الإمام الخامنئي "دام ظلّه"
نزلت على رسول الله هذه الآيات: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾. (المجادلة 1- 2)
في الآية استدلالٌ هام، يقطع من خلاله جذور هذه العادة من ذهن هذا الرجل، بتأمّلٍ وتدبّرٍ وبأسلوبٍ سليم. ووجه الاستدلال هو أنّ أُمّ كلّ شخصٍ هي تلك التي ولدته وجاءت به إلى الدنيا، أمّا تلك المرأة التي - والخطاب لمسلمي صدر الإسلام - تقولون لها "أَنتِ عليَّ كَظَهْر أُمّي" لا تصير أمَّ أحدكم ولا أثر لقولكم هذا، أيّ إنّه يُعْلَمُ في هذا القسم من القضيّة أنّ الظِّهار لا يستوجب حُرمةً أبديةً ولا يُفرّق بين المرأة وزوجها، كلُّ ما في الأمر أنّه عادةٌ جاهليّةٌ يجب أن تُقرَّ لها عقوبةٌ، لكي لا يَقْرَبها أحدٌ بعد ذلك، والعقوبة هي أنّ الرجل إذا ظاهر امرأته ثمّ أراد مُقارَبَتَها تجب عليه كفّارة تحرير رَقَبة.
وهذه إحدى الذرائع التي جعلها الإسلام لعتق أولئك العبيد. إذًا، عليكم أن تعتقوا رقبة، فإن لم تجدوا ما تعتقون به ولم يكن باستطاعتكم ذلك، فعليكم صيام ﴿شَهْرَينِ مُتَتابِعَين﴾ فهذا الصوم نفسه يُطهّر ويُنقّي من الخطأ الذي ارتكبتموه، ويُطهّر من رجس تلك الخطيئة، وإذا لم تتمكنوا من ذلك أيضًا فأطعموا ستين مسكينًا -لا ستين فقيرًا- أيّ أطعموهم وجبةَ طعام. والفرق بينهما هو أنّ الفقير هو من لا يملك مالًا، أمّا المسكين فهو العاجز الذي لا إمكانية لديه أساسًا لأن يمتلك قُوته. وهؤلاء المساكين الواجب إطعامهم لم تتمكّن الحكومة الإسلامية بعد من إدارة أمورهم، وليس بإمكانهم أن يُديروا شؤونهم بأنفسهم. فهذه أيضًا ذريعة لإطعام هؤلاء.
ثمّة نقاطٌ عدّةٌ هنا تسترعي الانتباه وتشكّل كلّ واحدةٍ منها مسألةً مهمّة.
﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ ثمّة حقيقةٌ هنا، وهي أنّه عندما يُقال إنّ الإسلام دينٌ فطريٌّ فأحد نماذج ذلك هو أنّ أحكام الإسلام يمكن فهمها، والاستدلال الوارد في الآية يمكن قبوله. يقول تعالى: ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ وهذا استدلالٌ بمقدور كلّ أحدٍ فهمه.
﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا﴾ الــمُنكر يعني ما هو مجهولٌ وغير مقبولٍ في الدين، وهذا الكلام "أنتِ عليّ كظهر أمي" هو كلامٌ باطل، لكنْ مع أنّه باطلٌ إلّا أنّه يخرج من أفواه الرجال، وأنتَ أيّها الرجل الذي جاءت امرأتك الآن لتشتكي، لا تخضع للباطل الذي قُلْتَه، لأن ثمّة سبيلًا للرجوع ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ فصحيحٌ أنّك أخطأت وهناك خطيئةٌ قد ارتُكِبَت، لكنّ الله تعالى قادرٌ على تغيير الأمر.
أمّا فيما خصّ ما يجب على هذا الرجل الذي ظاهر امرأته من تكليف، فالآية تبيّنه ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ والرَّقبة تعني العبد، لأنّهم كانوا في العصور القديمة جدًّا، قبل عصر الإسلام وعصر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يُقيّدون رِقاب الموالي، وكانوا يحصون العبيد بـ"الرقبة"، كما نحصي اليوم الناس بـ"الفرد".
﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ طبعًا وفقًا لفتوى العلماء فالإنسان غير ملزمٍ بصيام ستّين يومًا متتاليًا، بل يكفي أن يصوم الشهر الأول ويتبعه بيومٍ واحدٍ من الشهر التالي. وفيما يتعلّق بـ ﴿مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ فهذا الصيام يجب أن يسبق أيّ علاقةٍ بين الرجل والمرأة. ﴿فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ﴾ - وهنا تظهر مرونة الأحكام في الإسلام - ﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ والمسكين كما تقدّم، ليس الفقير ولا المتسوّل الذي يمدّ يده للناس، بل الإنسان العاجز أو الطاعن في السنّ أو المريض.
الأمر الظريف في هذا الشخص الذي ظاهَر زوجَه، هو أنّه قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنّه لا يقدر على شيءٍ من تلك الكفّارات، فحينما نزلت هذه الآيات، طلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من المرأة أن تستدعي زوجها لحلّ المشكلة، فجاء وأمره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتحرير رقبة، فقال الرجل: يا رسول الله! من أين لي تحرير رقبة! ليس بمقدوري ذلك. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إذًا صُمْ شهرين مُتتابعين! فأجاب الرجل: عيناي ضعيفتان، إذا لم آكل شيئًا لثلاثة أيّامٍ فسأُبتلى بالعمى. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: حسنًا إذًا، أطْعِمْ ستّين مسكينًا! فقال: حتّى هذا ليس باستطاعتي إلّا إذا ساعَدْتَني لأَتَمكّنَ من ذلك. ثمّ يبدو أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعد بمساعدته من بيت المال ليتمكّن من الاهتمام بأمر إطعام أولئك المساكين الستّين. القصّة هي أنّ الرواية تذكر أنّه كان شيخًا كبيرًا قام بالظِّهار، وكان عاجزًا كذلك عن أداء كفّارته.
﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ كان الزوجان مؤمِنَين، فمعنى قوله تعالى ﴿لِتُؤمِنُواْ﴾ هو أن تدخلوا حقيقةً في دائرة المسلمين، لأنّ للإيمان مرحلتين: إحداهما أن يُقيّد الإنسان اسمه في سِجِلّ حزب الله، أيّ إذا سُئِل ما دينك؟ فسيُجيب مثلًا: أنا مسلم. هذا ضربٌ من الإيمان، أمّا الضربُ الآخر، فهو أن يضع الإنسان قدمه حقيقةً على جادّة الإيمان، أيّ أن يعمل بجميع الأوامر الإلهية ويتجنّب المحرّمات الإلهية، ويُضحّي من أجل هذا الإيمان ويُؤْثِر على نفسه. هذا هو الإيمان الحقّ.
يقول تعالى إنّ الكفّارة التي جعلناها لكم هي بُغية أن تُخلّصوا أنفسكم حقًّا من تلك العادة الجاهلية، ولتطهّروا أذهانكم وأرواحكم من ذلك الرجس، فسواء أأعْتَقتُم رقبةً، أم صُمتم شهرين مُتتابعين، أم أطعمتُم ستّين مسكينًا، فستظلّ الذكرى خالدةً في أذهانكم أنّ هذه العادة هي عادةٌ جاهلية، وأنّكم من خلال الكفّارة تُخلّصون أنفسكم من تلك السُنّة، وتدخلون في نطاق المؤمنين بالله. ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ فلا تنسوا هذه الحدود، سواء فرضنا أنّ هذه الكفّارات هي حدود الله - وقد بُيّن في بعض الموارد الأخرى كذلك واجباتٌ مالية ٌعلى الإنسان، حيث قال تعالى ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾، طبعًا ثمّة موارد أخرى أيضًا غير مالية - أو فرضنا أنّ ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ هي الامتناع عن الظِّهار واعتباره عملًا خاطئًا فالأمر سيّان وكلاهما حدود الله.
والفعل الذي يستوجب كفّارةً هو عملٌ خاطئ، فلو كان حسنًا لما جعل الله له كفّارة. وعدم القيام به هو حدّ الله، أيّ إذا أردتم أن تكونوا مؤمنين وتكونوا مسلمين وتدخلوا ضمن دائرة المؤمنين، فعليكم مراعاة هذه الحدود، وإن لم تُراعوها وخلطتم العادات الجاهلية بالعادات الإسلامية، فليس هذا من الإسلام في شيء، وإذا خلطتم بين محصول الفكر الإلحادي ومحصول الفكر الإسلامي ومزجتموهما معًا، فلم يعد هذا إسلامًا. للإسلام حدودٌ فلا تتعدوا حدودَ الله ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
السيد عباس نور الدين
حيدر حب الله
الشيخ حسين الخشن
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عدنان الحاجي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
حسين حسن آل جامع
عبدالله طاهر المعيبد
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
آل غزوي يوقّع في القديح كتابه الأوّل (مَن قتل مشاعرك)
﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾
الفرق بين القلب والرّوح والنّفس وحقيقة عالم الذّرّ
هل يمكن بناء حضارة إسلامية جديدة؟
ما تأثير أصالة الوجود على الوحدة الحقيقية الحقّة للباري تعالى؟
العمل سرّ النجاح
مصادر تفسير القرآن الكريم (4)
(خيال الظّلّ) جديد الكاتب والنّاقد محمّد الحميدي
كيف يتأثر دماغ الطفل وحيد أسرته وسلوكه حين يصل إلى مرحلة الرشد
(ما تنكّر من عرش بلقيس)، الدّيوان الشّعريّ الثّالث لتهاني الصّبيح