علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

الكمال (1)

على الرغم من أنّ مفهوم الكمال واضحٌ لا يحتاج إلى تعريف، ولكنّنا لئلّا نقع في الخلط في بعض الموارد، سنقدّم توضيحًا حوله في ما يأتي:

 

إنّ الكمال -بلا شكٍّ- صفة وجوديّة يتّصف بها الموجود، ولكنّنا عندما نقيس أمرًا وجوديًّا ما إلى أشياء مختلفة، فإنّنا نجده كمالًا بالنّسبة إلى بعضها، في حين أنّه لا يُعدّ كمالًا بالنسبة إلى الأُخرى، بل قد يُعدّ نقصًا وتقليلًا في القيمة الوجوديّة لتلك الأخرى.

 

كما أنّ البعض الآخر لا يمتلك أساسًا أيّ استعداد لبعض الكمالات، فإنّ الحلاوة مثلًا تُعدّ كمالًا لبعض الفواكه؛ كالكمثرى والبطيخ، في حين يكمن كمال بعض الفواكه في حموضتها، أو في طمعها، أو نقول إنّ العلم للإنسان كمالٌ، في حين لا يمتلك الحجر والخش أيّ استعداد له.

 

سرّ الأمر هو أنّ أيّ موجود يمتلك حدًّا ماهويًّا خاصًّا به، بحيث يتبدّل إلى نوعٍ آخر من الوجود إذا تجاوز هذا الحدّ.

 

إنّ التّغييرات الماهويّة قد تحصل بعد تغيير شكل الجزئيّات، أو زيادة الذرّات وقلّتها، أو بعد التغييرات الداخليّة في تركيب الذرّة، أو تبدّل المادّة إلى طاقة أو العكس، كما أنّها قد تحصل على الرغم من وحدة هذه التركيبات كلّها، فلو قسنا البذرة الصناعيّة إلى البذرة الطبيعيّة وجدنا وحدة في التركيب الداخليّ للبذرتين، ولكنّ الصّناعيّة منها تفتقد إلى القدرة على النّموّ، على الرغم من وحدة تركيباتهما.

 

على أيّ حال، فإنّ أيّ ماهيّة تنسجم -بمقتضى طبيعتها- مع بعض الأوصاف، وفيها استعداد قبول بعض الكمالات لا غير؛ لكنّ حدوث ماهيّة جديدة لا يستلزم دائمًا فناء الكمالات القبليّة، فإنّ الكثير من الموجودات تتقبّل حالات فعليّة متعدّدة؛ كلٌّ منها يأتي في طول الآخر (بعده)، مع الاحتفاظ بالكمالات والفعليّات السابقة، وذلك كما نجد أنّ النباتات تَحْوي الذرّات والموادّ المعدنيّة نفسها، بالإضافة إلى الفعليّة النباتيّة التي تأتي في طول توافر تلك الذرّات والموادّ، وهكذا الأمر في الحيوان والإنسان. وفي مثل هذه الموجودات، من الممكن أن تكون الكمالات السابقة مساعِدة إلى حدٍّ ما في حدوث الكمالات التالية الأسْمى منها، ولكنّها لا تقتضي بالضّرورة أن يكون ازديادها دائمًا موجبًا للكمالات الفعليّة الأَخيرة، أو أنّها على الأقلّ لا تُزاحمها، بل إنّنا نجد في كثيرٍ من الموارد أنّ الوصول إلى بعض الكمالات التي هي مقتضى الفعليّة الأخيرة يتوقّف على تحديد الكمالات السابقة، فإنّ كثرة الأوراق والأغصان تُزاحِم عمليّة الإثمار الجيّدة للأشجار المثمرة، وإنّ سمنة الحصان الأصيل الشديدة تمنعه من الوصول إلى كماله اللائق به، وهو سرعة الركض والوثب.

 

على هذا، فالكمال الحقيقيّ لأيّ موجود عبارةٌ عن الصفة أو الأوصاف التي تقتضيها فعليّته الأخيرة. أمّا الأمور الأخرى، فبمقدار تأثيرها في الوصول إلى الكمال الحقيقيّ، تكون من مقدّمات الكمال.

 

سلسلة الكمالات

عندما نقارن شجرةً مع قطعة حجر أو كثيبٍ من تراب، فإنّنا سنجد أنّ الشجرة تملك بالفعل قُوىً خاصّة لا توجد في الحجر والتراب. وعلى الرغم من التشابه بين ذرّاتها وجزئيّاتها، فإنّ الآثار التي تنتجها الشجرة لا تولد من الحجر والتراب.

 

نستطيع أن نعرضَ هذه الحقيقة بالنحو الآتي:

إنّ في الشجرة كمالًا بالفعل هو الصورة النباتيّة وهو منبع ظهور الأفعال والآثار الخاصّة بالنباتات. كما أنّ النباتات تملك كمالات -بالقوّة- لا تملكها الجمادات استعدادًا للوصول إليها، فإنّ قلم شجيرة مثمرة مستعدٌّ أن يُنتج سلال الفواكه الحلوة؛ الأمر الذي لا يوجِد استعداده في الحجر والخشب.

 

من البديهيّ، فإنّ النبات عندما يمتلك هذه الفعليّة والقوّة المذكورة، فإنه ليس فقط لا يفقد الصفات الجسمانيّة والقوى الطبيعيّة، بل إنّه بالاستعانة بها يؤدّي أعماله ويطوي مسير تكامله، فيمكن أن نستنتج من ذلك أنّ الموجود النباتيَّ يستخدم قواه الطبيعيّة للوصول إلى كمالاته. ومن الطبيعيّ أنه يحتاج إلى هذه القوى ولكن إلى الحدّ الذي يستفيد فيه من هذه القوى لصالح كماله.

 

كذلك الحيوان، فإنّه واجدٌ للقُوى النباتيّة، بالإضافة إلى الحسّ والحركة الإراديّة اللَّذَيْن هما من لوازم الصورة الحيوانيّة. وبالنحو نفسه نجده يستخدم القُوى النباتيّة لتكامله الحيوانيّ، ويحتاج إليها بالمقدار الذي تؤثّر فيه في وصوله إلى كماله الحيوانيّ. والإنسان أيضًا بدوره واجدٌ لِلْقُوى الطبيعيّة والحيوانيّة، بالإضافة إلى القوى الناتجة من صورته الإنسانيّة. فهو يستخدم القوى السابقة كلّها لصالح تكامله الإنسانيّ بالمقدار الذي تؤثّر في تحقيق هدفه، ولكن كما رأينا كثرة الأوراق والأغصان مانعة من تكامل شجرة التفّاح؛ فإنّه لا يمكن جعل الاستفادة اللّامحدودة من القوى النباتيّة والحيوانيّة مفيدة لتحقيق الهدف التكامليّ الإنسانيّ.

 

نستنتج من هذا البحث بعض النتائج:

أ. يمكن تقسيم الموجودات المادّيّة حسب الكمالات الوجوديّة إلى درجات، ومن بين الموجودات التي نألفها نجد الجمادات في الدرجة السفلى، ثم النباتات، ثم الحيوانات في الوسط، ويقع الإنسان في الدرجة العليا.

من البديهيّ في مثل هذا التدرّج أنّ الملحوظ هو نوع الكمال وقيمته، لا حجمه ومقداره. ولذا، فلا مجال للاعتراض علينا بأنّه لو كان الإنسان أكمل الحيوانات، فلماذا لا يمكنه أن يأكل بقدر أكْل البقرة، ويركض كالغزال، ويفترس كالأسد تمامًا، كما لا يُقال في سموّ النباتات على الجمادات، بأنّه لو كانت الشجرة أسمى من الحجر والتراب، فلماذا لا تمتلك الشجرة وزن الجبال الهملايا؟ ولماذا لا توجد في أعماقها معادن الذهب والنفط؟

ب. إن أيّ موجود مادّيّ في درجةٍ أعلى من الوجود يمتلك القُوى الأَدْون من درجته؛ ليستخدمها في سبيل تكامله.

ج. إنّ الاستفادة من القوى الأدون يجب أن تكون بالقدر المفيد للوصول إلى الكمالات الأعلى، وإلّا فإنّها تعود سببًا للركود وتوقّف السير التكامليّ، وقد تؤدّي إلى التراجع والهبوط أحيانًا.

د. بملاحظة البحث السابق، نستنتج أنّ الكمال الحقيقيّ لأيّ موجود عبارةٌ عمّا تقتضيه آخر فعليّة له، وإن كان هذا الكمال نفسه ذا مراتب ودرجاتٍ مختلفةٍ، فإنّ أعداد التفاح لشجر التفاح كمالٌ، ولكنّه ذو مراتب. أمّا سائر الكمالات التي تختلف عن هذا الكمال اختلافًا ماهويًّا، وهي بالطبع في درجات أدون منه، فهي لا تُعدُّ من كمالات هذا الموجود، بل هي مقدّمات ووسائل لكماله.

وعليه، يمكننا أن نقسّم الكمال إلى قسمين: أصيل وآليّ، أو حقيقيّ ونسبيّ، كما يمكننا أن نقول بوجود مراتب الكمالات الأصليّة.

هـ. لكي نعيّن مقياسًا للاستفادة من القوى الأدون، تلزم ملاحظة الكمال الحقيقيّ الأصيل. بعبارة أخرى، لا يمكن اعتبار الصفات الوجوديّة الأدون مقدّمات الكمال، أو كمالات نسبيّة، إلّا إذا كانت مقدمّات للوصول إلى الكمال العالي الحقيقيّ، ومن هنا يتأكّد لزوم معرفة الكمال الحقيقيّ للإنسان. 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد