في الكون.

 يظنّ بعض العلماء أنّنا نعيش في كون تجري فيه دورات منتظمة من التضخّم والتقلّص، وأنّه حدث لنا مصادفة أن نعيش في إحدى تلك المراحل.

 

المصدر: https://nasainarabic.net/education/articles/view/big-bang-theory

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة