للقرآن الكريم عبارات متنوعة حول بداية ظهور الإنسان، يقول في أول آية بهذا الخصوص:
يقول في الآية 20 من سورة الروم: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَابٍ».
ويقول في الآية 7 من سورة السجدة: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِنْ طِينٍ».
ويقول في الآية 12 من سورة المؤمنون: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِينٍ».
ويقول في الآية 11 من سورة الصافات: «إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّنْ طِينٍ لَازِبٍ».
ويقول في الآية 26 من سورة الحجر: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ».
وجاء في الآية 14 من سورة الرحمن: «خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ».
«الصَّلْصَال»: في الأصل بمعنى لوي الصوت في الجسم اليابس، ولهذا سُمِّي الطين اليابس الذي يصدر منه صوت عند ارتطام جسم آخر به بالصلصال، وحين يُفخّر على النار يقال له «الفخار».
«الفخار»: مأخوذ من مادة «فخر» أي الفخور كثيراً، ولأن الأشخاص الفخورين أناس كثيرو الضجيج والكلام وفارغون، فقد أُطلق هذا الاسم على الكوز وكل فخار فارغ الجوف، بل أطلق على كل أنواع الفخار «1».
يُستفاد من مجموع الآيات أعلاه أنّ الإنسان كان تراباً في البداية، وقد امتزج هذا التراب بالماء واستحال إلى الطين، وقد أخذ هذا الطين بعد مضي فترة شكلَ الوحل ثم استخلصت من عصارته المادة الأصلية لآدم، ثم جُفِّفَتْ، وباجتيازها المراحل المهمة تكوّن آدم.
لكن في آيات أخرى من القرآن.. يعتبر خلقة الإنسان من نطفة مختلطة: «مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ». وفي آية يعتبرها أولًا من «عصارة الطين»، ثم من «نطفة في الرحم»: «مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ».
واضح أنّ المراد من هذه الآيات هو خلقة الإنسان في المراحل والأجيال اللاحقة، وبهذا فإنّ جدنا الأول مخلوق من التراب، وأولاده وذريته من نطفة أمشاج.
وثمّة احتمال في تفسير الآية أعلاه هو: بما أنّ المواد المكونة للنطفة مأخوذة جميعها من التراب (لأن غذاءنا إما من المواد الحيوانية أو النباتية ونعلم أن جميع هذه المواد نحصل عليها من التراب)، لهذا فلم يكن الإنسان الأول من التراب فحسب، بل إنّ جميع الناس في المراحل اللاحقة ينشأون من التراب أيضاً «2».
وعلى كل حال، فهذه حقّاً من العجائب الكبيرة في عالم الوجود وغرائب عالم الخلقة أن يولد -من مادة ميتة وبلا روح ولا قيمة لها كالتراب- موجود حي وعاقل وذو قدر وقيمة كالإنسان، فهذه من الآيات البينات لذلك الـمُبدِع الكبير، و«إنّ ذلك الخالق لجدير بالشكر والثناء لأنّه خلق من الماء والطين مثل هذا الشكل الجذاب».
وبشكل عام فإن ظهور الحياة من موجود ميت ما يزال من ألغاز عالَم الفكر والمعرفة، فضمن أيّ شروط وظروف يخرج موجود حي من موجود ميت كالتراب؟ يعتقد كل العلماء أنّ الكرة الأرضية حين انفصلت عن الشمس كانت كلها ناراً محترقة، ولم تكن عليها حياة مطلقاً، ثم بردت قليلاً قليلاً وهطلت عليها سيول الأمطار من الغازات المضغوطة الموجودة حولها، فتكونت البحار، بدون أن يكون فيها كائن حي، ثم ظهرت بوادر الحياة سواء النباتية أو الحيوانية وأخيراً خُلق الإنسان!
إنّنا سواء اعتقدنا بالخلق المستقل للإنسان (كما هو ظاهر الآيات القرآنية)، أو اعتبرنا الإنسان متكاملاً من أنواع الأحياء الأخرى (كما يقول أتباع داروين، ونظرية التكامل)، فمهما كان فإن جذور هذا الإنسان تعود إلى التراب، فهو منبثق ومخلوق منه، وإذا كان ظهور كائن حي أحادي الخلية ومجهري من التراب محيّراً لأفكار كل العلماء، فكيف بظهور الإنسان من التراب الميت الخالي من الروح؟
هنا يجب الاعتراف أننا بإزاء آية كبيرة من آيات الحق وعلامة محيّرة من عظمة الله، آية من العالم الصغير هي نموذج متكامل للعالم الكبير. يقول كاتب «سر خلق الإنسان» «غرسي موريسن» في معرض إشارته إلى بداية ظهور الحياة على الكرة الأرضية: «وقعت حادثة عجيبة في بداية ظهور الحياة على الكرة الأرضية كان لها أثر كبير على حياة الموجودات الأرضية، حيث أصبح لإحدى الخلايا خاصية عجيبة وهي أنّها وبواسطة ضوء الشمس بدأت تحلِّل وتجزِّئ بعض التراكيب الكيميائية وتوفر بهذا العمل المواد الغذائية لنفسها ولسائر الخلايا المشابهة، وقد تغذت الخلايا المنشطرة من إحدى هذه الخلايا البدائية على الأغذية التي وفرتها لهم أمهم وأوجدت جيل الحيوانات، في حين أنّ خلية أخرى بقيت على شكلها النباتي وكونت نباتات العالم، وهي اليوم تغذي كل الأحياء الأرضية».
ثم يضيف: «هل يمكن التصديق أنّه وحسب الصدفة كانت إحدى الخلايا منشأً لحياة الحيوانات وخلية أخرى كانت أصلًا ومصدراً للنباتات؟».
ووفق قول آخرين: إنّ العلماء يقسمون موجودات عالم المادة إلى نوعين: العضوية (وهي الموجودات القابلة للفساد كأنواع النباتات وأجسام الحيوانات)، والموجودات اللاعضوية (المعدنية) التي لا تقبل الفساد، ولهذا يقسمون الكيمياء إلى قسمين «الكيمياء العضوية» و«اللاعضوية».
تشكل المواد العضوية جميع أطعمة الإنسان تقريباً، وهي مأخوذة كلها من التراب، وحين تدخل جسم الإنسان تكوّن تراكيب كيميائية جديدة تناسب تغذية كل عضو من الأعضاء، وهذه نفس الحقيقة التي يبينها القرآن بعبارة: «إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ» أو «مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِينٍ» «3».
صحيح أنّ للإنسان علاوة على المادة الترابية روحاً إلهية، ولكن لا شك أنّ الروح تكون مظهراً للأعمال والأفعال المختلفة بالتنسيق مع الجسم، وعليه فإنّ هذه المادة الترابية تستطيع بالتنسيق مع الروح أن تقدم أنواع القابليات والأذواق والابتكارات والأعمال التي يحار فيها العقل.
مع أنّ الإنسان صار موضوعاً لعلوم مختلفة، وهنالك عالم خاص حول كل جانب من جوانبه يمارس دراساته وأبحاثه، إلّا أنّ الإنسان ما يزال موجوداً مجهولاً، ويلزم من الوقت سنين طويلة لكي يحل العلماء بجهودهم المتواصلة هذا اللغز الكبير في عالم الوجود وينيروا زواياه، وربّما لم يستطيعوا أبداً أن يقوموا بذلك!
يمكن لكل عضو من أعضاء جسم الإنسان أن يكون لوحده موضوعاً لحساب الاحتمالات: العين، الأذن، القلب، العروق، الجهاز التنفسي، الكلى، المعدة، الكبد، وأخيراً الجهاز العصبي المعقّد، وبعملية رياضية بسيطة يتضح أن أي عقل لا يوافق على أنّها خُلقت صدفة.
نعم، إنّه من أجل التوصل إلى بنية ونوع فعالية وفسلجة كل واحد من الأعضاء فقد درس آلاف العلماء والعقول المفكرة وكتبت مئات أو آلاف الكتب حولها.
هل يصدق أحد أنّه من أجل معرفة كل واحد من هذه الأعضاء تلزم كل هذه العلوم والعقول والذكاء والدراية، بينما لا يلزم صنعها علماً وعقلاً على الإطلاق؟! كيف يمكن أن يكون فهم أسلوب عمل إحدى المعامل متطلباً لسنين من المطالعة، بينما تكون صناعة هذا المعمل قد حصلت على يد العوامل غير العاقلة؟ أي عقل يصدق هذا؟!
هنا لا يعتبر ظهور الإنسان من المادة البسيطة (التراب) ومن سلالة من طين ومن الحمأ المسنون إحدى أعمال الخلق العظيمة والآيات الكبيرة على وجود الله فحسب، بل إنّ كل واحدة من خلايا الجسم بإمكانها أن تكون مرآة عاكسة لعظمة الله ووجوده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب ؛ ومجمع البحرين ؛ ولسان العرب .
(2) ورد في تفسير الميزان ، ج 16 ، ص 173 إشارة مقتضبة لهذا المعنى .
(3) مقتبس من إعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة ، ص 23 و 24 .
الشيخ محمد جواد مغنية
محمود حيدر
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد عبد الأعلى السبزواري
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها*
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (1)
انتظار المخلّص بين الحقيقة والخرافة
تلازم بين المشروبات المحلّاة صناعيًّا أو بالسّكّر وبين خطر الإصابة بمرض الكلى المزمن
أسرار الحبّ للشّومري في برّ سنابس
الميثاق الأخلاقي للأسرة، محاضرة لآل إبراهيم في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
الشيخ عبد الكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (9)
البسملة
لماذا لا يقبل الله الأعمال إلا بالولاية؟