يقوم العظماء من أولياء الدين بأعمال تترك بصمات عميقة في المجتمعات البشرية بشرط أن يتم إحياؤها. مهما كانت أعمال هؤلاء عظيمة، فإنّها ستتلاشى ما لم يجرِ التفاعل معها كما ينبغي..
عاشوراء الحسين ليست استثناء. صحيح أنّ الله قد تكفّل بهذه النهضة وأعدّ لها من ضمانات الخلود ما لا نجده في أي واقعة أخرى على مدى التاريخ، لكنّ استفادة البشر من هذا الفيض الإلهي تستلزم تفاعلهم. وهذا ما نعبّر عنه بالإحياء.
يوجد عوامل فوق بشرية عديدة كانت تؤدي دورًا مصيريًّا لإبقاء شعلة هذه النهضة الحسينية؛ ما نجده من بركات الارتباط والتوسل بسيد الشهداء على مختلف الصعد، ربما لا نجده في أي عمل أو منسك آخر. يندفع كثيرون لإحياء هذه الذكرى بسبب ما يرونه من آثار مباشرة لذلك في حياتهم وأبدانهم ومعاشهم. البعض يفعل ذلك بصورة لا إرادية، وكأنّ هناك قوة غريبة مجهولة المصدر تدفعه. قد يكون ذلك من سر "إن لقتل الحسين في قلوب المؤمنين حرارة لا تبرد أبدًا". [1]
كل هذا لا يعني، أنّ هذا الإحياء أو ذاك سيؤتي ثماره، كما أراد هذا الإمام الشهيد حتمًا. بعض الناس ينصرون هذا الدين ولا يشمون رائحة الجنة. أجيال حملت شعلة هذه النهضة وتناقلتها على مدى العصور ربما على قاعدة "رُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه". [2]
تكفّل الله بنقل هذه النهضة من جيلٍ إلى جيل، عسى أن تصل إلى الجيل الذي يحمل رايتها كما أراد الإمام حقًّا. فلا تعجبنَّ من قومٍ يحيون هذه الذكرى، ولا تترك أي أثر في حياتهم المعنوية والاجتماعية! هؤلاء قد يكونوا مصداقًا لمن ينصر الدين ثم يستبدل الله بهم غيرهم.
إحدى مصائب هذه النهضة في أوساط المجتمعات المحبّة، أنّها وقعت منذ زمنٍ بعيد بأيدي المستغلّين الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور. استطاع هؤلاء أن يؤسسوا لأنواعٍ من الإحياء لا تنسجم مع أهداف النهضة ولا تخدمها. مثلما أنّ بعض المجتمعات الموالية قد عانت من تسلُّط حكومات قمعية مارست رقابة عالية على مراسم الإحياء حتى أفقدتها روحها ومعناها.
من الطبيعي أن يحدث ما حدث مع ثورة يمكنها أن تغير العالم في وقتٍ قصير. معاني عاشوراء ومبادئها تكشف زيف الواقع بسرعة، وتفسّر التاريخ بوضوح لا لبس فيه. إنّها الحركة الوحيدة التي لا يمكن لأيّ واقع متخلِّفٍ فاسد أن يتعايش معها. عاشوراء شديدة الوضوح قوية الدراية يصعب التلاعب بها وتأويلها. ولذلك لم يجد أكثر المعارضين لها سوى طريقة وحيدة للتعامل معها، وهي طريقة الإخفاء والشطب من صفحات التاريخ.
تعاون فقهاء السلطة مع مؤرخي الإسلام تحت أوامر سلطانية لتمرير ما حدث في كربلاء كواقعة عابرة. ومع ذلك، ما وصل إلينا كان يكفي ليطلق ثورة شاملة. لا يمكن لأي مسلم عاقل أن يتقبّل قتل سبط النبي الأكرم سيد شباب أهل الجنة.
كثيرة هي الحوادث التي تلاعب بها أهل التأويل حتى أفقدوها معناها بالكامل، فصارت لعبة بأيدي أهوائهم ومذاهبهم. لكن كلما أطلّت عاشوراء برأسها انتصر النص على الاستظهار، والدراية على الرواية، واليقين على الشك. أما لماذا لا نجد ذلك الأثر الـمُتوقَّع لهذه النهضة؟ فذلك يعود إلى مستوى التفاعل قبل أي شيء. ولكي نرتقي بهذا التفاعل إلى مستوى التوقُّع فلا بد من معرفة ومهارة.
أما المعرفة فهي التي تأخذنا إلى ضرورة الانطلاق من المعنى الأعظم والمبدأ الأول لعاشوراء، والذي لا يُفترض أن يُقارن به أي معنى أو مبدأ، وهو أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد نهض بهذه الحركة الاجتماعية من أجل إنقاذ المجتمع المسلم عبر إحياء الدين فيه، وأنّ هذا الإحياء يدور حول محور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما فريضتان تستوجبان السعي لبث المعروف في المجتمع، وترسيخ أركانه بجميع معانيه ومراتبه، والقضاء على المنكر بجميع مظاهره ودرجاته.
وفي الوقت الذي يُفترض أن تتم مناقشة وعرض وتعميق معنى هذه الفريضة ودورها، كنوع من الاستجابة الصحيحة لنداء عاشوراء، نجد أنّ معظم المجالس التي تأثرت بتلاعب المستغلين وقمع المعارضين لا تقوم بهذا الدور؛ فكيف يمكن أن نسميها إحياءات، وهي تُميت ما قام الإمام الحسين عليه السلام لإحيائه!
لقد انشغل مُعظم المهتمين بهذه المجالس بتناول بقية الأمور المرتبطة بنهضة الحسين التي تُعتبر هامشية إذا ما قورنت بهذا الأصل. ومهما كانت الفروع عظيمة الشأن والتأثير، فإنّ تأثيرها الحقيقي لن يتحقق إلا عبر الأصل وبعد ترسيخه. البكاء على الإمام الحسين والذي يمكن القطع بأهميته وضرورته وتأثيره الدنيوي والأخروي العظيم، ليس سوى مقدمة وفرع وتمهيد وتكميل لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يمكن ترجمته سياسيًّا واجتماعيًّا من خلال السعي الحثيث لإقامة حكم الله، ومنابذة الظالمين وقلع الفاسدين.
لو بكى جميع أهل الأرض والسماء على مُصاب الإمام الشهيد وأهل بيته، ولم يتحرّكوا خطوة واحدة نحو هذا الهدف الذي من أجله خرج هذا الإمام واستشهد مع أولاده وأصحابه وسُبيت نساؤه وبناته، فإنّ دموعهم التي أضحت أنهارًا لن تتمكن من بعث الحياة في صحراء الجهالة والتخلُّف لهذه الأمة المنكوبة.
أولئك الذين ناقشوا قضية البكاء والتفاعل العاطفي مع هذه الفاجعة الكبرى، بعضهم كان يتصور أنّ الأمر يدور بين البكاء وعدمه، فجعلوا من الأمر قضية وهم يدافعون عن مجالسها. وكأنّ الإنسان إمّا أن يبكي أو لا يبكي. في حين أنّ الأمر كان يدور بين أن يبكي فيتحرك أو يبكي ولا يتحرك.
لا يمكن لمن يمتلك الحد الأدنى من الإنسانية ويسمع بهذا الـمُصاب، ويتعرف إلى بعض جوانب هذه الفاجعة، إلا أن يبكي. البكاء أمرٌ محسوم؛ لكن، يوجد مع البكاء شيءٌ آخر كان البكاء لأجله. فلم يصطنع هذا الإمام الشهيد مثل هذه الواقعة المفجعة إلا ليكون البكاء عليه موقفًا يزلزل عروش الطواغيت، ولتكون دموعنا الحرّة سيلًا يجرف أركان الظلم والفساد.. ولكي يتحقق هذا التحرك النوعي، كان لا بد من معرفة الحقائق الكبرى المرتبطة بهذه النهضة الكبرى.
أما الحقائق العاشورائية الكبرى فهي تلك الأمور التي تنبعث منها القيم الأساسية لبناء أي مجتمع قوي متطور مزدهر على أنقاض أنظمة التخلف والظلم والفساد.
ومما هو مؤسف محزن أن تسمع الكثير من المجالس واللطميات التي لا همّ لها سوى إثارة العبرة وتحريك المشاعر، ولا ترى فيها أي عرض لأي قيمة يمثلها هذا الإمام العظيم وثورته الكبرى.
صحيح أنّ البكاء على مصائب أهل البيت كان في بعض العصور كافيًا لإحداث تحولات نوعية، لكن الأمر لا يجري على هذا النحو دائمًا. بل يمكن القول إنّ هذا البكاء قد يصبح عاملًا للتثبيط والجمود والتخلف حين يُتخذ كذريعة لمواجهة حركة المصلحين الذين سلكوا نهج سيد الشهداء عليه السلام.
إنّ لتحريك المشاعر وبعث الأسى والحزن واللوعة في النفوس وما يصاحب ذلك من بكاء ودموع ونحيب وعويل دورًا مهمًّا وكبيرًا إن كان ممتزجًا بفهم القيم، ونابعًا من معرفة المبادئ التي ذُبحت في كربلاء.
إنّ حديث العشق في كربلاء، إنّما يصبح هاديًا للنفوس حين ينطلق من ذكر شمائل المعشوق وصفاته، ويُبرز أفعاله المجيدة وإنجازاته الفريدة.
كل حديث عن الحسين وكربلائه يترنم بالاسم دون المعنى، فهو مثل عبادة أسماء الله دون معانيها، مهما كانت هذه الأسماء مقدسًة وعظيمة.
وصحيح أنّ بعض المجالس يعتمد على المرتكزات الموجودة في أذهان المستمعين، فإذا ذُكر الاسم فتح معه ألف معنى، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون الغالب على مجالسنا ولطمياتنا، لأنّ هناك الكثير من المعاني التي ما زالت مجهولة عند أكثر الناس. وهنا تكمن المهارة بعد المعرفة.
المهارة التي تحتاج إليها مجالس الإحياء بكل فنونها هي القدرة على مراكمة المعاني في أذهان المستمعين حتى تصل إلى مستوى إحداث الانفجار المعنوي الشعوري، فلا يقدر بعدها أي شيء على كبتها ولو كان ما كان.
ما تحتاج إليه مجالسنا ولطمياتنا هو تعميق القيم العاشورائية وترسيخها في النفوس من خلال ربطها المنطقي بوقائع عاشوراء ومجرياتها، حتى نقدر على تطبيقها في واقع حياتنا. فعاشوراء ثورة اعتمدت خطة محكمة وقامت على مشروع عقلاني لإصلاح العالم، اشتمل على مجموعة من التحركات والمواقف الذكية الواعية، والتي يُفترض أن يتبناها كل من يريد أن يسير على نهج الحسين وجده المصطفى. ولأنّها تتطلب الكثير من الشجاعة والاندفاع والإيثار، فقد قيّض الله لها هذا المستوى من العواطف والمشاعر التي تضمن استمراريتها حتى تحقيق أهدافها.
لو تأملت فيما قلنا لعرفت بسهولة أنواع المجالس ومراتبها وأدركت مسؤولية كل من يؤلف ويكتب أو يُعدّ مجلسًا أو لطمية أو عزاء.
ــــــــــــــــــــــ
[1] مستدرك الوسائل، ج10، ص318.
[2] الكافي، ج1، ص404.
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد جعفر مرتضى
الشهيدة بنت الهدى
الشيخ محمد صنقور
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
الشيخ شفيق جرادي
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
الشيخ علي الجشي
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان