د. جاسم العلوي ..
أرادَ ديكارت أنْ يتحصَّل على اليقين ليجعل منه القاعدة التي يبني عليها فلسفته. كان ذلك بعد أنْ سَاوَرَه الشكُّ في كلِّ شيء. تحرَّكتْ في ذهنه الأسئلة حول مَدَى اليقين فيما يعلمه الإنسان، فما الذي يَجْعَل ما نعلمه يتمتَّع بدرجة عالية من الصدق؟ وما هُو الأساس الذي لا يعتريه الشكُّ، ويتمتَّع بدرجة عالية من الصِّدق، ومنه يبني الإنسان فلسفته ومعرفته بالأشياء من حوله؟ واكتشفَ أنَّ مُمارسة الإنسان للتفكير أمرٌ لا شكَّ فيه ولا يزيد الإنسان الشك في أنَّه يُفكِّر إلا مزيدًا من اليقين والطمأنينة بحقيقة ممارسته للتفكير. ولمَّا كان التفكيرُ حقيقةً، فإنَّ التفكيرَ يحتاج لمُفكِّر، فتقرَّر لديه أنَّ وُجُوْده حقيقة وليست وهمًا (استدلَّ ديكارت على وُجوده بواسطة فكره، والحقيقة أنَّه تعرف على ذاته قبل أن يتعرَّف على فكره). وبعد أنْ تقدَّم هذه الخُطوة تَرَاجع خطوتيْن إلى الوراء، وتساءل حول ما إذا كَان وراء ما نعتقدُ أنَّه يقين وحقيقة لا شك فيه أنَّ قوةً تسيطر على أذهاننا، وتُضللنا وتُوهِمنا بذلك اليقين. فما الذي يَضْمن صوابنا في اليقين الذي يُشكِّل القاعدة التي يبني عليها الإنسان المعرفة. أراد ديكارت لهذه القاعدة أنْ تكُوْن متينة وصلبة، وليس في مقدور أحد أن يَصْنَع بها صدعًا؛ لأنَّ ذلك يعني أنَّ أفق المعرفة قد أقفل، وليس في مقدورنا أن نصل إلى الحقائق دون أن تكتسي لباسَ الشك. لكنَّه وَضَع ثقته في الله -الذي جعله الضامن لصحة الأسس اليقينية التي يعلمها الإنسان- فالله الخالق لا يُمكن أن يُضلِّلنا أو يَخْدَعنا، وقاده ذلك إلى أنَّ الله أوْدَع في فطرة الإنسان معارفَ يقينية أوَّلية، وبها أرادَ الله له أنْ يُمارس التفكير ليبني على ضَوْئه المعارف والعلوم. هُنا يتَّضح هذا البُعد الخفي في الفلسفة العقلية لديكارت، البُعد الميتافيزيقي الذي يختبئ وراء الرُّؤية الفلسفية لديكارت. لن نُناقش المشكلة المنطقية التي وقَّع فيها الكوجيتو الديكارتي لإثبات الوجود من خلال الفكر؛ فما يهمُّنا هو تلك الجذور اللاهوتية التي تختبئ داخل الأرض لتنمو شجرة المعرفة، وتعلو بكل ثبات من تلك الجذور الضاربة في أعماق الأرض. لقد صوَّر ديكارت نفسه في كتابه المبادئ الفلسفة بالشجرة التي تحملها الميتافيزيقا. وقد تجَّلى التأثيرُ الواضحُ للفلسفة الديكارتية بأساسها الميتافيزيقي في فلسفة تلامذته، وبالأخص مالبرانش وبسكال وليبنتز. وكان تأثيرُ فلسفة ديكارت على مالبرانش كبيراً؛ حيث اعتبر الأخير الله ليس الضامن للحقيقة فقط، بل هو أصل ومنبع الحقيقة. وأنَّ المعرفةَ مَصْدَرها الله وما دور النفس إلا الاستعداد لتلقي المعرفة من مصدرها (1). إذن؛ من الثابت عند ديكارت أنَّ هناك عالماً قائماً له حقيقة ساطعة كالشمس، ومن وحي أشعته نتزود نور المعرفة بممارسة التفكير.
تهدفُ هذه الورقة إلى بَيَان بعضٍ من نظرية العقل عند الفلاسفة، ووضعها في السياق الذي يخدم الفكرة المحورية في هذه الورقة، وهي أنَّ المعرفة تنمو وتتطوَّر من أصلها الميتافيزيقي. ويستند هذا الأصل أولاً إلى أنَّ الميتافيزيقا حقيقة ساطعة، ولايعني تواريها إلى ما وَرَاء الحس أنَّها غير موجودة، أو أنها خُرافة كما هو عُنوان كتاب الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود -رحمه الله- “خرافة الميتافيزيقا”، الذي اضطر بعد ذلك لتغيير عُنوانه بعد النقد الكبير الذي واجهه إلى “الموقف من الميتافيزيقا”. وما مُحاولات المدارس المادية المختلفة لنفي هذا البُعد عن الوجود المستتر عن حواسنا إلا دليل يُضاف إلى الأدلة المثبتة لحقيقة وجوده، كما سيتضح في طيَّات هذه الورقة.
تحتلُّ الميتافيزيقا في سُلَّم الوجود حيزاً وجوديًّا كبيراً؛ بحيث أننا نقارب الصَّواب إذا قلنا بأنَّ العالم المادي -الفيزيقا- يُشكِّل جزيرة صغيرة جدًّا في مُحيط عباب زاخر بفضاءاته المعرفية المتنوعة. ويستندُ هذا الأصل ثانياً إلى كَوْن العقل قوة من قوى النفس مُفارقه للجسم، بل إنَّها مرتبة من مراتب العقل كما يرى بعض الفلاسفة يكون مُفارق للنفس الإنسانية وليس جزءاً منها. وهنا؛ نكون أمام مُفارقة مركبة. وثالثًا: صحيح أنَّ المعرفة البشرية تبدأ من مُفردات الحس الخاصة، وتتحرك صعوداً نحو المعرفة العقلية الكلية المجردة، لكن ليس كل التصورات التي تتوافر لدى النفس هي تصوُّرات مُستمدة من العالم المحسوس؛ إذ ليس صحيحاً تماماً ما يُقال عن أنَّ دنيا الذهن هي انعكاس لدنيا الخارج. وإنَّما هُناك تصوُّرات تحصُل عليها النفس من خلال شهود النفس لذاتها وآثارها وأفعالها، وهذا الشهود يتمُّ بواسطة حضور ذات واقعية المعلوم وآثاره لدى النفس. ومن بَعْد هذا الشهود تكون القوة المدركة للإنسان صورًا لهذه الواقعية بعد سلب الآثار عنها، وفي هذه المرحلة يتمُّ استبدال المعرفة الحضورية بالمعرفة الحصولية. المعارف البشرية جميعها لابد أنْ تنتهي إلى المعارف التصديقية الأولية التي هي فرع لهذا الشهود.
مُفارقة العقل للمادة وتجرُّد المعرفة
ثمَّة ثنائية حقيقية بين العقل والمادة، وكل المحاولات التي سعت لردِّ الحياة العقلية للإنسان إلى ما هُو فيزيقي؛ لتغدو هذه الثنائية وهماً لم تصمد أمام النقد. هذه الثنائية تعني أنَّ العقل ينتمي إلى عالم محكوم بظواهر وقوانين تختلف عن عالم المادة. هذه الحقيقة -أي ثنائية العقل والمادة- يُؤكدِّها كَوْن العقل لا يخضع للمقاييس المادية؛ فليس للعقل وزن أو امتداد. الإنسانُ كما هو جلي يحملُ الاستعداد والقوَّة لكي يكون عالماً بالأشياء، وهذا الاستعداد هو استعداد العقل نفسه في المرحلة الأولى للإدراك لتقبُّل الصور الحسية. وهذه الصور الحسية غير مادية؛ لأنها غير مُقيَّدة بالزمان والمكان، وكل مُتحرِّر عن مُقيَّد الزمان والمكان هو مُجرَّد عن المادة. هذه المرتبة من التعقُّل التي يكون فيها العقل بالقوة يعني محض استعداد لتقبل الصور المجردَّة تسمى بـ”العقل الهيولاني”. وبعد أنْ تنطبع فيه هذه الصور يكون العقل في مرتبة الفعل. ليس العقل في هذه المرتبة غير المعقول، والمعقولات لها صُور مُجرَّدة، فإذنْ العقل علة لهذه الصور؛ إذ لا يُمكن أنْ تكون هذه الصور في النفس من ذاتها؛ لأنَّ النفس -كما قلنا- كانت فاقدة لها، وليست علتها أمرًا ماديًّا؛ لأنه لا يمكن للمادة أن تمنح الوجود لشيء؛ فهذا يقود للقول بأنَّ العقل الذي هو عِلَّة لهذه الصور المجردة لا بد أن يكون جوهراً مجرَّداً في ذاته وفي فعله. هذا البرهان على تجرُّد العقل ومُفارقته للمادة ذاتًا وفعلًا يقوم كما أوضحنا على أنه علة لصور حسية لا تنطبق عليها خواص المادة؛ من حيث أنَّها لا تقبل الانقسام، وخارجة عن ظرف الزمان والمكان. إنَّ تجرُّد العقل يقتضي تجرُّد المعرفة؛ وبالتالي تتجلى حقيقة هذا البُعد الميتافيزيقي للمعرفة.
يُمكن أنْ نهتدي إلى هذه المفارقة بالنظر إلى أنَّ حركة الفكر عند الإنسان -التعقُّل- من لحظة التصوُّر حتى إصدار الحكم تنحو مسارًا تتجلَّى فيها مجموعة من الملكات يحتاجها العقل مجتمعة في عملية التفكير، والتي بذاتها ليست من مُعطيات الحس وهي غير قابلة للقياس الكمي على النحو الذي نقيس به المواد. هذه الملكات هي ضرورات تكوينية للعقل حتى يتمكن من ممارسة نشاطه، وبدونها لا يُمكن له أنْ يدرك أي شيء؛ فالعقل يحتاج إلى ملكة الإرادة، وهي تعبير عن رغبة في اتخاذ موقف فكري من قضية ما، ولا سبيل لنفيها عن العقل لأنَّ ذات النفي هو تأكيد على وجودها. أنْ تُثبت أو تَنْفِي أو أنْ تتَّخذ مَوْقفًا فكريًّا من قضية ما، يحتاج العقل لملكة المقايسة والمفاضلة بين الأشياء والأفكار، وهي ما تُسمَّى “ملكة الاستنتاج”. كما أنَّ العقلَ حتى يقايس ويفاضل بين الأشياء والأفكار يحتاج إلى ملكة الحافظة، وهي التي تحفظ تجربة الإنسان الفكرية والحسية، ويتم استدعاء هذا المخزون المعرفي عند عملية الاستنتاج. والاستنتاج بالمقايسة يزيد من مخزون الحافظة، لكنها لا تكفي لنمو معارف الإنسان، وإنما يحتاج العقل لملكة الإدراك التي بها يقوم العقل بإصدار أحكامه. ولكي تتمكَّن ملكة الإرادة من الحكم تحتاج لملكة يتمكَّن العقل بها من استدعاء مخزون الحافظة، وهي ملكة الذاكرة. هذه الملكات العقلية الخمسة ضرورات الحياة العقلية. وهذه الملكات لا تعني أنَّ العقل مُركَّب على نحو المركب الكيميائي، بل إنَّ العقلَ بسيط لا يُمكن تجزئته أو تفكيكه، وما هذه الكثرة إلا كثرة في واحد (2). يُؤكد دافيد هيوم مثلًا -وهو الفيلسوف المادي- على حقيقة أنَّ العقل غير المادة؛ إذ لَيْس العقل من الظواهر المنطبعة في حواسنا، ولكنه اتخذ من ذلك دليلا على إنكار العقل. ما يهمُّنا هي النتيجة التي توصَّل إليها دايفيد هيوم، وهو الفيلسوف المادي الذي لا يَرَى الوجودَ إلا في دائرة المادة، أنَّ العقل يقع خارج هذه الدائرة. إذن؛ العقلُ ينتمي إلى فضاء وجودي مُفارِق للمادة.
وهنا.. يجدر بنا للأهمية أنْ نستبين هذه المفارقة بين العقل والجسم من أقوال كبار الفلاسفة، وسنخُص منهم أرسطو وابن رشد. وقبل أن نستعين بأقوالهما، علينا أن نوضِّح للقارئ الكريم أنَّنا عندما نشير هُنا إلى العقل، فإننا نقصد العقل في ذاته، وليس العقل باعتباره أداة للمعرفة، نعني بذلك العقل في بُعده الأنطولوجي. ونذكر مثلًا أنَّ أرسطو لم تكن له نظرية واضحة في العقل، كما يؤكد هو بنفسه على ذلك، إلا أنَّنا نَرَاه يتحدَّث عن العقل النظري باعتباره نوعًا من قوى النفس المفارقة للجسم. يقول أرسطو في الجزء الثاني من كتابه عن النفس “ولكن فيما يخص العقل والقوة النظرية ليس الأمر واضحًا بعد، غير أنَّه يبدو أنَّ ها هنا نوعًا من النفس مختلفاً، وأنَّها يُمكن أنْ تفارق الجسم كما يفترق الأزلي عن الفاسد” (3). يُبيِّن هذا النص أنَّ العقل النظري -كما يُظهر أو يرجح أرسطو- نوع من قوى النفس المفارقة للجسم. لكنَّ أرسطو في نص آخر يتحدَّث عن العقل الفعال، وهو أحد مراتب العقل، ويرى أنَّه رُبما يكون مفارقًا للنفس. وأقول هنا ربما لأنَّه وَقَع اختلافٌ بين شراح أرسطو فيما إذا كانت هذه المفارقة مُركَّبة أو لا. وأقصد بالمفارقة المركبة أنَّ هناك مستويين من المفارقة، مُفارقة العقل للجسم ومفارقة العقل للنفس. العقلُ الفعَّال هو أحد مراتب العقل التي يتحدَّث عنها الفلاسفة، وهو الذي يصير المعقولات التي بالقوة إلى معقولات بالفعل. وقد اختلف الفلاسفة فيما بينهم حول ما إذا كان العقل الفعال جزءاً من النفس الإنسانية، أم أنَّه خارج النفس الإنسانية وبالتالي يفارقها. الفلاسفة -وعلى رأسهم أرسطو- يفرِّقون بين العقل الذي هو مُجرَّد استعداد لإدراك مَعَاني الأشياء وصورها، ويسمى بالعقل الهيولاني وبين العقل الفعَّال الذي هو صورة لهذا العقل الهيولاني، وينتزع المعاني فعلًا. دَعُوْنا نستعرضُ نصَّ أرسطو الذي أحْدَث مَوْجَة من الجدل الفلسفي حول معنى مفارقة العقل الفعَّال. ذكر أرسطو في كتابه النفس ما نصه “وهذا العقل هو المفارق اللامنفعل غير الممتزج، من حيث أنَّه بالجوهر فعل؛ لأنَّ الفاعلَ دائماً أسمى من المنفعل، ولا نستطيع أن نقول إنَّ هذا العقل يعقل تارة ولا يعقل تارة أخرى، وعندما يفارق فقط يصبح مختلفًا عما كان بالجوهر، وعندئذ فقط يكون خالدًا وأزليًّا” (4). يتحدَّث النصُّ عن مرتبتين من مراتب العقل؛ هما: العقل المنفعل -الهيولاني- الذي هو مادة، وصورته عقل أسمى منه لامنفعل بل فاعل، وعندما يفارق يصبح خالدًا وأزليًّا.
ـــــــــــــــ
1- د. راوية عبدالمنعم عباس، “مالبرانش والفلسفة الإلهية”، دار النهضة العربية، ص:9-12.
2- عبدالجبار الوائلي، “وحدة الوجود العقل”، دار النضال، ص:11-16.
3- غيضان السيِّد علي، “الفلسفة الطبيعية والإلهية: النفس والعقل عند ابن باجة وابن رشد”، التنوير، ص:10.
4- المصدر السابق، ص:222.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان